
أناييس نِن في شبابها- Pintrest
أناييس نِن: الكذب بمعناه الجميل
لم يكن من السهل على الكاتبة الأمريكية من أصول إسبانية وكوبية وفرنسية أناييس نِن، ترتيب فوضاها الناجمة عن علاقاتها الغرامية المتعددة والمتزامنة، وزواجها الثنائي، حتى أنها صرحت في إحدى المرات "إن صعوبة إسعاد أربعة رجال تزداد شيئًا فشيئًا"، لكنها مع ذلك سخَّرت خيالها الأدبي في توضيب تشتُّتها، مستعينة بتقنيات السَّرد بغية الوصول إلى أكبر قدر من الانسجام في حياتها، فهي لم ترد التخلي عن أحد عشاقها بما فيهم زوجيها، وإنما المُحافظة على إرادتها الحرة من خلال التوفيق بينهم جميعًا، وتوزيع أيامها عليهم كما يشاء هواها.
نِن في فترة ما بين الحربين العالميتين كانت متزوجة من المصرفي هوج جويلر، ثم التقت الروائي هنري ميللر وارتبطت معه بعلاقة غرامية محتدمة لعدة سنوات، نجم عنها مراسلات شهيرة. وخلال السنوات نفسها تعلقت بفنان اسمه جونزولا موريه لجأ مع زوجته إلى فرنسا من بيرو، ارتبطت معه أيضًا بعلاقة عاطفية طويلة.
وفي الفترة نفسها خضعت لتحليل نفسي لدى رونيه الليندي، مؤسس جمعية باريس للتحليل النفسي، عاقدةً النية على إغرائه فأصبحت عشيقة له، كما تعلقت بمحلل نفسي آخر هو أوتو رانك. أما بعد الحرب العالمية الثانية فوقعت في حب الممثل روبيرت بول وتزوجته في كاليفورنيا، وجعلته يعتقد بأنها تقوم بإجراءات طلاقها من جولر، الذي أخفت عنه وجود بول في حياتها.
قلب يتسع لعشرات الغرف
هذه الحياة العاطفية المركبة دفعت نِن، إلى الاستمرار في اختلاق حكايات خرافية، لتواصل غرامياتها المتعددة بأقل الأضرار الممكنة لعشاقها، فها هي تقول في مذكراتها "أستيقظُ صباحًا وأنا أغني لأني أعرف بأنهم ناموا بعمق، تهدهدهم أكاذيبي، أكاذيبي الدائمة الجميلة، أكاذيب ضرورية، مُختلقة، أو الشبيهة بحكايات الجنيات.
أكاذيب لكي أفسر لهنري سبب عدم قدرتي على قضاء هذا الأسبوع معه. ولكي أشرح للأليندي سبب استمراري في الخروج مرة واحدة أسبوعيًا في المساء. وأكاذيب على الصحفي النمساوي فريد صديق ميللر لتخفيف الآثار الرهيبة الناجمة عن قسوة هنري، لأن فريد يسرق مني قبلة بين الحين والآخر".
إن امتلاك عدد من العشاق في الوقت نفسه، والالتقاء بأكثر من واحد خلال النهار، جعل صاحبة قلب ذو أربعة غرف تتخذ تدابير احتياطية حول كل ما تقوله، حتى خلال النوم، لكن المرحلة الأصعب من حياة نِن، هي التي كانت تعيش خلالها مع زوجيها، لاسيما أن كلًا منهما يعيش في الطرف الآخر من البلاد، فكان عليها أن تبرر لبول افتتاح صندوق بريدي في كاليفورنيا باعتبارها الإمكانية الوحيدة لتلقي رسائل جويلر، وأسفارها المتتابعة إلى هناك. وفضلًا عن هذا، تذرعت بأنها تعمل هناك مع مُنتج، لتفسر لجويلر أسباب ابتعادها عن نيويورك، ثم اخترعت لبوب ذريعة أنها تقوم بعمل آخر في مجلة تصدر في نيويورك لكي تلتقي جويلر في كوبا، حسب مذكراتها. كل ذلك فرض عليها مزيدًا من الانتباه كأن تنزع اللصاقات الموجودة على أدويتها، خوفًا من أن تظهر بوصفها السيدة بول في نيويورك، والسيدة جويلر في كاليفورنيا.
وحش لكن في الخيال
إن حياة عاطفية مشوشة كهذه، تطلب من نِن وضع لوجستيات متطورة، لاسيما في مجال الكتابة. فمثلًا بعد أن اكتشف زوجها مذكراتها الخاصة التي تبوح فيها بخياناتها، قالت له من دون أن يعتريها الاضطراب، إنها مذكرات متخيلة، توضح في مذكراتها
"كان هوج واقفًا وسط الغرفة حينما قال لي "أعرف كل شيء، لقد قرأت هذا"، وأبرز لي المذكرات مفتوحة على صفحة أصف فيها أحد اللقاءات مع هنري في أحد الفنادق. "سأغفر لكِ. لكن كفي عن الكذب عليّ" ثم جلس خائر القوى. لدى رؤيتي وجهه، شرعت بالكذب، كذبٌ بارع "ما قرأتَهُ ليس سوى مذكراتي المتخيلة. كل ما فيها اختلاق، أبني من خلاله ما لا أعيشه- صدقني، أنا وحش، لكن في الخيال فقط. يمكنك قراءة المذكرات الحقيقية حينما تريد"".
وكي لا تقع في المحظور، وإثارة الانتباه والشك لدى عشاقها، وخاصةً لدى زوجيها، لجأت صاحبة شتاء الحيلة إلى نظام البطاقات أطلقت عليه "صندوق الأكاذيب" تكتب فيه اختلاقاتها بعناية، بحيث إنها بمجرد سحبها لإحدى تلك البطاقات الخاصة بمن ستلتقيه اليوم من عشاقها، تتعرف على مجموعة من الحقائق المتتابعة التي تجعلها قادرة على الاستمرار في لُعبَتِها، وتدبيج المزيد من القصص الموازية لذاتها المتشظية.
الكذب هو الطريقة التي عثرت عليها لأبقى صادقة مع نفسي، لأقوم بما أريد، ولكي أكون ما أريد مع التسبب بأقل ضرر للآخرين.
- أناييس نِن
تلك التقنية السردية، كما يشير المنظر الفرنسي بيير بايار في كتابه كيف تتحدث عن وقائع لم تحدث، تستند إلى نظرية نفسية كامنة وراء عمل نِن الأدبي وسلوكها، أي نظرية التعددية النفسية، فنحن لا نكون أنفسنا من ساعة لأخرى وعن ذلك تقول المؤلفة الأمريكية "في الحقيقة أضحك غالبًا من تحولاتي التي لا يمنع أنها تتعبني قليلًا. لدي الانطباع بأني أعبر مئات الأحياء كل يوم، وأتنشق الكثير من الأجواء، وأني بالغة الحساسية إزاء هذه التغيرات، وأتألم لكوني أعيش شخصيتين بل ثلاث شخصيات. نعم، الموضوع ليس الوحدة، إلا إذا تفوقت المشاعر. إن مجرد تصوري لكتابة مذكرات مزيفة حول براءتي، وتركها إلى هوج، ثم أتوارى تاركةً الآخرين يعتقدون أني انتحرت، يبرهن على أن ما يدفعني إلى الكذب، ليس الخوف من الهجران، أو فقدان أحد ما، بل غريزة عميقة لحماية نفسي. الكذب هو الطريقة التي عثرت عليها لأبقى صادقة مع نفسي، لأقوم بما أريد، ولكي أكون ما أريد مع التسبب بأقل ضرر للآخرين".
لكن هل هذا يدفعنا كقراء للقول بأن "الحقيقة موجودة في مذكرات نِن"؟ رُبَّما هدفت صاحبة جاسوس في بيت الحب من مذكراتها وتنوع الأكاذيب فيها إلى تقليص التعددية النفسية، عبر خلق مكان مثالي يختفي فيه الانشطار، وحيث يمكن أن ينشأ شكل من الحقيقة عن الذات، فها هي تقول فيها "إن مت يومًا وقُرئت النسختان من المذكرات، من منهما أنا؟". وهذا ما دفع ديردر بير كاتبة سيرة نِن الذاتية للتصريح أنه "من التعسف مقابلة حياة نِن الخاصة، بوصفها فضاء للتزييف، بالمذكرات المعروفة بوصفها مكانًا لقول الحقيقة. لأنها في الواقع موضوع بناء مستمر. هذا العمل الذي قامت به لإعادة صياغة مذكراتها، قادها إلى إتلاف الكتابات الأصلية، باعتبار أن كل نسخة جديدة ستكون النسخة الأولى. وهكذا فإن قارئ المذكرات الذي يفترض أن يكون، خلافًا لعشاقها، الوحيد المالك للحقيقة، مخدوعٌ بعدّة مغرية، بُنيت وفقًا للمبدأ نفسه الذي بنيت عليه الخرافات التي تغذي بها المقربين منها كل يوم".
وفي الوقت ذاته فإن القارئ، بحسب بيار في كتابه آنف الذكر، سيتلمَّس قوة لا واعية في داخل نِن تحرضها على العودة الدائمة إلى ماضيها في محاولة منها لإضفاء شكل من التجانس عليه. إن تلك القوة اللا واعية تبين ما يمكن تسميته "الغريزة السردية" التي تعينها على تحمل حركيّتها النفسية عبر حقنها بالتجانس والمعنى. لا شك أن هذه الغريزة لا تنحو في جوهرها إلى الاختلاق. لكنها ملائمة بسبب استحالة إدخال عدد الأحداث وتنوعها في اللغة، لما تقدمه أوهام الخيال من صورة مقبولة للأحداث المبعثرة التي تتكون منها الحياة.
لكن لا يمكن لتلك الغريزة السردية أن تنتشر بكل قوتها، من دون أن تصطدم بالحذر أو العداء، إلا لأنها تلاقي جمهورًا متسامحًا لدى ناشري المسرودات، غير عابئيين بأن يقدم أحد لهم النصيحة فعلًا، لأنهم متشبثون براحتهم النفسية وبالأفراح الخلاقة للوهم الناجمة عن قراءة السيرة، أليس ذاك الخيال الكاذب، بصيغة من الصيغ، هو الأدب بمعناه الواسع الجميل؟