صورة للكاتب صحبة والده- الصورة: من أرشيف مهند عبد العظيم

فراشة يوسف: كيف داعبت إيمان مرسال مخاوفي

منشور الثلاثاء 7 سبتمبر 2021

أسأل أمي عن فعل "اقتفت" هل يُكتب بهمزة القطع أم ألف الوصل؟ فتخبرني أن أضع واوًا قبل الكلمة لأميز بينهما، ثم أندهش قبل أن أقول لها إن اقتفت تحمل المعنى نفسه للفعلين تتبعت وسارت، فتعترض لأن اقتفت تعني أن الشخص سار من دون أن يعرف ممن يتتبعه أن هناك من يقتفي أثره.

ربما لو كان لي اختيار اقتفاء مسار شخص في العالم لاخترت إيمان مرسال، ربما لأنني شعرت لعدة لحظات أثناء قراءة رحلتها أنها أنا، وأن فارق السن بيننا تلاشى، وأن حياة شخص صارت انعكاسًا لحياة شخص آخر لا يعلم عنه شيئا لم يلتقيا، ربما ليس هناك جديد في شعور الأشخاص باتجاه أبطال ما يقرؤونه من روايات أنهم جزء من معاناتهم، أو حتى الشعور بأن بطل خيالي يرافقنا لعدة ساعات، شعرت بذلك باتجاه أبطال روايات كثيرة، لكنني عندما قرأت ديوان ممر معتم يصلح لتعلم الرقص، شعرت أنني للمرة الأولى أقف أمام نفسي.


اقرأ أيضًا: تسعة دروس مستقاة من كتابة إيمان مرسال

 


بعد وفاة أبي بعدة سنين كنت أرى في أحلامي، أنني أركض عاريًا، ظل ذلك الحلم يفزعني، ظل شبحًا لطفولتي ومراهقتي، حتى اصطدمت به في الواقع في حياة شخص آخر، شخص كتب عن مخاوفي قبل ميلادي بخمسة سنوات.

في فصل اليوميات في كيف تلتئم.. عن الأمومة وأشباحها، تسأل إيمان مرسال يوسف ابنها "لمَ لا تنام يا حبيبي"؟ فيقول "هناك فراشة تطير في رأسي وتمنعني من النومفي الفصل نفسه تقول إيمان "قررت أن أبقى مع يوسف هنا. عندي شعور وكأنني بقيت مع الوَحش، وَحش حياتي، طفولتي وطفولته معًا"، في الوقت الذي كانت تكتب فيه إيمان هذه اليوميات، كنت أنا في قارة أخرى، أنعم بطفولة هادئة بين أحضان أبي، لا فراشات تطير في عقلي في ذلك الوقت، بدأت الفراشات تطير في عقلي بعدها بسنتين، تحديدًا عندما فقدته.

في اليوميات أيضًا، تذكر إيمان مرسال جملة دريدا "كل موت هو موت أول"، وأنها فكرت في الجملة بشكل آخر أنه لا يوجد موت ثانِ بالنسبة إلى شخص ميت، لم أعد أفكر في موتي الشخصي وكل ما يرعبني الآن هو موت الآخرين، عند هذه القراءة رأيت أن ليس هناك فارق بين حلمين، حلم رؤية موت أمي وحلم عودة أبي، كلاهما مفزع، موت أمي يعني انفصالي عن الحياة، رؤية أبي عائد تعني أنني سأحلم بكلاهما ميت.

عن المخزنجي الذي لم يلتق الجزار

كتبت إيمان مرسال على مدونتها عام 2013، "سفر المخزنجي إلى كييف كان بداية شعور خفيّ بالفقد وأحياناً باليتم خلال السنتين المتبقيتين لي في الجامعة"، بعد سنة من تاريخ تلك التدوينة، بدأتُ أشعر بأمان يقابل ما فقدته هي، كان أستاذ الرياضيات في مرحلتي الثانوية محمد الجزار حنونًا، وربما الشخص الوحيد الذي شعرت أنه يعي تمامًا نفسيتي الهشة في ذلك الوقت، رغم أنني لم أخبره بأي من مخاوفي، لكنه أهداني شعورًا ربما لم أحس به بعد فقد أبي وبعده أيضًا، شعور الأمان بسبب فارق السن، أو ربما هذا ما تصفه إيمان مرسال في ممر معتم يصلح لتعلم الرقص بأنه شعورًا لن يفهمه إلا من أضطر إلى سرقة حنان الآخرين، وربما من هنا نشأت الحميمية بيني وبين محمد الجزار،هناك فارق بين الجزار والمخزنجي، من حيث التعليم، وأيضًا رد الفعل؛ حكت إيمان أنها غضبت ذات مرة عندما علمت أن أحد أصدقائها في التنظيم الشيوعي لا يعلم بنود الحزب الشيوعي، ليرد المخزنجي ولماذا مطالب بأن يعلمها.


اقرأ أيضًا: صورة لأمي

 


ربما لا يستطيع أستاذي محمد الجزار التفرقة بين الشيوعية والطائفة الشيعية، وربما يعلم الفرق، لكن المخزنجي والجزار لعبا الدور ذاته في ملئ شعورنا بالفقد، رغم اختلاف الثقافة والمعرفة، أو هكذا يخيل إليّ، ربما من هنا أدركت أن إيمان داعبت مخاوفي لأنني كنت أخاف أن أحكي عن هذا لأحد، حتى حكت هي وحررتني.

عودة إلى الفراشة

تقول أمي إن الاقتفاء هو تتبع شخص من دون علمه، وفي رحلة إيمان للأمومة وأشباحها، ارتبكتُ لحظات أثناء القراءة، بكيتُ، كأن أشباحي الخاصة التي لا يعلم عنها أحد، بدت واضحة وقريبة، وهناك شخص ما يكشفها، شخص لا يعرفني ولا أعرفه، ربما ما يربطنا فقط هو أننا عشنا شعور الفقد ذاته، أو الاكتئاب ذاته، ربما عند قراءة الكتاب، كانت المرة الأولى التي تتجرد فيها مخاوفي من القوالب التي يرسمها الناس للفقد، أو يرسمونها للموت، يقولون علينا أن نعيش، نستمر في الركض، وأن موت من نحب ليس النهاية، ربما ينقذنا الفقد في الصغر، من فقد أشد في الكبر، هكذا يقولون دائمًا، ربما من المرعب أن تشعر في لحظات أن هناك من يقتفى أثرك، أثر مخاوفك، يكشفها أمامك بلا هوادة. تقول إيمان في كيف تلتئم "هناك موت أول في حياة كل منا، كما يقول دريدا. يكون علينا أن نتدرب على الفقد بسببه، نستعيده في الذاكرة حتى لا يختفي، ننقذه من آخريته التي أصبحت عدمًا، ونتعلم كيف نحفر له مكانًا خاصًا داخل ذاكرتنا المغلقة كي يظل بداخلنا".

 أعي تمامًا هذا، أحيانًا كثيرة لا أذكر سوى فقد أبي كأنه الفقد الوحيد الذي مسني، أنقذه في حلمي حينًا وأبتعد عنه حينًا آخر، لكنه يظل الفقد الوحيد الذي أذكره عندما يدور في ذهني السبب وراء تلك الفراشات الكثيرة كلها التي تطير في عقلي، هل لو عاش أبي أكثر من عمره كنت أنجو؟ أم أن للموت الأول جلاله؟