قبل خمسين عامًا نبت حلم الفنان التشكيلي نبيل درويش (1936- 2002) أحد رواد فن الخزف في مصر والعالم العربي، في إنشاء متحفه الخاص، وبجهود ذاتية ممزوجة بشغفه وإيمانه بالفن، افُتتح المتحف الفريد من نوعه عام 1981، ليكون شاهدًا على تجربة درويش الإبداعية والتاريخية، ويُصبح مدرسة لكل الخزافين في الوطن العربي والعالم.
المتحف الذي يقع في 177 طريق سقارة بالمريوطية في الجيزة، صدر قرار بإزالته قبل عامين لاستكمال مشروع توسعة الطريق الدائري من محور المريوطية حتى صحراء الأهرام، ووصلت الأزمة لفصلها الأخير قبل أيام، حين دعا خالد نجل الفنان الراحل عبر صفحة المتحف الرسمية على فيسبوك الفنانين والمهتمين بالفن إلى زيارة المتحف قبل هدمه خلال أسبوعين/ معلنًا تلقيه اتصالًا "يفيد بالإصرار على هدم المتحف".
المنصة استجابت للدعوة وزارت المتحف والتقت الدكتورة سارة درويش الأستاذة بالمعهد العالي للكونسرفتوار وابنة الفنان الراحل التي أبدت حزنها الشديد بسبب قرار الإزالة.
"المكان ليس مجرد متحف ولكن بيتنا الذي عشت فيه مع أشقائي خالد ونسمة عمرنا كله، نشاهد بابا يوميًا يُشكل بيديه الطين ويصنع منه أعمالًا فنية بديعة، نحن جزء من كل قطعة خزف في هذا المكان، عشنا حياة مليئة بالزخم الفني وكل الجمال اللي في الدنيا" تقول سارة لـ المنصة.
تضيف "المتحف وبيتنا الملاصق له كان لا يخلو من اللقاءات واستقبال الفنانين والخزافين والباحثين بكليات الفنون من مصر والعالم. بابا حوّل المتحف لصالون ثقافي مستمر وملتقى للأدباء والنقاد ومزار سياحي لقيمته الفنية الكبيرة. هدمه هو هدم لهوية الوطن وتاريخ وحضارة ومستقبل مصر".
توضح سارة تلقيها اتصالًا قبل أيام من وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو "أبلغنا بصدور قرار نهائي من مجلس الوزراء بهدم المتحف خلال أسبوعين، وطلب منا إخلاءه وجمع المقتنيات الفنية، ولكن لا نعلم حتى هذه اللحظة موعد التنفيذ".
"تأثير القرار كارثي علينا خاصة أمي، حالتها النفسية سيئة وغير متقبلة لقرار الهدم نهائيًا" توضح سارة أثر القرار على رفيقة رحلة كفاح نبيل درويش "بعد عودتهما من الكويت في السبعينيات قررا بناء المتحف، كان حلم حياة بابا".
درويش الذي نشأ في قرية ريفية بالسنطة في محافظة الغربية "استلهم تصميم المتحف والمنزل، والورشة والمرسم الخاص به من بيئته في فترات نشأته"، توضح سارة كيف ألهمت هذه الفترة الفنان الراحل.
مصير مجهول للإرث الفني
يقع متحف نبيل درويش على مساحة 900 متر تقريبًا، ويضم نحو 3000 قطعة فنية ما بين الخزف واللوحات النادرة والاسكتشات التي رسمها درويش، حسب سارة.
"فلسفة السدادسي الذي اختاره درويش في الطراز المعماري للمتحف هدفه خدمة طريقة عرض المقتينات الخزفية عشان يشوفها الزائر بكذا زاوية" توضح سارة أسباب اختياره للتصميم السداسي وانعكاسه على طريقة العرض في المتحف.
لكن المتحف الذي لم ينج من مخططات التطوير دخل مرحلة الخطر قبل ثلاث قبل سنوات "صحينا من النوم لقينا فجأة علامة على سور المتحف، وبدأنا نسأل وعرفنا إنه فيه قرار إزالة للمتحف، لكن لم نُخطر بشكل رسمي إلا عام 2022 من هيئة الطرق والكباري ومركز أبو النمرس بمحافظة الجيزة، وتوالت الإنذارات حتى مطلع العام الحالي لمطالبتنا بالإخلاء".
وعود لم تتحق
خلال العامين الماضيين، طرقت أسرة نبيل درويش كل الأبواب لمناشدة المسؤولين للعدول عن قرار الهدم، بدءًا من رئاسة الجمهورية وشكاوى مجلس الوزراء مرورًا بوزارة الثقافة وانتهاءً بهيئة الطرق والكباري، ولكن بلا استجابة، وبلا حفظ لحقوق الأسرة في الحصول على تعويضات نص عليها قانون نزع الملكية للمنفعة العامة 187 لسنة 2020.
تقول سارة "تلقينا اتصالًا قبل أشهر من وزير الثقافة يُخبرنا بإقامة متحف بديل في منطقة تلال الفساط تُنقل إليه مقتنيات متحف نبيل درويش، وكان قرار جيد ووافقنا عليه بموجب محضر رسمي بالوزارة، ولكن عادت الوزراة في قرارها وأبلغنا رئيس صندوق التنمية الثقافية حمدي السطوحي بتغيير المكان، واستبدال مقترح المتحف البديل بتوفير قاعة تابعة لجامعة حلوان أو وزارة الثقافة أو نقل مقتنيات المتحف لقصر الأمير طاز بمصر القديمة أو مقعد السلطان قايتباي بمنطقة صحراء المماليك".
الورثة يرفضون تسليم المقتنيات لحين تخصيص مكان بديل لعرضها
اعترضت الأسرة على الاقتراحات البديلة "رفضنا طبعًا هذه المقترحات ما ينفعش تهد متحف كامل مستقل باسم نبيل درويش وتنزع ملكيته ويُستبدل بقاعة، كل الأماكن المطروحة غير مناسبة لعرض المقتنيات الخزفية، بل تسبب خطوره عليها"، توضح سارة.
تؤكد سارة رفض الأسرة تسليم أي مقتنيات من متحف نبيل درويش لوزارة الثقافة، طالما لا يوجد متحف بديل مُجهز لاستقبالها يضمن للأسرة أن تكون الأعمال الفنية في مكان آمن "لو مافيش متحف في تلال الفسطاط، وتم تنفيذ قرار الهدم، هنلم شغل بابا وهنعرف نحافظ عليه زي ما حافظنا عليه طول السنين اللي فاتت وأصدقاءنا الفنانين هيساعدونا في ده لحين إيجاد حلول. مش عارفين هنجمع المقتنيات فين، القرار الأخير ربكنا كلنا والمدة المتاحة محدودة جدًا، لكن أهم حاجة نلحق نلم ونحافظ على كل القطع واللوحات".
أما بشأن التعويضات، فتنفي سارة إبلاغها أو أي من أفراد الأسرة بالحصول على تعويض مادي من الجهات الرسمية "قالوا لنا في مرة سنعوضكم بقطعة أرض في 6 أكتوبر لكن رفضنا، ونتمسك بحقنا القانوني في التعويض المادي، وعندما ذهب محامي الأسرة ليسأل في جهاز المساحة قالوا له ما نعرفش حاجة عن الموضوع ده".
تضامن محلي وعربي
حديث أسرة نبيل درويش عن أزمة هدم المتحف أثار حملة تضامن على المستويين المحلي والعربي "نلقى دعمًا من نقابة التشكيلين، والنقيب طارق الكومي وعدنا بالتواصل خلال الأيام المقبلة مع الجهات المعنية للعدول عن قرار الهدم، إضافة إلى تضامن عدد كبير من الخزافين العرب، وتقديم النائبة منال جرجس طلب إحاطة لرئيس الوزراء ووزير الثقافة بشأن هدم المتحف، وكذلك دعم نقابة الصحفيين".
تؤكد سارة أن التضامن ضد هدم المتحف وصل لمؤسسات ثقافية دولية "الأكاديمية الدولية لفن الخزف بسويسرا، التي تضم أشهر الخزافين على مستوى العالم، خاطبت الجهات المسؤولية في مصر لوقف الهدم، ورغم قرار الإزالة لا يزال عرض انضمامه لعضوية هذه الأكاديمية كأول متحف في الشرق الأوسط قائمًا، كما طلبت الأكاديمية اقتناء عدد من أعماله الفنية، إضافة إلى متحف فيكتوريا أند البرت بلندن"(*).
تتجاوز أزمة الأسرة هدم المتحف "فخورين بوجود مقتنيات دوريش في هذه المتاحف العالمية، وهو ما نؤكده أن الأزمة أكبر من هدم المتحف كمكان، ولكن ما يحدث هو طمس للإرث الفني لدوريش، وهو ملك للحضارة الإنسانية كلها".
على الرغم من وجود أعمال فنية لدرويش في المتحف الدنماركي، ومنزل ملكة الدنمارك حسب سارة، لكنها غير موجودة في المتاحف المصرية الأمر الذي دعا أسرة الفنان لمخاطبة المتحف القومي للحضارة في يناير/كانون الثاني 2024 وعرضت إهداء المتحف بعض أعماله.
تتساءل سارة نجلة الفنان الراحل: التاريخ هيذكر المتحف ولا مَنزَل الكوبري؟
أثناء جولة المنصة مع سارة في المتحف لاحظنا إقبالًا من الزائرين "منذ إطلاقنا للدعوة على فيسبوك لوداع المتحف، ونستقبل يوميًا زوارًا من كل الفئات وليس من الفنانين المتخصصين فقط، نستقبل مصريين بيحبوا الفن سمعوا عن الهدم وحبوا ييجوا يشوفوا المتحف وكأن حلم درويش يتحقق بأن يكون المتحف لكل الناس".
تشير سارة إلى عشق والدها لمصر "مع غزارة الإنتاج الفني وبصمته الفريدة في عالم الخزف وحصوله على العديد من الجوائز إلا أنه لم يحظ بالتقدير الكافي وشهرته على المستوى العالمي كانت أكبر من شهرته في مصر، وتلقيه عروضًا كثيرة لخروج مقتنياته في متاحف العالم إلا أنه أوصانا بالحفاظ على المتحف وأن يظل مفتوحًا ونأمل أن نحقق له وصيته".
تختتم سارة جولتها معنا بسؤال على باب المتحف وهي تنظر للكباري التي ستلتهمه "إيه اللي بيقعد لك كبلد في التاريخ متحف ولا منزل كوبري؟!" مشيرة إلى وجود سابقة لمحاولة إزالة متحف ومنزل درويش في عهد مبارك ووزير الثقافة فاروق حسني لتوسعة مرورية أيضًا، لكن جرى العدول عن القرار فورًا بمكالمة تليفون "كانوا في الوقت ده مُدركين لقيمة المكان والفن، ونرى احتفاء العالم ببيوت فنانين كشوبان وبيتهوفين وتحويلها لمزارات سياحية ولكن نحن هنا في مصر نهدمها!".
ينتظر متحف نبيل درويش مصيره، كغيره من المباني التراثية والفنية التي لم تصمد أمام الجرارات من أجل الطرق والكباري.