برخصة المشاع الإبداعي: isupportstreetart
دونالد ترامب بين الكوميديا والتراجيديا

ترامب الجديد

وقاحة البلطجي ونهم المطور العقاري

منشور الثلاثاء 4 فبراير 2025

منذ إعادة انتخابه، وقبل أن يتسلم مهام منصبه، بدا دونالد ترامب مثل فيلٍ هائجٍ، يركض من غرفةِ تحفٍ إلى أخرى مثيرًا للفوضى. هدَّد بتحويل الشرق الأوسط إلى جحيم إذا لم يُطلق سراح الرهائن في غزة، ثم التفت عن هذه التراجيديا إلى الكوميديا معربًا عن رغبته في تحويل كندا إلى ولاية أمريكية مقدمًا إغراءات للكنديين بأنهم كزبائن في ولاية أمريكية سيحصلون على خدمات أعلى مقابل ضرائب أقل، ثم التفت عن التراجيديا والكوميديا إلى قليل من الدراما مع الدنمارك، وقد حَلَت جرينلاند في عينه!

لسنا في وضع يسمح لنا بالتفكير في كوميديا كندا ودراما الدنمارك، تكفينا التراجيديا التي تخصنا. وقد ترك تهديده مفتوحًا علينا لنخمن مساحة الجحيم الذي يهدد به ومن الذي سيُشوى فيه، رغم أن المواجهة صارت حصرية بين حماس والصهاينة بعد تحييد حزب الله واقتلاع النظام السوري وخمود إيران.

مصير المنطقة متداخل ولا يمكن حصر ألسنة اللهب في مكان واحد، وغموض تهديد ترامب ينسجم مع هذا التداخل. هو يريد الحصول على أقصى ما يستطيع من كل الأطراف لهذا يرفع سقف تهديده وسقف طلباته. وعندما نخصِّص الحديث أكثر عن مصر؛ فمصيرها لا ينفصل عن مصير فلسطين، بعكس الدعاية التي دأبت السلطة على بثها منذ كامب ديفيد إلى اليوم.

هذيان ترامب

على أي حال، مشكورًا، أعفانا ترامب من تعداد البراهين على حقيقة هذا التشابك، وعاد إلى غرفتنا الهشة بعد تنصيبه، وبرطع مجددًا، ليس بتهديد مبهم، بل بطلب واضح لتصفية القضية الفلسطينية عبر توزيع الفلسطينيين على مصر والأردن ودول عربية أخرى. ربما يريد أن يلحق بنصيبه من جرائم الحرب؛ فيلوِّح بهذه الجريمة ويدعو الآخرين إلى مشاركته!

بدا رد الخارجية المصرية معتبرًا؛ كلام معقول ومحترم في مواجهة كلام مدجج بالتعالي والعنصرية. لكن لا أحد يضمن أن يتحول ذلك الهذيان البغيض إلى ضغوط عملية، وعلينا أن نفكر في بارانويا ونرجسية ترامب باعتبارها ساتر الدخان الذي يخفي خلفه خططًا تتبناها الإدارة الأمريكية.

ما يسمونه "الشرق الأوسط" الذي هو بلادنا، بالنسبة للإمبريالية الأمريكية هو المكان الذي يجب أن تعيش فيه إسرائيل بأمان

وعلينا التفكير بأن ترامب ليس صدام حسين أو القذافي؛ فالرجل رئيس منتخب، ويمثل أغلبية تفكر بطريقته وهي التي حملته إلى منصبه، وهو بدوره يعبر عن توجهاتها ومصالحها. وعلى الأرجح؛ فاستهدافه لكندا وجرينلاند وفلسطين ليس اجتهاده الشخصي، بل عمل إدارة ومستشارين اختاروا ثلاث خواصر ضعيفة، يمكن أن تتحقق من خلالها درجات من الربح السهل.

أيديولوجيا الإمبريالية عميقة الجذور ولم تتغير. ورثتها الولايات المتحدة مع الدور البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية. وأهم أسس الإمبريالية هو الاعتماد على الخارج في حل المعضلات الداخلية للدولة الاستعمارية وتمويل رفاهيتها.

هذا الأساس الاقتصادي المتين للاستعمار، تسنده أيديولوجيا عنصرية تجعل من الآخرين أجناسًا أقل من البشر استغلالها مشروع في مقابل التحضر الذي ستحصل عليه بإخضاعها للاستعمار. قد تختفي هذه العنصرية في خطاب ناعم مهندم أو تظهر علنية متحدية كما في خطاب رجل بنى ثروته من الاستثمار في الملاهي، وما يميز عالم الملاهي هي الصراحة الوقحة. وربما كانت بيئة الملاهي هي السبب في الفصام المضحك بين ابتذال النبرة في صوت ولغة جسد ترامب من جهة، وبين عنف خطابه من جهة أخرى. أكثر من هذا المظهر لا شيء جديد في الممارسة الأمريكية، ولا شيء مختلف بين الرئيس الأمريكي المنصرف والرئيس الجديد.

البلطجة الأمريكية

لم يرَ بايدن في صراع يهدد سلام العالم سوى هجوم السابع من أكتوبر، وكأن التاريخ ابتدأ بهذا الهجوم، ولم يعنِه هو وكل إدارته أن الهجوم جرى على أرض محتلة وأن المستوطنين المسلحين ليسوا مدنيين، ولم يعنِه كذلك أن الرد الإسرائيلي جاء على هذا النحو المدمِّر للحياة في غزة، ولا اهتز لمقتل عشرات الآلاف من الأطفال. ولم تحترم الولايات المتحدة في وجود بايدن قرار المحكمة الجنائية الدولية ومذكرات اعتقال نتنياهو ووزير دفاع الكيان، لم تفكر الولايات المتحدة سوى في ضرورة استسلام حماس.

وليس هناك جديد في رؤية ترامب ينذر بجحيم من أجل عشرات الرهائن الإسرائيليين دون أن يضع أي اعتبار لعشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين أو يرى الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال أو يَرق لمقتل الأطفال اليومي، ولا التدمير المتعمد للبيوت والمستشفيات والمدارس في غزة.

ما يسمونه "الشرق الأوسط" الذي هو بلادنا، بالنسبة للإمبريالية الأمريكية هو المكان الذي يجب أن تعيش فيه إسرائيل بأمان وأن تمارس بلطجتها على الجميع، وعلى الكائنات التي تعيش حولها الرضا بالهزيمة المطلقة، وإن كان لها أن تعيش، فلتعش وديعة كالخراف.

السرد هو أخطر سلاح في الكون، لم تستغنِ عنه حتى الأديان، لأن من يمتلك القصة يمتلك التفوق الأخلاقي والمصداقية

هكذا كان سهلًا على ترامب أن يطلب بصفاقة بلطجي ونَهَم مطور عقاري، تصفية القضية الفلسطينية، واستيعاب أصحاب الأرض في دول الجوار، وترك فلسطين للمستوطنين اليهود، وهو ليس مجنونًا كما نحب أن نتوهم، لكن ازدراءه للمنطقة يعفيه من الجهد المطلوب لتنميق الكلمات.

وللمفارقة، فقد فكَّر ترامب في دفع سكان غزة باتجاه الجنوب (مصر) في لحظة اندفاعهم إلى شمال القطاع متحمسين وفرحين بالعودة إلى الخرائب، ليخيموا وسط أنقاض بيوتهم التي كانت. لم يضع ترامب في ذهنه بشرًا يتمتعون بقوة الآلهة، ولا ينظرون إلى أرضهم نظرة المطورين العقاريين ولا نظرة زبائن كومباوند يمكنهم أن يهجروه إلى آخر جديد إذا ما تدهورت خدماته.

عمى البصر والبصيرة

ولترامب عينان رأى بهما أن عملية تبادل الأسرى، التي كان له بعض الفضل في إتمامها، تجري بين قوتين متكافئتين، وأن أصحاب الأرض صمدوا عامًا وربع العام في مواجهة بلاده والصهاينة. والترتيب هنا مقصود؛ فالحرب أمريكية إسرائيلية وعار الإبادة أمريكي إسرائيلي، دون أن ننسى حصتنا من العار بخذلان الفلسطينيين.

لم تتمكن إسرائيل من القضاء على حماس كما تصورت وكما زعمت وكما أرادت الولايات المتحدة؛ فهل يمكن أن يتصور المطور العقاري الأمريكي أي نتيجة أخرى كانت يمكن أن تسفر عنها هذه المواجهة الطويلة دون المليارات التي ضختها الولايات المتحدة في الاقتصاد الإسرائيلي ودون السلاح ودون أعمال الحرب المباشرة التي قامت بها أمريكا نيابة عن الكيان المحتل؟!

عجَز ترامب عن رؤية لحظة المجد الفلسطيني، لا في صمود حماس، ولكن في بطولات العُزل وعِزَّة العائدين إلى ديارهم والذين يُعول عليهم وحدهم إفشال نواياه الإجرامية. وعلى نفس القدر من العمى لم يرَ الهزيمة المروعة للخطاب الإسرائيلي في العالم. لم تعد هذه الجماعة المسلحة تسيطر على سردية الصراع. وهذه أخطر خسارة للدولة المفبركة، التي تأسست بالاستيطان المسلَّح بينما عاشت كل عمرها بفضل سيطرتها على القصة. السرد هو أخطر سلاح في الكون، لم تستغن عنه حتى الأديان، لأن من يمتلك القصة يمتلك التفوق الأخلاقي والمصداقية.

عودة النازحين عن طريق وادي غزة بشارع البحر إلى الشمال سيرًا على الأقدام، 27 يناير 2024

وطوال تاريخها استطاعت إسرائيل أن تسيطر على حدود القصة. تجعل من كل لحظة في إجرامها بداية جديدة للتاريخ. اليوم ندك غزة لأن فلسطينيًّا طعن مستوطنًا، نقتحم المخيم لأن مقاتلًا يختفي فيه. وليس لدى المتابع الذي يجهل القصة الأصلية الوقت ليسأل عن تاريخ الصراع والقصة الأصلية للتأسيس الدموي لإسرائيل، وليس هناك من ينبهه إلى أن منظمة التحرير ألقت السلاح وانخرطت في عملية سلام لم يحدث أبدًا بسبب التغول الإسرائيلي.

وإثر هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 أرادت إسرائيل أن تجعل من تلك اللحظة بداية للتاريخ. ونجحت في السيطرة على السرد؛ فكان التعاطف الجارف معها، ضد الهجوم. لكن إطالة أمد العدوان نبَّه الناس إلى أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض وأن المستوطنات غير شرعية وأن المقاومة حق للشعوب تدعمه المواثيق الدولية.

الشباب على نحو خاص، الذين لم تمت قلوبهم بعد، أدركوا أنها حرب إبادة لشعب بكامله، وبدأ السعي إلى فهم القصة الأصلية، وتوالدت الأسئلة عن بداية تأسيس إسرائيل بالعنف، عن ضمير الغرب المجروح بمحارق اليهود الذي عوض اليهود من خلال جريمة جديدة، وجعل من إسرائيل عِجلًا مقدسًا دون وجه حق، ويغض الطرف عن تحول الضحايا السابقين إلى مجرمين. هذه القصة الأصلية بدأت بأخذ مكانها في وعي العالم، وهذه البداية مرشحة للاتساع حتى تفقد إسرائيل أخلاقية وجودها كما حدث لنظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا.

وكم نفتقد الآن أصواتًا بحجم إدوارد سعيد، لكن ذلك لا يمنعنا من المحاولة. كل عربي يستطيع أن يخاطب العالم بأي لغة كانت، وفي حدود قدرته على الانتشار، يستطيع أن يساند القصة الفلسطينية بكل انسجامها وخلوها من الثغرات، بكل عدالتها وتفوقها الأخلاقي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.