كل منا يحمل جزءًا من دون كيخوته
تعرفت على دون كيخوته ومغامراته في سن السابعة، عندما كانت تُنشر مُسلسلةً في مجلة ميكي في الستينيات. لم ألحظ، آنذاك، حس السخرية الذي يغلف مغامرات هذا الفارس، بل ويغلف وجوده الشخصي. كنت مصدقًا في هذه الكينونة، كبطل من أبطال الطفولة، بسبب وقوفه بجانب البسطاء والمستضعفين، وهو الباب الواسع الذي تدخل منه البطولة لخيال أي طفل.
لا تسبر الطفولة الأبعاد المتعددة لشخصية البطل، لكنها تصوب خيالها تجاه هذا البعد الصافي الذي يعبر عن جوهر القصة.
منح حضور دون كيخوته مع خادمه ورفيقه سانشو بانثا مغامراته مفارقات ضاحكة لاختلاف وظيفة كل منهما عن الآخر في الحكاية، يرمز الأول للخيال الجامح الذي يصل إلى حد الجنون، مع الشجاعة والإيمان بأحلامه مهما كانت صورتها مختلفة عما يراه في الواقع، فمن أجلها حارب طواحين الهواء بوصفها عمالقة.
بينما يمثل الخادم الواقعية والحس العملي المخلوط بالجبن. ذهبت التفسيرات لهذه الرواية الخالدة التي كتبها الإسباني ميجيل دي سيرفانتس 1615، بأن الاثنين يشكلان شخصًا واحدًا أو وجهين لعملة واحدة تجمع بين الحلم والواقع، والصراع بينهما.
مرآة للعصر
خرج دون كيخوته من منطقة لامانشا الفقيرة في إسبانيا بحثًا عن المغامرات والرزق، بعد وقوعه أسيرًا لقصص الفروسية، التي اشتهرت في العصور الوسطى، ثم خفت تأثيرها. من شدة تعلقه بهذه القصص، التي كانت تدور حول مغامرات فارس نبيل يقوم برحلات بطولية يواجه فيها تحديات، مع التركيز على موضوع الحب والأخلاق، وعلى الجانب الرومانسي بدلًا من المعارك، كما يذكر أحد مترجميها د. عبد الرحمن بدوي في مقدمته للرواية.
من كثرة حبه لقراءة قصص الفروسية تقمص دون كيخوته شخصية هذا الفارس النبيل، لكنه يسخر منها ومن مثاليتها الزائفة ويضع مكانها مثالية جديدة ذاتية، لها واقع جديد يومي، يحكي فيه تفاصيل واقعه وسيرة تجواله ومغامراته. أراد سيرفانتس لروايته "أن تكون مرآة للعصر، بكل مخازيه الاجتماعية والسياسية، وما يعج به من رذائل ونفاق، فابتدع شخصية دون كيخوته هذا الفارس الجوال الذي فقدَ عقله من كثرة قراءة هذه القصص، ويتبنى قضية حماية المستضعفين ومعاقبة المجرمين وتصحيح الأخطاء" حسب ما ذكر بدوي.
فَقْدُ دون كيخوته لعقله جعله يهجر ما اعتاد عليه في حياته، ويعيد النظر لواقعه، عن طريق الوهم أو الحلم، وهما شديدا الاقتراب من بعضهما البعض، "فالتعقل هو اعتياد العقل على مجاراة العادة". فأصبح ما يقدمه له واقعه الجديد "حقيقة وامتلأ خياله بالغرابة الرائعة"، وهو ما أطلق عليه الفيلسوف الإسباني ميجيل أونا مونو "الجنون العاقل".
كان الفقر داعيًا لأن يصير سكان منطقة لامانشا رُحّلًا بحثًا عن الرزق في أراضٍ بعيدة. ربما تقترب رواية دون كيخوته عربيًا من هيكل السيرة الهلالية التي خرج أبطالها أيضًا من المغرب العربي إلى مصر بحثًا عن المراعي والرزق، وأنشأوا في رحلة تغريبتهم هذه السيرة. وربما أيضًا نموذج حراجي القط لعبد الرحمن الأبنودي قريب الشبه منها، هذا الذي ترك قريته أبنود، بداعي الفقر، وذهب وراء الحداثة في السد العالي حيث العمل والمناخ المواتي للتحقق.
التجول أوالهجرة جزء من آليات قصص هذه العصور، يحمل بين طياته مشقة كأنه ولادة جديدة. المهم هو هجر الواقع الأصلي شديد التعقيد وغير القابل للتغيير، فيبدو فعل الارتحال نفسه لعبة يعيد بها صاحبه شحن نفسه بمؤثرات جديدة تدفع أحلامه للخروج على السطح ويمارس حياة جديدة.
حداثة الرواية
تعتبر هذه الرواية نقطة تحول باتجاه الأدب الواقعي، والرواية الحديثة، بسبب نزوعها لنقد الحس المثالي في قصص الفروسية. وفي الوقت نفسه تدور حول فرد له واقع نسبي كاشفة عن حياته الشخصية. تظهر سمات هذه الفردانية في شخص دون كيخوته، كأنه مخلوق فرد بلا نسب ولا أصول له، "فنسبه يبتدئ معه، وظهوره يقترن باقتحامه سن الخمسين في إحدى قرى لا مانشا الفقيرة" كما يقول بدوي في مقدمته.
الروائي الأمريكي ذو الأصل المكسيكي إيلان ستافانز، الذي كتب رواية "دون كيخوته: الرواية والعالم"، مستوحيًا تأثيره على طفولته وحياته يقول في حوار معه "هذه الرواية هي التي أسست الحداثة. تُعلّمنا أن كل شيء ذاتي، وأن الحقيقة نسبية، وأن لكلٍّ منا حلمًا يسعى لتحقيقه، وأننا في نهاية المطاف قادرون على تغيير العالم انطلاقًا من ذلك الحلم. لذا يسقط الناس عليه رغبتهم في أن يكونوا استثنائيين، وأن يُغيّروا العالم".
قدم سيرفانتس في روايته بطلًا حقيقيًا، يمكن أن ينهزم ويُجرح ويخطئ ويعترف بالخطأ ويسخر من نفسه، ولكنه في النهاية حالم، يعيش داخل خيالاته، وكان هذا هو المنفذ الوحيد للوصول للحقيقة عن طريق الجنون/ الخيال، أو الجنون العاقل كمزج بين الحقيقة والخيال في شخص واحد.
تجاوز الواقع
تجاوز الواقع الأصلي شريك أساسي في أي لحظة تحول أو يقظة روحية، تعيد النظر في واقعها باتجاه تغييره. تسمح هذه النظرة للخيال الشخصي بأن يتمدد ويخلق واقعًا جديدًا، داخليًا وخارجيًا، بشجاعة وجرأة تناسبان مقدار الوهم أو الحلم اللذين يحملهما صاحبه، مجازفًا بالمعقول والتعقل ومتمسكًا باللامعقول والجنون، لأنهما السبب وراء هذه الحرية، ربما هي رحلة استنارة أيضًا، بالرغم من ظاهرها الخيالي أو الجنوني.
كل متمرد، أو حالم، مثل دون كيخوته، يحمل رغبة في التسامي فوق هذا الواقع المحبط غير العادل، ليرتقي لواقع يجد فيه الانسجام، مثل المخدر الذي يمد صاحبه بالشجاعة والجرأة والحماس. بالنسبة لدون كيخوته كان حبه لروايات الفروسية هو المخدر، الذي شحذ وجوده ووضعه على حافة جعلته يفارق الواقع بإرادته، ويدخل مع الزمن في صراع، ليعثر على زمنه الخاص الذي يحقق فيه أحلامه، عكس مسار الزمن الواقعي الخطي والممل.
صفات الشخصية الكيخوتية
تتميز الشخصية الكيخوتية، التي تحولت من اسم إلى صفة، نسبة لرواية سيرفانتس؛ برغبة التجول، كما يحدث مع فارسنا النبيل، بحثًا عن المغامرة، ربما هذه الرغبة تسبق فعل البحث عن العدالة، وهي سبب لعدم استقرار هذه الشخصية، هناك ما يدفعها لتتحرك باستمرار للأمام، حتى تستعيد اتساقها، والبحث عن مركز جديد لحياتها، بل قد لا يكون هناك مركز، لكن صور ومشاهد وعلاقات جديدة تكوِّن هذا المكان الذي يدفعها ويمنحها وهم السير.
أيضًا هناك علاقة عكسية مع الزمن، شعور دون كيخوته بأن الزمن ليس زمنه وأنه جاء في الزمن الخطأ، كما يشير د. عبد الرحمن بدوي في مقدمته إلى أن "غلطته الوحيدة أنه ولد متاخرًا عن العصر الذي كان يحب أن يولد فيه، متأخرًا بثلاثة قرون".
الإحساس بأن الشخصية ولدت في الزمن الخطأ سبب لها نوعًا من الاغتراب عن زمنها ولكي تستعيد زمنها الهارب، لا بد لها أن تخوض تلك الصراعات من أجل تعديل حركة الزمن/التاريخ، بالسير عكسه، مستهدفة تعطيل هذا النمو السرطاني للتدهور الذي تشعر به، وتُبعث في ظل انهيار كبير تستشعره، فلا تقبل بالتراجع، أو التخلي عن مهمتها في الحياة، مهما كان السبب.
إنها شخصيات اليوم الأخير قبل النهاية، يقول بدوي "فالتراجع عندها يعني التغاضي عن الانهيار، والتخلي عن مهمتها في الحياة نوع من معاقبة النفس لإحياء ضمائر الآخرين فهي تقدم نفسها كأضحية حتى يستفيق الآخرون".
ربما هذا الإحساس باللاتوافق/الاغتراب المزمن يمنح هذه الشخصية طاقة لإعادة وضعها وتصحيح خطأ الولادة، ومحاولتها لاسترداد فردوسها الضائع بسبب هذا الخطأ، كل هذا النشاط يتم على مسرح العدالة التي تبحث عنها، وتقدم نفسها أضحية لها، فهي الخلفية التي تدور وتحمي هذه الذات من السقوط.
مفاجآت سن الخمسين
بدأ دون كيخوته مغامراته في سن الخمسين، السن التي يركن فيه الإنسان للنهايات، ليس سن التمرد والتغيير الذي يصاحبه تغيرات نفسية وجسدية في شخص المتمرد. الغريب أن سرفانتس نفسه كتبها وهو في الثامنة والخمسين، أي قريب من سن بطله. المفارقة الأخرى تكمن في جسمه النحيف الذي لا يليق بفارس.
كان خروجه لإرساء العدل يمثل التزامًا صافيًا أو جنونًا صافيًا يذوب داخل هذا الالتزام. أو هو الجنون العاقل، فسيرفانتس يصف بطله بالشريف العبقري. تلك العبقرية التي تتجاوز حدود الذكاء، والطموح العاديين تجاه ممارسة جديدة لهذا الذكاء، لرفع سقف الطموح ليتعدى حدود الفرد العادي تجاه حدود إنسانية كونية، تقفز فوق حسابات الحياة ومخاطرها وتخوض التجربة حتى النهاية مهما كانت حجم التضحيات.
يفسر إيلان ستافانز مؤلف كتاب Quixote :the novel and the world سبب هذا التحول الذي حدث لكيخوته بأنها "أزمة منتصف العمر"، رجل فقد شغفه في الحياة، فتصبح الروايات هي عالمه، فيحولها إلى واقع ذاتي، ويضيف بأن تأليفه للرواية كان محاولة منه للتواصل مع الأحلام التي راودته في شبابه.
"إنه كتاب عن رجل في الخمسين من عمره، نفدت أفكاره، وربما نفدت طاقته على الحياة، فيُكرّس حياته كلها للقراءة. تُشكّل قراءة روايات الفروسية جزءًا لا يتجزأ من حياته، وفي لحظة ما، ينطلق خياله ليصبح أحد أبطال تلك الروايات. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية في عصرنا، نظرًا لطريقة ربطنا بين الخيال والواقع(..). لقد حالف الحظ سرفانتس، حين اكتشف الصلة بين عالم الخيال وعالم الواقع، حيث نسعى دائمًا لإيجاد ما يُبرّر وجودنا" كما يقول ستافانز.
الشخصية المفهومية
تعتبر دون كيخوته "شخصية مفهومية" بامتياز، خلقت داخل العالم الروائي، مثل فاوست جوته، وغيرهما وتناولها العديد من الفلاسفة المعاصرين مثل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، والإسباني ميجيل أو نامونو، الذي اعتبرها ممثلة للروح الإسبانية، وأيضًا ميشيل فوكو، وإيمانويل ليفناس وغيرهم.
يعرف جيل دولوز الشخصية المفهومية عند دون كيخوته، بالرغم من أنه لم يكتب عنها مباشرة، بل كتب عن شخصيات ديستوفسكي بأنها تلك "التي تقود من حيث غرابتها نحو خلق مفارقات تؤزم وضع الفرد في العالم وتجعله أمام تجربة فكر يغاير الواقع، ويكشف هشاشة العلاقات بين الأفراد في عالم يسوده الخداع وتتعذر فيه الحقيقة".
تحول البطل الروائي دون كيخوته إلى شخصية مفهومية تجاوزت الروائية تمثل تجربة حياة، لتتحول إلى شخصية إشكالية تفسح المجال لنوع من الاستثناء الذي يمنحها قابلية إيواء المفاهيم. أصالة "سرفانتس" لا تمكن فقط في ريادته للجنس الروائي، وإنما أيضًا في كونه مبدعًا لهذه الشخصية الإشكالية إن لم نقل الشخصية المفهومية بتعبير دولوز الدقيق.
فقد تعامل دولوز مع هذا الأحمق أو المجنون الذي يريد أن يفكر بطريقته الخاصة خالقًا من الأرض التي ولد فيها فضاءً لإبداع الغرابة، نوع من العلاقة بين الغريب وبين الموجودات الأرضية تتخذ حجمًا تراجيديًا ساخرًا.
هذا الفارس الذي يختلق المعارك والصدامات التي تغذي وجوده، وأوهامه، أو شخصيته الأخرى، وواقعه الآخر، حتى جروحه تتغذى عليها. هناك جملة شهيرة أصبحت كالحكايات الشعبية ليس لها مؤلف محدد، وإنما صاغها الضمير الجمعي، عن مدى قوة حضوره في ذواتنا وتجارب حياتنا باختلاف مراحلها "داخل كل منا هناك جزء من شخصية دون كيخوته".