مشهد من فيلمTitane. الصورة من imdb

سينما جوليا دكورنو: مجازات وحشية الجسد الأنثوي

منشور الخميس 16 ديسمبر 2021

 

قادني فيلمها الأخير Titane الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان 2021 إلى البحث عنها؛ جوليا دكورنو، مخرجة فرنسية وكاتبة سيناريو في السابعة والثلاثين من عمرها، درست السينما في كلية الفنون بباريس وحصلت على العديد من الجوائز العالمية. لم تكن المعلومات التي تزدحم بها صفحات جوجل تهمني كثيرًا لأتعرف عليها، كان Titane ومعه فيلمها الطويل الأول Raw هما البوابتين اللتين قادتاني للدخول إلى عقل دكورنو، والتعرف عن قرب على تلك المخرجة المولعة بالجسد الإنساني.

لا تحصر جوليا دكورنو أفلامها في نوع سينمائي واحد، لكنها تؤكد أن أفلامها تنمي بالأساس إلى سينما رعب الجسد، وهو نوع سينمائي دائمًا ما يسأل الجمهور والصحافة "لماذا لا تقدمه المخرجات النساء؟" فتقول جوليا "المشكلة ليست أنهن نساء، هن فقط لم يجربن الأمر".

تُبنَى أفلام "رعب الجسد" على الرعب النابع من مخاوفنا بشأن ضعفنا الجسدي، فعندما يشهد الجسد تحولات غرائبية (زومبي، مسخ، اصابته بجرثومة غريبة) يتحول إلى مصدر خطر، ويذكرنا بأن أجسادنا هي هويتنا، وأنها أيضًا هشة، سهلة الاختراق، قابلة للتشوّه، ومن هنا ينبع الرعب الذي يداعب مصدر الألم الكامن بداخلنا. لكنه من جهة أخرى يعيد اكتشاف علاقتنا باجسادنا، وهي المساحة التي تفتش فيها جوليا دكورنو عن قصص أفلامها.

تنتمي أفلام دكورنو إلى سينما المؤلف، فهي تملك مشروعًا سينمائيًا مترابطًا، عقد تترابط حلقاته مع كل عمل جديد لها منذ فيلمها القصير الأول الذي يحكي قصة المراهقة جوستين التي تخترق جسدها جرثومة معدة تغير جسدها بينما نراقبها وهي تتحول إلى فتى. اختارت دكورنو أن تناقش كل قضاياها لا بالحوار أو الخَطابَة المباشرة، بل بالمجاز، بالجسد الذي تتوارى بداخله كل المعاني والأسئلة الكبرى التي تدور في فلكها دكورنو. قضيتها الرئيسة ليست الرعب، بل الجسد واستقلاليته.

يحكي فيلم Raw أو "نيء" قصة فتاة شابة في سنتها الجامعية الأولى بكلية الطب البيطري، ثم نتابع كيف تحولت من فتاة نباتية إلى آكلة لحوم بشر. وفي فيلمها الأخير Titane نتابع رحلة هروب راقصة تعرٍّ من حياتها بعد أن قتلت مجموعة من الشباب، هروب إلى حياة جديدة تنتحل فيها شخصية وجسد شاب مجهول، بينما تحمل في رحمها جنينًا هو نتاج ممارسة جنسية لها مع سيارتها.

كل القصص التي تكتبها دكورنو تبدأ من الجسد، تمر وتنضج بداخله، تفضح التشوهات التي تجردنا من صورة أجسادنا الجميلة لتضعنا أمام أجساد أكثر بشاعة وشراسة وبالتبعية غير مقبولة، لتجد نفسك في النهاية أمام فيلم لا يريد أن يرعبك بل يطرح عليك أسئلة ماكرة، تختفي بين السطور، أسئلة عن الجسد الذي هو هويتنا، فتفكر: ما معنى الإنسانية؟ ما الذي يجعلك إنسانيًا؟ وما الذي تخفيه هذه الأجساد المركبة؟

هوية الجسد وغريزته

في كتابها نساء يركضن مع الذئاب تناقش كلاريسا بنكولا قضية هامة عن إعادة تعزيز علاقة المرأة بغريزتها الأولى، بقدراتها كامرأة وحشية، وهي لا تعني بالوحشية فقدان السيطرة بل تقصد قدرة المرأة على التوحد الداخلي مع ذاتها ووضع حدود خارجية قوية لها. عبر فصول الكتاب تخوض كلاريسا رحلة تدفع فيها النساء ليعثرن من جديد على انتماءاتهن وأرضهن واعادة اكتشاف غريزتهن الأولى وصولاً إلى توطيد علاقتهن بأجسادهن فتخاطب كلاريسا القارئات قائلة "دعينا ننطلق، نتذكر أنفسنا في الماضي، في روح المرأة الوحشية، دعينا نغني كي ينمو لحمها على عظامنا مرة أخرى؛ انزعي عنكِ أي رداء زائف ألبسونا إياه وتدثري بالرداء الحقيقي للحدس الغريزي والمعرفة".

بهذه الكلمات اختتمت كلاريسا مقدمة كتابها، وهو المفتاح الذي ساعدني في فتح أبواب المخرجة جوليا دكورنو التي لا تقدم سينما عن آكلات لحوم بشر ومسوخ يعاشرن السيارات، بل تحمل فلسفة تتوارى خلف المجاز الذي يغلف هذه الممارسات الغريبة.

 

لقطة من فيلم Titane

في Titane نرى رحلة التحول التي تخوضها البطلة ألكسيا منذ طفولتها وحتى شبابها، هذه المرأة غريبة، حادة الطبع والمزاج، تقتل كل من يبدي لها مشاعر حب، لكن ما السر خلف هذه القسوة؟ نراها في أول مشهد في الفيلم طفلة عنيدة علاقتها بوالدها غير مفهومة، ثمة عداء بينهما، وكراهية واضحة نحو الأب غير المتصالح مع ابنته الأقرب في تصرفاتها وطريقتها إلى الشبه بالصبية. تتعرض الفتاة إلى حادث سيارة مع أبيها فيزرع بداخل رأسها قطعة من التيتانيوم كدعامة في جمجمتها، نرى عاطفة الأم تجاهها بينما نرى برود وكراهية من الأب. وكأن قطعة التيتانيوم، هذا المعدن الذكوري، منحها غريزة ذكورية.

ندرك مدى تأثرها بكراهية أبيها لها عندما تخفي جسدها وتنتحل شخصية شاب تائه عن أسرته منذ سنوات طويلة فيصدق أبو الولد الكذبة ويتشبث بالوهم، يقنع نفسه أن هذا الشاب غريب الأطوار هو ابنه، لكنه يشعر أن ثمة أمر غريب بهذا الرجل. في أحد المشاهد يرى الأب جسد إلكسيا الأنثوي، يرى الحقيقة بعينه ثم يخبرها بنبرة حنونة "لا يهمني من تكونين. انتِ ابني مهما كنتِ". في هذا المشهد بالتحديد تتجلى الفكرة الكبرى المستترة خلف جسدها، فكرة التقبل، إنها رجل في جسد امرأة، جسد غريب، هجين غير مقبول، لم يقبله أبوها البيولوجي بينما يقبلها الآن هذا الغريب، يحترم هويتها ويغدقها بالمحبة، وهذا هو المجاز المستتر في رحلة ألكسيا خلال الفيلم. إنها تفتش عن استقلال جسدها الذكوري وقبوله.

لكن ماذا عن مضاجعة السيارة؟ وعن قطعة التيتانيوم المزروعة برأسها؟

 

أجات روسيل وفنسنت يندون في فيلم Titane

إنها ببساطة مجازات إضافية لكونها امرأة مختلفة وغير مقبولة، اختارت جوليا دكورنو ألا تقدم قصة رجل في جسد امرأة فتكون مجرد امرأة شاذة وغريبة، بل طارت بخيالها لما هو أبعد وأكثر تعقيدًا، وقدمت نموذج لجسد امرأة غريبة حقًا، في عقلها شريحة تيتانيوم، تحب السيارات وتضاجعها ويثيرها جنسيًا كل ما هو معدني. أليس الأمر غريبًا في نظر المحيطين كامرأة جسدها يشبه الرجال ولاتحب سوى النساء؟

في الجزء الثاني من الفيلم الذي يتتبع قصة هروبها بالكامل نشاهد تغيرًا كبيرًا في جسد إلكسيا، تحلق شعرها وحاجبيها وتكسر أنفها وتلف جسدها برباط كي تخفي أعضائها الأنثوية، وعندما تتعرى أمام المرآة نرى حجم الجنين يكبر في رحمها، ونرى مشهدًا متكررًا لإلكسيا وهي تحك جسدها بقوة كأنها تريد أن تنزع جلدها عنها كما تصف كلاريسا في كتاب نساء يركضن مع الذئاب. هذا التغيّر الكامل في شكل الجسد يقف في مقابل مفردة التحرر الذي يحدث لإلكسيا، تَغيّر جسدها هو تَغيّر هويتها بالكامل، وتحول أخر في نظرتنا نحن لألكسيا من النظرة الذكورية لجسدها الراقص فوق السيارات، في بداية الفيلم، إلى تحولات جسدها الذي طمست هويته وأصبحت ذكورية جدًا، فأصبحت نظرة المشاهد لها تتغير بالتدريج إلى نظرة محايدة لهذا الجسد المتغير.

حتى التغير يطرأ على الديكور والألوان بين قوة أضواء النيون المزيفة في عالم ألكسيا راقصة التعري من جهة واللون الأزرق في حياة ألكسيا الجديدة في جسد الرجل من جهة ثانية.

واللافت أن تلك الفتاة القاتلة القاسية في بداية الفيلم تتحول بالتدريج إلى إنسان رحيم، وكلما تغير شكلها في عالمها الجديد أكثر كلما زادت إنسانيتها، وألكسيا التي مارست القتل في بداية الفيلم أصبحت في النهاية تنقذ الناس من الموت.

وهو ما يعيدنا إلى سؤال جوليا دكورنو الدائم عن الإنسانية، ما الذي يجعلك إنسانًا حقًا؟

يجيب جسد ألكسيا عن سؤال الإنسانية ذلك بأنها تخلت تمامًا عن إنسانيتها في الأوقات التي لم تستطيع تعريف نفسها جسديًا، لذلك فهي أكثر إنسانية عندما أصبحت هذا الشاب الغامض، عندما وجدت هويتها في جسد الرجل.

يضعنا المشهد الختامي للفيلم أمام لحظة الولادة القاسية، إليكسيا تضع مولودها، هذا المولود الخارج من قشرة الرحم الحديدية، إنه أشبه بالولادة الجديدة لإلكسيا نفسها وإعلان موت جسد إلكسيا القديم. إنها رحلة تحول جسد يكتشف هويته في مجتمع لا يقبله غرابته، جسد بدأ بشريحة التيتانيوم الحديدية وانتهى بإليكسيا في جسد إنساني جديد.

من الرقة إلى الوحشية

في فيلمها الطويل الأول Raw نتتبع رحلة مختلفة لجوستين، الفتاة التي تبدأ دراستها الجامعية في كلية الطب البيطري، وقبل دخولها المدينة الجامعية نرى لمحة من حياتها مع أمها وأبيها، نرى كم هي فتاة مهذبة ومطيعة، ومسالمة أيضًا، وفي أول يوم لها في الجامعة تصطدم جوستين بعالم الجامعة القاسي العنيف، جامعة جدرانها قاتمة ومصمتة وتوحي بوحشية مبطنة، أما طلبة الصف الجامعي الأخير فيستقبلون الطلبة الجدد بتهريج عنيف ووحشي، يشيعون الفوضى في غرف نومهم، يلقون عليهم مادة حمراء لزجهم تشوّه ردائهم الطبي الأبيض، ويجبرون على أكل كبد الأرنب نيء، ترفض جوستين أكله، لكنها تجبر من أختها الكبرى على أكل اللحم، لكنها لم تكن تعرف أن حياتها بالكامل سوف تتغير لأنها أكلت هذا اللحم النيء.

 

من فيلم Raw

تتعجب جوليا دكورنو من الصحفيين والنقاد الذين يحصرون فيلمها في أنه يقدم رسالة للعالم عن بشاعة وشراسة أكل اللحوم وأن النباتية هي الأكل طهرًا ونقاءً، باعتبار أن جوستين تحولت إلى آكلة لحوم بشر لأنها تخلت عن نباتيتها. الأمر أبعد تمامًا من هذه النظرة السطحية، بل إنه سلسلة تكتمل مع أفكار  دكورنو وعلاقتها بالأجساد، وفي Raw تسلط الكاميرا على جسد جوستين الذي ينزع عنه جلده، يكتشف هويته بعد أن دخله هذا اللحم النيء.

تطرأ تغيرات على جسد جوستين؛ طفح جلدي، حكة مستمرة مثل الحكة التي أصابت ألكسيا في فيلم Titane، إنها تغيرات الجسد التي تعني أيضًا تغير هويته، لكن يبقى السؤال أية هوية بالتحديد؟

لا توجد إجابة حاسمة من داخل الفيلم، الأمر كله يدور في فلك الفكرة الكبرى؛ رغبة الجسد في الاستقلال والتحرر من الأفكار القديمة التي غرزها فيها أهلها، وهي الآن في رحلة تحرر تقتدي فيها بأختها الكبرى التي تحررت بالفعل، بينما جوستين تجاهد بين محاولة استيعاب عالم الجامعة الجديد من جهة وجوسيتن القديمة التي لم تخرج بعد من كنف فقاعة أهلها من جهة ثانية.

في نهاية الفيلم نكتشف أن والد جوستين يعرف أن ابنته مثل أختها آكلة لحوم بشر، لذلك كان القرار أن تكون تربيتهم لجوستين قاسية، وأجبروها أن تكون نباتية بحجة حساسيتها تجاه اللحوم، وضعوها داخل بوتقة مغلقة تدربها على البعد عن غريزتها ولم يسمحوا لها باكتشاف نفسها خوفًا عليها، هي الآن أقرب لفراشة ما زالت تجاهد للخروج من شرنقتها لتكتشف أن بإمكانها التحليق عاليًا، وهذا ما يفسر عداءها لأختها طيلة الوقت، لكونها غريبة ومختلفة وتجبرها على أكل اللحم دون أن تفهم السبب، ثم يحدث أن تأكل جوستين إصبع أختها المقطوع في حادث، وعندما تأكله تصل إلى نقط تصالح مع أختها، فتفهم أكثر سبب شراهتها للحوم.

المختلف في فيلم Raw أنه يضع الآخر في معادلة اكتشاف الذات، فجوستين التي تكتشف رغبات جسدها الجديدة تجد منبع الرغبة عند أجساد الآخرين، تتحقق شهوتها في التهامهم، وهو ما يحيلنا إلى مشهد في بدايات الفيلم تتحسس فيه جوستين المراهقة جسدها وهي نائمة، تحسس أقرب للإكتشاف، ربما في لمسها جسدها لم تعثر على حقيقتها بينما تغمر النشوة جسدها حقًا عند التهام الأجساد الأخرى، بالأحرى في الشهوة المحرمة.

 

جارانس مارلييه في لقطة من فيلم Raw

تقدم المعالجة الدرامية مجازًا جديدًا يبتعد عن المباشرة في طرح اكتشاف فتاة مراهقة للشهوة الجنسية والمحرمات التي تربت عليها، لكنه ليس بمعزل عنها بل يدور مجازيًا حول البحث عن غريزة الجسد والتمرد على الجلد الزائف الذي يكسوها، التلطخ بالحياة وقسوتها تمامًا كما تلطخ ردائها بالأبيض باللون الأحمر في أول يوم جامعي. والأحمر هو لون الشهوة التي تكتشفها جوستين على مهلِ.

اختارت جوليا دكورنو أن تكتشف بطلاتها هوية أجسادهن بالطرق الأكثر صعوبة وتعقيدًا، وهو اختيار درامي يعكس أفكارها، لا بالمهادنة والاستكانة نكتشف أجسادنا، بل بالوحشية، لذلك يكون الدرس قاسيًا على البطلات وعلى المتلقي الذي اعتاد أن الأفكار والعقائد والانتماءات العرقية والسياسية هي التي تعرف هوية صاحبها، بينما الجسد عند دكورنو هو الذي يكشف هويتنا الحقيقة، إنه الغريزة الكامنة بداخلنا وليس الهوية المكتسبة، وهو ما يجعل المشاهد أكثر سعيًا لفهم هذه الشخصيات التي لا تشبهه بحال، لكنه يفتش عن الإنساني فيها رغم كل شيء.