ياسر عرفات- رسم: هشام عبد الحميد- المنصة

عين شمس 1995| بين هزيمتين (3)

منشور الثلاثاء 25 يناير 2022

هذا هو المقال الأخير من ثلاثية تستعيد بعضًا من التاريخ السياسي والثقافي الذي شكل وعي اليسار من جيل التسعينات.


يأتي صوت ياسر عرفات مساءً عبر راديو مونت كارلو هادئًا وواثقًا. لا أعرف سببًا لشعوري بأنه يضحك بينما يتحدث، رغم خلو الصوت من أي إشارة تحيل للضحك... "يا صدام يا جبل ما يهزك ريح"؛ يؤكد أبو عمار أنه استطاع الصمود لشهور في بيروت 1982 بآلاف قليلة من المقاتلين، وبالتالي سيستطيع صدام حسين بجيشه الضخم، وبالشعوب العربية الداعمة، الصمود في وجه أمريكا وحلفائها في حرب قد تدوم لسنين.

لا أذكر إن كان عرفات ألمح إلى انتصار محتمل لصدام على التحالف الدولي أم لا، لكنني لا أستبعد التلميح. في كل الأحوال جاءتنا لهجة الانتصار الحتمي بصوت القذافي على الإذاعة نفسها، مؤكدًا أن كل القوى الثورية في العالم، بتعدد ألوانها وتوجهاتها، تنتظر إشارة منه هو شخصيًا كي يشعلها ثورة عالمية ضد الأمريكان.

كان هذا في أواخر 1990 وبداية 1991، فبينما يبدأ جيلي حياته الجامعية، كانت الحشود العسكرية في منطقة حفر الباطن تتزايد، وتتراكم المؤشرات لضربة عسكرية كبيرة ستعيد العراق سنين طويلة إلى الوراء، وعلى التلفزيون الحكومي تذاع يوميًا بكائية طويلة جدًا للكويتي عبد الله الرويشد، بكلمات لعبد الرحمن الأبنودي، للتعبئة المعنوية والمشاعرية الداعمة للمشاركة المصرية لأول مرة في حرب تدمير بلد وشعب عربي "يا أمة الإسلام.. خلص مني الكلام.. لا عين شايفة حق.. ولا شايفة ملام.. بيتي وبيقول بيته.. اللي جه يعتدي.. ومسجد لله بنيته.. يقول ده مسجدي.. يا الله.. يا الله.. اللهم لا اعتراض".

الأبنودي الذي شكلت بعض كلماته الخطاب الصدامي لجيلي خلال التظاهرات التي خاضها في النصف الأول من التسعينات، شكلت كلماته أيضًا أحد ملامح الهزيمة الأولى للجيل نفسه الذي عاش فترته الجامعية بين هزيمتين، لكن للمرح المصري الشبابي وسائله الانتقامية؛ حور الأغنية على طريقته، أخذ عبارة "اللهم لا اعتراض" وأضاف إليها عبارة جديدة تحترم القافية الشعرية تشير إلى أن المغني تم ضبطه مع ممثلة مصرية شهيرة، وكأنه نوع من الانتقام السوقي من الحالة التي اجتاحت القاهرة وقتها من تواجد كويتي مكثف في المناطق الفاخرة، بكل ما صاحبها من استعراض للرفاهية وللسيارات الفاخرة، وبعض الانفلات الذي رآه البعض غير أخلاقي في حفلات الرقص الكويتية الليلية في شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين، متلازمًا مع انفلات سياسي رسمي عربي يحشد الجنود المصريين عند خط النار والموت، ليشكلوا غطاءً عربيًا شرعيًا لحرب أمريكية، تعيد أصحاب العربات الفاخرة من شارع جامعة الدول العربية إلي بلدهم.

بدأت تتشكل وقتها الهزيمة الأولى التي تفتتح مسار الجيل، كصورة ثابتة يتصدرها ذلك الشاب اليساري من جامعة القاهرة، الآتي مثل "مدد" لجامعة عين شمس بعد اعتقال الجيل الأكبر صاحب الخبرة خلال إجازة نصف السنة الطويلة، التي أطالها مبارك كي يتجنب الغضب الطلابي، فيقفز من فوق السور في أكثر الأماكن المكشوفة من عين شمس أمام قوات الأمن التي تحاصرها، ويلتحق بالمظاهرة داخلها، صارخًا بينما يطير في الهواء "يا حكومات عربية جبانة.. بكرة سلاحنا هايبقي معانا"، بينما قوات الأمن المركزي تتأمل مشهدًا جديدًا لتعالي مبارك وبخله على "أبنائه" الطلاب، فلا يمنحنا زهو أن تضرب جامعتنا بقنابل الغاز، أو أن تتدخل هذه القوات بنفسها لفض التظاهرات مثلما حدث في جامعة القاهرة، مكتفيًا ببعض البلطجية والعاملين مع المباحث من طلبة الجامعة، تاركًا لهم مهمة حسم تلك الثورة الصغيرة التي اندلعت في غياب الثورة العالمية الكبيرة، والجبل الذي لا يهزه ريح وصمد بالكويت أيامًا قليلة.

***

الطلاب الذين يفتتحون حياتهم الجامعية اليسارية بهذه الهزيمة، التي ستليها بعد شهور قليلة الهزيمة الأكبر بسقوط الاتحاد السوفيتي وبقية بلدان الكتلة الشرقية المسماة بالاشتراكية، جاء أغلبهم من شبرا مصر، وشبرا الخيمة، ومدينة نصر، ومن شارع عشرة بالوايلي الكبير، مع وجود تمثيل لمناطق أخرى مثل حلوان، والمطرية، وعزبة النخل، وعزبة المسلمين بمصر الجديدة، والبعض في المدينة الجامعية جاؤوا من قرى قليوب.

جاء بعضهم لليسار بالصدفة، أو كنوع من أنواع التمرد الذي لم يكن له أن يتحول إلى الوجهة الإسلامية بحكم هذا المزاج "المنحرف" والمحب للمتعة المشار إليه في الحلقتين السابقتين، وبحكم بحثهم عن الفكرة الأصعب التي تفسر لهم عالمهم غير العادل.

بعضهم الآخر جاء لليسار مستفيدًا منذ طفولته بما يمكن أن نسميه "الواحات اليسارية" في أحيائنا، ففي شبرا كان هناك تراث الحركة العمالية ورموز يسارية من عدة أجيال، من بينهم عم طه سعد عثمان، وصابر بركات، ومحمد حسن عوف، وسيد فتحي الطالب بكلية الحقوق من الجيل السابق لنا مباشرة، وكانت واحة حدائق القبة والوايلي الكبير تلتف حول النقابي وعضو البرلمان محمد عبد العزيز شعبان، ومقهى أخيه، وعيادة الطبيب محمد عبد الوهاب، والشقة الصغيرة في الدور الأرضي لمحروس سرور الذي كان يقف على يسار بقية أهل الوايلي، وفي حلوان كانت دار الخدمات النقابية وعمال الحديد والصلب، بينما في وسط البلد هناك متسع لجميع المتصعلكين في مقاهي وبارات اليسار والمثقفين.

أما في مدينة نصر الصحراوية الصفراء فتمثلت الواحة الوحيدة بداية من أواخر السبعينات في شقة صغيرة في المنطقة الأكثر فقرًا: مساكن المهجرين السوايسة في الحي السابع، استأجرها المهندس رياض رفعت القادم للحي من جيل السبعينات بطاقة لا تنتهي للعمل مع الأطفال والمراهقين. يعلق تحت شباكها يافطة تشير إلى أنها مقر لحزب التجمع، كمظلة قانونية للعمل في الحي.

يحاول رياض رفعت جذب الأطفال عبر الغناء، والرحلات، وبعض الندوات المبسطة. لم يكن للسينما مكان واضح في أنشطة واحة مدينة نصر، وإن حضرت فسيكون حضورًا على طريقتنا التسعينية اللاحقة، لمضمونها السياسي قبل جودتها الفنية، فينظم عرضًا لنا، نحن صبية الحي الملتفين حوله، للفيلم الأمريكي العسكري الأزرق، الذي أخرجه رالف نلسون عام 1970. لا أذكر السياق الذي عرض فيه الفيلم المنتج مثلما يشير بعض نقاد السينما للإحالة إلى ما كان يحدث في فيتنام خلال زمن صناعته، عبر قصة إبادة الهنود الحمر في القرن التاسع عشر، وغالبًا لم يبتعد هدف رياض من عرضه عن إحالة أخرى متلازمة لعملية تنويرنا بالوحشية الأمريكية، وفتح حوارات عن فلسطين في سياق هذا التماثل التاريخي في النظر للقضية الفلسطينية وعملية الاستيطان الإسرائيلية وإبادة الفلسطينيين باعتبارها إعادة إنتاج لما قام به "الكاوبوي" الأبيض في أمريكا مع السكان الأصليين.

 

الشاعر فؤاد حداد- الصورة: أرشيف الإنترنت

يستدعي رياض رفعت هاوية المسرح عبير علي والمغني والملحن محمد عزت، ليقوما بتدريبنا على الأغاني، منتهزًا أي فرصة لاحتلال الحارة الضيقة بين بلوكات المساكن الشعبية، لنصب الشادر والكراسي، ودعوة أهل البلوكات لنبدأ التلعثم أمامهم بكلمات فؤاد حداد.. "كاوبوي دينامو.. سايق غنمه.. علق يافطة بعرض الريف.. خللي أمركا.. تستعمركا.. ست شريفة غرضها شريف". وكأن رياض وبعض رفاقه من جيله يحتمون في هذه الحارات الضيقة من الاندفاع في الزمن، ودفء جيلهم الذي ينحسر، ناقلينه إلينا.

لا يمكنني تجاهل شيكو ميندز الذي اكتشفناه في 1995 كثيرًا، فقد قتله شبيه هذا "الكاوبوي"، لم تقتله الحكومة البرازيلية أو قوات أمنها التي قتلت في السنوات القليلة السابقة على اغتياله حوالي ألف شخص من غير المرغوب فيهم في غابات الأمازون، من هنود ويساريين ونقابيين ومنتمين للاهوت التحرير، ولم يقتله رجال الأعمال الكبار قاطني المدينة، بل قتلوه بابتذال؛ علق المتشبهون بالكاوبوي الأمريكي الشمالي رأس غنم على باب بيته، كوعد بالقتل، وفي اليوم التالي أطلقوا على رأسه رصاصتهم الوحيدة.

عند مشاهدتنا لذلك المشهد يتذكر بعضنا أغنية فؤاد حداد في مدينة نصر أول الثمانينات، ونتذكر جميعنا واحة أخرى، على قهوة شعبان في الوايلي الكبير، نهايات هزيمة 1991، يتجمع عدد من المنتمين للأجيال اليسارية على المقهى ليغنوا سويًا، بصحبة علي إسماعيل والشاعر إسلام عبد المعطي ومحمد عزت أيضًا، الأغنية نفسها عن الكاوبوي القادم بأسلحته وقواعده العسكرية لمنطقتنا.

***

نتوزع بين ممر الصحافة في الجامعة وبارات ومقاهي وسط البلد إن وجدنا من يدعونا لزجاجة بيرة من الأجيال الأقدم، وواحات الأحياء، بينما تتوالى الهزائم متسارعة، تنحصر الجموع القليلة المتجمعة في تلك الواحات، بينما عرفات الذي صوَّر خروجه من بيروت 1982 كانتصار سياسي وتعبير عن الصمود العسكري، وتنبأ بأن صدام سيصمد زمنًا طويلًا، يذهب إلى مؤتمر مدريد للتفاوض في أكتوبر/ تشرين الأول 1991، وتتوالى اتفاقياته مع إسرائيل، ويبدأ مبارك في دعوة إسرائيل إلى فعاليات قاهرية بينما يزيل أحياء وبيوت الفقراء المتضررين من الزلزال الشهير بعد احتجاجات عابرة تصورنا أنها ستتحول لانتفاضة فقراء، لكن هؤلاء الفقراء يقبلون بشقق ضيقة في بلوكات الإسكان الشعبي في المقطم.

تتسارع عملية تصفية القطاع العام دون مقاومة حاسمة ودون انتفاضة عمالية، ويتم فض إضراب عمال كفر الدوار بالرصاص. نفشل في الخروج من أتيليه القاهرة إلى شوارع وسط البلد، حين تقع محاولة اغتيال نجيب محفوظ، رفضًا للدولة وللإسلاميين، بفضل "علقة" خاطفة من رجال أمن الدولة المندسين بيننا، وبفضل تشبث بعض منظمي الحشد من المثقفين اليساريين السابقين بضرورة الاصطفاف وراء الدولة وتجنب نقدها في هذه الفترة. ويبدأ الهوس المجتمعي العام بمسلمي البوسنة والهرسك، ليتراجع إلى الوراء الاهتمام بالفلسطينيين واللبنانيين المقتولين في الغارات الإسرائيلية.

في هذه اللحظة أيضًا تبدأ رحلة التفكك النهائي لحزبي العمال والشعب نهايات 1995، بعد معركة انتخابات مجلس الشعب، وتتسع المساحة أكثر لتيار الاشتراكيين الثوريين رغم الانشقاقات والخصومات بينهم، وكنوع أخير من "الفلفصة" يحاول كمال خليل وحمدين صباحي، في اقتراب بين تياري اليسار الشيوعي والناصري، مقاومة قانون الإيجارات الزراعية الجديد. يفشلان، يلتقيان في السجن، وتنتهي فانتازيا الانتفاضة الفلاحية التي ستكون كاسحة للدفاع عن مكتسبات الفلاحين الباقية من زمن عبد الناصر وإصلاحاته الزراعية.

ولأن هناك وعدًا منذ بداية هذه السلسلة بألا أنسى السينما، فعليَّ الإشارة إلى أنها الفترة نفسها التي تتلقى فيها صناعة السينما المصرية الضربة الأقوى بإصدار القوانين الجديدة للسينما المصرية، لبيع أصولها ومنح الشركات الكبيرة للمليونيرات، الذين لا علاقة لهم بالسينما، تسهيلات ضرائبية تخرج أغلب المنتجين السينمائيين التقليديين من السوق.

***

عنوان هذه السلسلة يحمل وعدًا آخر: عين شمس 1995. فلنعد شهورًا للوراء؛ تشارك إسرائيل في المعرض الصناعي الزراعي بالقاهرة ربيع 1995. تحتشد القوي السياسية اليسارية المعارضة لإفشال هذه المشاركة؛ الموعد في المعرض لمواجهة الدولة والإسرائيليين بداخله. تختفي فجأة بعض الرموز المعروفة التي تتصدر تلك الدعوات، لا تنزل من بيوتها بناء على تحذيرات تليفونية من رموز سياسية نخبوية أخرى، ومن لم يستجيبوا للتحذيرات يتم القبض عليهم ليلًا من بيوتهم: عزازي علي عزازي، وكمال أبو عيطة، وأحمد بهاء الدين شعبان. أما جيلنا من الشباب والطلبة الشيوعيين والناصريين فيتم القبض علينا متفرقين، ونحن خارجون من الجامعة، أو من البيوت ليلًا، أو باقتحام الجامعة بمشهد كاوبويي بامتياز، أو داخل المعرض، وربما تكون نوارة أحمد فؤاد نجم، الطالبة بجامعتنا، الوحيدة التي استطاعت الوصول للجناح الإسرائيلي الذي كان هدف عملية الاحتجاج. تخبئ تحت حجابها وملابسها الواسعة علمًا لفلسطين، تشهره زاعقة داخل الجناح، لتتلقى علقة من الحرس، ولتذهب إلى سجن القناطر. تعذيب مكثف للبعض، تلفيق قضية سلاح، علاقات عاطفية تنتهي وأخرى تبدأ، صداقات تتصدع بعد الخروج من السجن، وامتحانات السنة الجامعية الأخيرة تقترب، والمشهد الأخير للشيخ إمام المتعب يغني في شقة الحي السابع بمدينة نصر، للطلاب الخارجين من السجن "الورد اللي فتح في جانين مصر"، ليرحل بعدها بأيام قليلة.

***

يبدأ جيلنا حياته الجامعية اليسارية بالهزيمة الجماعية العامة الصاخبة، التي تفتتح الطريق أمام هزائم أخري أصغر، بينما لم ينته المسار السياسي لأغلب هذا الجيل بالصخب نفسه، بل بهزائم شخصية وفردية في تلازم مع لحظة فارقة، خروج بعضنا من المنظمات الشيوعية السرية، نهاية الحقبة الجامعية، مع ما يتبعها غالبًا لدى نوعيتنا من اكتئاب مواجهة الحياة الواقعية بعد التحليق في الجو في المرحلة الجامعية، حيث الثورة المنتظرة والنضال والسجن والمطاردات، ومع كل هذه الإثارة هناك الفتيات الجميلات في ممر جيمي من قسمي فرنسي وإنجليزي بكلية الأداب، يتطلعون إلينا ونحن في مظاهراتنا كأبطال.

يقول شيكو ميندز في أحد حواراته الأخيرة قبل قتله على باب البيت "إذا نزل أحدهم من السماوات كي يؤكد لي أن موتي سوف يفيد نضالنا، في هذه الحالة يكون الموت له ثمن. لكن الخبرة علمتني العكس، المظاهرات وجنازات التشييع لن ينقذوا غابات الأمازون. أريد أن أعيش".

الرغبة في الحياة والمتعة مع المزاج الصدامي الساخن كانت السمة الأبرز لدى جيلنا من اليساريين الجامعيين، ومن المدهش أن أكتشف الآن، بعد عقدين ونصف، أن المعادل السينمائي الأقرب لموجتنا النفسية وقتها لم يكن شيكو ميندز، أو أفلام البريء وناجي العلي وحكايات الغريب، التي كنا نبحث فيها عن البطولة، بل كانت أفلام خيري بشارة في مرحلته الأخيرة، قبل أن يبتعد عن السينما عام 1996.

كنا نحب خيري بشارة، ونعلم رغم جهلنا السينمائي أنه من المخرجين الجيدين والجادين بمعاييرنا وقتها، وكانت استعانته بـ"نجمة الجماهير" نادية الجندي في فيلمه رغبة متوحشة (1991)، محل سخرية واستغراب من قبلنا، لم نكن نعي أبعاد لعبته وقتها مع نجوم العالم التجاري الاستهلاكي مثلما كنا نصف هؤلاء، لكننا توقعنا أنه يحاول اللعب والمتعة، وأدركنا مع الوقت أنه كان يحاول المقاومة والاستمرار عبر اللعب مع هؤلاء النجوم.

انحصر دور سينماه بالنسبة إلينا خلال النصف الأول من التسعينات، إن بالغت قليلًا، في أن يقدم لنا بعض الأغاني، مثل أغاني فيلميه أيس كريم في جليم (1992)، الفيلم الأول الذي استأجرته من لطفي، وأمريكا شيكابيكا (1993)، التي كان يغنيها الشبان المنتمين للمنظمة المصرية لحقوق الانسان في معسكر صيفي أقيم في رأس البر، كخلفية موسيقية لبداية الصراع بين الشيوعيين والناصريين من الأجيال الأكبر على من سيسيطر على المنظمة ومجلس أمنائها.

لا أملك الحق في أن أحكي عن الهزائم الشخصية والفردية للآخرين ممن أسميهم جيلي، وملامح هذه اللحظة من إدراك الهزيمة، وإدراك أن السخونة لم تتحقق ولن تأتي قريبًا، لكن خيري بشارة الذي أشهر وجعه ووجع جيله في أيس كريم في جليم، موزعًا ذاته وذواتهم على ثلاث شخصيات مختلفة ومتناقضة، المغني المودرن الذي يبحث عن الشهرة والنجاح، وشاعر الكلمات المباشرة الناصري، والملحن الموسيقي الشيوعي الذي يموت في الحديقة وحيدًا، يمنحني دون أن يدري الخلفية الموسيقية للحظتي الشخصية نهاية 1995، وبالصدفة.

 

بوستر فيلم قشر البندق- الصورة: موقع السينما.كوم

في قاعة سينما في وسط البلد، تأتي دموعي مع مشهد الختام في فيلم قشر البندق، حين يسقط وجه حميد الشاعري في الطبق ميتًا، مع صوته الزاعق "لا.. قشر البندق لا.. أه.. قلب البندق أه"، ومع تيترات النهاية؛ حالة من الهدوء وصفاء الذهن بأن مرحلتي اليسارية التسعينية انتهت عند هذه اللحظة، بالتوازي مع نهاية سباق الأكل في الفيلم وموت الفائز، موت البطل.

***

مثير للدهشة كيف تكتسب بعض التفاصيل الصغيرة طاقة درامية هائلة لتغيير مسارات الأشخاص وحياتهم. إن استعدنا ذكرى العربة الصغيرة التي كنا نتناول فيها العرق السوداني عند طريق المطار، فسيكون علينا استكمال حكايتها؛ تراجع لجوؤنا إلى العربة كمأوى من قبل افتتاح الهزائم الشخصية في 1995، أصبحنا نستبدل بها غالبًا المراكب الشراعية النيلية الصغيرة، حتى ابتعد أغلبنا تدريجيًا عن الآخرين. وبعد عقد ونصف من هذا التباعد نلتقي جميعًا من جديد في شوارع القاهرة، وعلى وجوهنا بهجة طفولية مستدفئين بثورة حقيقية لم نكن قادرين سابقًا على تخيل ملامحها. وعند لحظة فرح 2011 الينايرية نتصارح بأن بعض هزائمنا الشخصية بنيت على تراكم تفاصيل صغيرة، من ضمنها من الذي سرق من هذه العربة شريط محمد منير الذي كنا نرقص عليه "لو بطلنا نحلم/ نسكر نموت"؟ تبدوا كتفصيلة تافهة، لكنها كانت كافية لانسحاب البعض بهدوء وتغيير حياتهم، فكنا نظن وقتها أننا الأقرب لبعضنا البعض، وكنا نظن أننا نعرف عن بعضنا البعض كل الأشياء.

ما بعد تيترات النهاية

أشرت في الحلقة السابقة لكلمات فرقة أولاد الأرض السويسية والكابتن غزالي، مغناة بصوت محمد منير، التي داعبت خيالنا دافعة به إلى الماضي في بداية التسعينات مع فيلم حكايات الغريب، يتم استبدال المشهد والفرقة والكلمات، لم يعد مشهدًا جامعيًا، فقد تخرجنا من الجامعة، ولم تعد الكلمات للكابتن غزالي وفرقته، تم استبدال فرقة أخرى بهما، جاءت أيضًا من منطقة القناة، من شمالها، من بورسعيد، دافعة خيال بعضنا إلى ما هو أكثر حداثية وانفلاتًا، مقترنًا بما يمكن تسميته بـ"الشو الفولكلوري" المقدم في المراكز الثقافية في وسط البلد القاهري لجمهور نخبوي نصفه مصري ونصفه أجنبي.

جاءت إلينا فرقة الطنبورة، التي تحول بعضنا إلى دراويش يلاحقونها، فبعد أن كان البعض يذهبون يوم شم النسيم إلى بورسعيد كي يصاحبوا الفرقة في الشارع، محاطين بالناس من جمهورها الطبيعي، أتت الفرقة في لحظة الانتشار الأهم عام 1996 إلى القاهرة، فيستبدل، عند هذه اللحظة، بـ"غني يا سمسمية.. لرصاص البندقية.. ولكل إيد قوية.. حاضنة زنودها المدافع"، المغناة بصوت منير أو الفقير الكابتن غزالي، رقص أعضاء فريق الطنبورة الرجال رقصًا نسائيًا أحيانًا، وبكلمات تعيد ربط بعض أبناء جيلي بالمتعة "شفت القمر على صدر جميل.. ياكل حلاوة ثم يشرب خمير.. آه يا لدان يا لدان يا لدان".

التلميحات الجنسية في التراث البورسعيدي، والخلاف بين اليساريين المحيطين بالفرقة حول بدايات تلقيها التمويل، وانقسام الفرقة بدورها، مع ما يصاحب ظهورها القاهري من اطمئنان وألفة لما شاع عن ارتباط بعض أفرادها ببعض أطياف اليسار المصري، يخاطب بقية من مزاجنا المتطرف بين اتجاهين، الصدامية والمباشرة السياسية من جهة، والرغبة في المتعة من جهة أخرى. فيجد ضالته أو مرساه عند ضفاف فن شعبي، مع رقص متواصل للهزيمة، رقص كالديك المذبوح. وبعيدًا عن الطنبورة، تتحول لقاءات المراكب الشراعية الأخيرة بصحبة العرق السوداني إلي بكائيات.


لقراءة الأجزاء السابقة:

عين شمس 1995| مقتل شيكو ميندز (1)

عين شمس 1995| البحث عن البطولة (2)

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.