صورة مفتوحة المصدر. تصميم: محمد حسن- بيكساباي

علماء مصر غاضبون.. وفقراء أيضًا

منشور الخميس 5 سبتمبر 2019

بالنسبة لباحث يعمل في إحدى كليات الأقاليم في مصر، فإن قضاء أغلب ساعات اليوم في المواصلات العامة لمتابعة أبحاثك أو التنقيب عن مصادر وعينات بحثية مختلف، هو بالأمر الطبيعي في ظل معاناة الباحثين وأعضاء السلك الأكاديمي في مصر من ظروف معيشية صعبة، عبّروا عنها من خلال حملة "علماء مصر غاضبون" التي انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أسبوعين.

ورغم عدم صدور ردّ فعل رسمي حتى اﻵن من الحكومة تجاه الحملة ومطَالبها، لكن عدد من المواقع الإلكترونية والصحف المقربة من الدولةوصفتها بأنها أحد الرسائل الإعلامية من جماعة الإخوان، التي تحاول صناعة الأزمات وتضخيمها، وتناولها بشكل يسيء لمصر.

وبعد أن ترددت أنباء عن القبض على اثنين من أساتذة الجامعات النشطين في حملة "علماء مصر غاضبون" والتحقيق معهما، وهما  عبد العزيز حسن، مدرّس بجامعة بنها، وعبد العظيم الجمال، مدرّس بجامعة قناة السويس، حاولت المنصّة التواصل مع اﻷخير، للاستفسار عن حقيقة الواقعة، إلا أنه أنهى المكالمة سريعًا رافضًا الحديث.

فيما قال عبد العزيز حسن،  على صفحته على فيسبوك إنه تلقى استدعاءً من جهاز الأمن الوطني للحديث بخصوص الحملة ومطالب الأساتذة،  وإنه حظي بمعاملة تليق بأستاذ جامعي شكلًا ومضمونًا، مشيرًا إلى أن وزارة التعليم العالي لم ترسل أي تقارير عن الحملة إلى الجهات الأمنية، وأن الأمر كله كان بغرض التعرف على هوية المشاركين في الحملة وتوجهاتهم.

 

عبد العزيز حسن يوضح سبب استدعاءه من جهاز الامن الوطني

رواتب زهيدة

يعاني محمود ر، مدرس مساعد بإحدى كليات التربية في مصر، من الإرهاق البدني والذهني والمادي معًا بسبب وظيفته الأكاديمية، فهو يسكن بمحافظة البحيرة بينما تقع جامعته في محافظة الدقهلية، ويحتاج إلى السفر للقاهرة كثيرًا لمتابعة أبحاثه، وكثيرًا ما يتصادف أن يسافر إلى المحافظات الثلاث في يوم واحد، وهو مجهود بدني وذهني شاق ومكلف ماديًا بشكل لا يتحمله دخل محمود المحدود، فراتب المدرس المساعد في الجامعات أو المراكز البحثية ٤ آلاف جنيه فقط (242 دولارًا) إذا تم صرفه بالكامل دون استقطاعات شهرية معتادة تتراوح بين ١٠٠ و ٢٠٠ جنيهًا.

يقول محمود إن استخدام العاملين في السلك الأكاديمي للمواصلات العامة الشعبية كقطارات الدرجة الثالثة وحافلات النقل العام، يؤثر على صورة الأستاذ أمام طلابه بشكل كبير، ويجعل الحدود تذوب وتختفي فيما يتعلق بالاحترام والتقدير من الطالب للمدرس، لأن المظهر الرسمي من السمات المميزة للمدرسين والأستاذة في أي جامعة بالعالم، لما لها من اعتبارات تشكِّل صورة ذهنية بها قدر كافٍ من الوقار.

مظهر أساتذة الجامعات

ويوضح كذلك أن عدم قدرة أساتذة الجامعة على شراء الملابس الرسمية التي تفوق قدراتهم المادية، يجعل الملابس "الكاجوال" هي البديل المتاح أمام محمود وأقرانه عند ممارسة مهنة التدريس في الجامعة، لعدة اعتبارات أولها سعرها المنخفض مقارنة بالسترات الرسمية، إلى جانب القدرة على ارتدائها في كل المواقف والأماكن، إلا إذا فَرضت الجامعة زيًا معينًا على أعضاء هيئة التدريس، وهنا تكون التكلفة مرتفعة على المدرس.

من وجهة نظر محمود، فعلى الجامعات أن توفر بدل مظهر للأساتذة والمدرّسين، على غرار مهن أخرى كالعاملين في سلك القضاء "نحن أيضًا نحمل رسالة هامة في المجتمع".

عند الحديث عن دخل الباحث وتكلفة البحث العلمي فأنت تحتاج إلى تنحية المصاريف الشخصية جانبًا، حتى لا تشعر باليأس وتقرر الاستسلام وترك المجال البحثي بشكل كامل، كما يقول محمود الذي يقدّر متوسط تكلفة إجراء بحث لدرجة الماجستير أو الدكتوراه بالنسبة للتخصصات النظرية بقرابة ٤٠ ألف جنيه في العام الواحد (2500 دولار تقريبًا) بين تحضير عينات وانتقالات وترجمة واستعانة بمراجع، وغيرها من الأمور التي يحتاجها الباحث لإتمام بحثه، وهي تكلفة تقترب من الدخل السنوي للمعيد والمدرس المساعد في الجامعات والمراكز البحثية في مصر.

أعباء أخرى

تضاف إلى تكلفة الأبحاث التي يتحملها الباحث بشكل كامل، تكلفة أخرى ترتبط بطبيعة المجتمع المصري وخاصة الريف الذي يخرج منه نسبة كبيرة من الباحثين وأساتذة الجامعات، وهي تنظيم حفل للأهل واﻷصدقاء عند مناقشة الباحث لرسائله العلمية، وهي تكلفة تقترب من تكلفة تنظيم حفل زفاف متوسط في مصر، وتصل إلى 20 ألف جنيه (1250 دولارًا تقريبًا). وهو مبلغ يجب أن تدبره من أي مصدر، لأن في الريف يعد هذا التزام اجتماعي لا يمكنك تفويته.

النشر الدولي هو الآخر تكلفة ضخمة تضاف إلى الأعباء التي يتحملها الباحث ويلزم بها في الكليات العملية، وتصل تكلفة النشر الدولي إلى ٣٠ ألف جنيه يتحملها الباحث بالكامل.

ويقتضي العُرف في الجامعات والمراكز البحثية المصرية طباعة الأبحاث والرسائل وتوزيعها على مكتبات الجامعات المختلفة، ويحتاج الباحث إلى طباعة 20 نسخة في المتوسط بشروط معينة تحددها الجامعة، بحيث تكون الطباعة بخامات فاخرة لوضعها في مكتبة الجامعة.

ويتحمل الباحث هذه التكلفة بالكامل، التي تصل إلى 300 جنيه للنسخة الواحدة، وتقترب في إجماليها من 6 آلاف جنيه (400 دولار تقريبًا) والمفارقة أن الجامعة تمنح الباحث 350 جنيهًا (25 دولارًا) كدعم لطباعة الرسالة، أي ما يمثل 12% من تكلفة الطباعة فقط.

قانون من نصف قرن

ترتبط رواتب العاملين في السلك الأكاديمي والبحثي في مصر بقانون تنظيم الجامعات الصادر عام 1972، والذي لم يشهد حتى الآن تعديلًا على لائحته التنفيذية، فيما يخص الأجور والبدلات الممنوحة للعاملين في هذا المجال، وتطالب الحملة برفع أجور العاملين في المجال الأكاديمي، بعد أن وصلت أحوالهم لدرجة تردّي تحول دون أدائهم مهامهم الرئيسية في البحث العلمي والتدريس بشكل جيد.

الدكتور وليد ف. أحد الناشطين في حملة "علماء مصر غاضبون" ويعمل مدرسًا بكلية الزراعة باحدى جامعات صعيد مصر، وهو في الأصل من المقيمين في محافظة الإسكندرية، وتبعد المحافظتان مسافة 680 كيلو مترًا يقطعها أسبوعيًا، ويضطر للسكن والحياة بشكل كامل في الوادي الجديد، مقابل راتب لا يزيد عن 5300 جنيه شهريًا أي في حدود 330 دولارًا بعد إضافة البدلات والحوافز، التي ترفع من الراتب الأساسي الذي قد لا يزيد عن 1000 جنيه.

 

بيان بمفردات راتب مدرس بإحدى الجامعات المصرية، يظهر فيه أجره الأساسي 932 جنيهًا 

يقول وليد إن الغرض من الحملة رفع المستوى الاجتماعي والمادي للعاملين في المجال الأكاديمي، فالوضع الحالي وصل بمعيدين حديثي التعيين في الجامعات للعمل في مهن مختلفة أقل مكانة من مهنة التدريس الجامعي والعمل البحثي، بسبب الرواتب الضعيفة، فعندما يحصل المعيد على 2300 جنيه كراتب شهري أو ما يعادل 145 دولارًا، فمن غير المفترض أن يكفي احتياجاته الشخصية إلى جانب الإنفاق على أبحاثه العلمية، فنحن نتحدث عن عملية تعجيز وإحباط كاملة تدفع علماء مصر إلى هجرة العمل الأكاديمي والبحثي.

وفقًا لوليد فإن ترقيات المدرسين والأساتذة لا تعود بمردود مادي جيد، فقط عائد علمي ومعنوي، لأن حافز الانتقال من درجة مدرس إلى أستاذ مساعد قيمته جنيه واحد، وفقا للوائح القديمة التي لم تتغير منذ عام 1972.

ربع مليون طالب دراسات عليا

تنقسم الدرجات العلمية في الجامعات والمراكز البحثية بمصر إلى 5 درجات تبدأ بمعيد ثم مدرس مساعد فمدرس وصولا إلى أستاذ مساعد وختامًا بدرجة الأستاذية، وهي أعلى درجة علمية أكاديمية في مصر ويصل راتب الأستاذ إلى 8 آلاف جنيه ما يوازي قرابة 500 دولار فقط.

قدّر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، التابع لمجلس الوزراء في مصر، عدد الطلاب المقيّدين في مراحل الدراسات العليا بالجامعات المصرية بـ249 ألف طالب، في إحصاء أعلنه عام 2017، ومن ضمن هذا العدد يوجد 158 ألف طالب حاصل على درجات الدبلومة والماجستير والدكتوراه، وأصحاب الدرجتين الأخيرتين من أصحاب الحق في الالتحاق بوظائف أكاديمية بالجامعات.

بينما أعلنت وزارة التعليم العالي أن عدد أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم، من معيدين ومدرسين مساعدين في الجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة، ارتفع خلال 3 سنوات بين أعوام 2014 إلى 2017 من 106 آلاف و577 عضو ًا إلى 122 ألفًا و577 عضوًا بواقع 16 ألف عضو بنسبة زيادة 15%.

 

فيما كشف الدكتور وائل كامل، الأستاذ بجامعة حلوان، عبر منشور على حسابه بموقع فيسبوك، المبالغ التي يتقاضاها العاملون في مجال التدريس الجامعي، من رواتب وبدلات ومعاشات، وأشار في منشوره إلى أن علاوة المعيد السنوية تقدر بجنيهين و الأستاذ الجامعي الذي وصل عمره 59 سنة إلى ستة جنيهات و25 قرشًا، وعلاوة الزواج جنيهًا واحدًا و75 قرشًا.

وفاة باحث

في يناير الماضي شهد مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة المصرية، وفاة الدكتور أحمد إبراهيم، الباحث في معهد بحوث الأراضي والمياه، وسط قلق من طريقة وفاته الغامضة التي فسّرها زملاؤه بأنها نتيجة اختراق بكتيريا كان يعمل على عزلها معمليًا لجهازه التنفسي، وإصابته بأعراض إعياء شديدة، وانهيار في قدرة جهازه المناعي أدت لوفاته في النهاية.

أحد زملاء الدكتور أحمد إبراهيم تحدث إلينا عن ملابسات وفاة صديقه، رافضًا ذكر اسمه لاعتبارات تتعلق بإمكانية إحالته للتحقيق من إدارة المركز، فقال إن إبراهيم كان يعمل على عزل بكتيريا حيوية من التربة تستخدم كأحد الأعداء الحيوية للأفات التي تصيب النباتات، وإن تجهيزات الأمان الحيوي المتواضعة داخل معامل المركز سمحت لتلك البكتيريا باختراق الجهاز التنفسي ﻹبراهيم والتمكن من جهازه المناعي، الذي انهار في ظرف شهور قليلة، ليتوفى بعد عام تاركًا خلفه طفلين وزوجة ومعاش لا يزيد عن 1000 جنيه.

الأعمار بيد الله

من جهته نفى الدكتور محمد سليمان، رئيس مركز البحوث الزراعية، أن تكون وفاة الدكتور أحمد إبراهيم بسبب عدوى بكتيرية وفقدانه المناعة خلال عمله.

وقال في تصريح للدستور، إن البكتيريا لا تُفقد جهاز المناعة عمله، ولا تصيب بعدوى مميتة، وإن كل الباحثين يتعاملون مع البكتيريا، كما أن الأعمار بيد الله.

 

الدكتور أحمد إبراهيم- الباحث في مركز البحوث الزراعية

البليلة كبديل

بتصفح جروب فيسبوك الخاص بحملة #علماء_مصر_غاضبون يمكنك أن تقرأ عددًا من القصص التي تعبر عن تردي حالة الأكاديميين والباحثين في مصر، ولفتت حالة منتصر حسن المعيد بإحدى الجامعات صباحًا يمارِس مهامه البحثية، وفي المساء يضطر للعمل كفني تركيب لتجهيزات متاجر التجزئة، بسبب تردي دخله من البحث العلمي وحاجته إلى الإنفاق على احتياجاته الشخصية وعلى عمله البحثي، الذي يتطلب نفقات ليست بالقليلة.

 

منشور الباحث منتصر حسن، الذي اضطر للعمل بمهنة إضافية لتوفير تكاليف الحياة والأبحاث

نموذج منتصر ظهر من قبل في شخص فوزي النبراوي، المعيد في إحدى المعاهد الإدارية، الذي لجأ لبيع البليلة بعد أوقات العمل الرسمية في المعهد الذي يمارس التدريس فيه، حيث اهتمت وسائل الإعلام بحالة فوزي الذي كان يظهر واقفًا أمام عربته الصغيرة لبيع البليلة، مرتديًا ملابس ذات طابع رسمي.

وظهر النبراوي في عدد من وسائل الإعلام المصرية والأجنبية وبينما اعتبره البعض نموذجًا لتحفيز الشباب على العمل الحر دون النظر إلى الدرجات العلمية، وآخرون وجدوه مثالًا على تردي أوضاع الأكاديميين والباحثين المصريين.

اﻹنفاق على البحث العلمي

ورغم مضاعفة وزارة التعليم العالي الإنفاق على البحث العلمي من 11.88 مليار جنيه إلى 17.56 مليار جنيه بمعدل زيادة قدرها 47% خلال عام 2018، إلا أن ذلك الرقم مازال أقل من المنصوص عليه في الدستور، إذ تنص المادة 23  من الدستور على ألا تقل مخصصات البحث العلمي عن 1% من الناتج القومي الإجمالى تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية.

وﻷن الناتج المحلي لمصر بلغ 250 مليارًا و895 مليون دولار في 2018، فالحد اﻷدنى للإنفاق على البحث العلمي يجب أن يكون 2.58 مليار دولار أو ما يعادل 42 مليار جنيه.

وتقول الوزارة، عبر موقعها اﻹلكتروني، إن عدد الأبحاث المنشورة دوليًّا للمصريين ارتفع من 14 ألفًا و564 إلى 18 ألفًا و876 بزيادة قدرها 29%، حيث تحتل مصر حاليًا المرتبة 36 عالميًّا في مجال الأبحاث العلمية المنشورة ضمن 231 دولة على مستوى العالم، ، وبالطبع هذه التكاليف يتحملها الباحث بشكل كامل.

وزادت أعداد الباحثين في القطاعات المختلفة من 110 آلاف و70 باحثًا إلى 127 ألفًا و70 باحثًا، بمعدل زيادة قدرها 15.3%.

العلماء في السينما

وسلطّت السينما المصرية الضوء في أكثر من فيلم على الأوضاع المتردية لأساتذة الجامعات والباحثين المصريين، منها فيلم فبراير الأسود إنتاج عام 2013 من تأليف وإخراج محمد أمين وبطولة الفنان الراحل خالد صالح، الذي أظهر كرب عائلة تضم عددًا من أساتذة الجامعات، يدرِكون بعد سنوات من العمل في المجال الأكاديمي والبحثي تدنى مكانتهم المجتمعية على عكس قيمة نظرائهم في دول أخرى، ويسعون خلال أحداث الفيلم إلى التقرب من فئات اجتماعية أخرى تشغل وظائف هامة في الدولة، كالقضاة وضباط الأجهزة الأمنية السيادية.

 

لقطة من فيلم فبراير الأسود

كما ظهرت المكانة المتردية للأستاذ الجامعي في فيلم انتبهوا أيها السادة إنتاج 1980، وبطولة محمود ياسين وحسين فهمي، وتدور أحداثه حول أستاذ جامعي يضطر للانفصال عن خطيبته بسبب تدهور ظروفه المادية، نتيجة الراتب المنخفض الذي يتقاضاه، بينما ينجح جامع قمامة معروف في منطقة سكن الأستاذ الجامعي في الفوز بخطيبة الأخير السابقة، بعد أن تمكن من جمع ثروة كبيرة من التجارة في المخلفات.

يحاول المخرج محمد عبد العزيز خلال هذا الفيلم إظهار اتساع الفجوة خلال فترة السبعينيات المعروفة بفترة الانفتاح الاقتصادي في مصر بين الطبقة الوسطى والمتعلمين الذين فقدوا القدرة على الاستمرار في مكانتهم الاجتماعية والمادية، مقابل صعود سريع للأميين وأصحاب الحِرَف.