تصميم المنصة

أن نرى أنفسنا في المكان الصحيح من الحياة

منشور السبت 15 فبراير 2025

في مثل هذه الأوقات الكابوسية التي نعيشها، روحيًا وماديًا، سواء داخل عالمنا الصغير أو الكبير، وتوارد أحاسيس "الساعة الأخيرة" التي تجعلنا نشك في إنسانيتنا وفي جدوى ممارسة الحياة بصرامة الزُّهاد، وتتزايد رغبتنا في نفض أيدينا عن كل ما حولنا.

في مثل هذه الأوقات الحرجة، التي تكررت خلال العقود التي وعيتُ فيها على حجم المعاناة التي تحيط بالوجود الإنساني وتعطله عن التحقق، سواء في صور حروب، أو أوبئة، أو تنازلات جمة للضمير الإنساني نفسه، وانحسار للروح المضيئة، مع تصاعد حصار أخلاقيات السوق والبيع والشراء.

في مثل هذه الأوقات التي تهتز فيها قيمة الفرد، وتتعرى هشاشته أمام هول ما يواجهه في حياته اليومية، ويطارده في ذاكرته وينتظره في غده؛ يقفز إلى ذاكرتي كتاب رامبو وزمن القتلة للروائي الأمريكي هنري ميلر، الذي قرأته عدة مرات، وفي كل مرة كنت أستعيد بعض الثقة في أفكار وممارسات ومخاطر حياتية يجب على الإنسان الفرد أن يواجهها، أو على الأقل يؤمن بجدواها ويطمح إليها، حتى يستعيد خيط الثقة بينه وبين نفسه وضميره وروحه المضيئة أولًا، ثم بينه وبين الآخرين.

ضد الهشاشة

غلاف كتاب رامبو وزمن القتلة، تأليف هنري ميلر، ترجمة سعدي يوسف، طبعة خاصة مع جريدة السفير، دار المدى 2014

يؤكد الكتاب أهمية السعي الإنساني للمعرفة مهما أحاط بها من خطورة، لكنه الطريق لتجاوز الفرد لأزمة وجوده، ومَنْح حياته معنى إبداعيًا خلاقًا، وأيضًا مقاومته لفساد الحياة وخراب الروح، والبحث عن الاتساق بين حياته الداخلية وأحلامه عن نفسه، وحياته الخارجية، وطرق تحقيقه لها.

هذه الروح كما يرسمها الكتاب، تمثلت في الشاعر الاستثنائي آرثر رامبو. منذ ديوانه فصل في الجحيم، الذي كتبه في السابعة عشرة، وأمدَّ به الفن والحياة بطاقة من النقاء والأسئلة والإرباكات الوجودية والتناقضات الأخلاقية، عبر تجاربه الخلاقة شديدة التناقض، ومواجهاته ونقده الجذري للحضارة الأوروبية وهربه منها إلى الشرق.

يعيد رامبو الثقة في مثل أعلى حاول الوصول إليه عبر شعره وحياته، وأعاد الثقة لمعنى المقاومة، سواء بالمعرفة، والموهبة الفائقة التي حازها في السابعة عشرة، والتي تصل لمرتبة العبقرية، أو بالموقف الشخصي، عندما هجر الشعر تمامًا وسافر للحبشة وصحراء عدن، ومر على مصر، من أجل أن يرى/نرى نفسه/أنفسنا في المكان الصحيح من الحياة.

وحدة الأدب والحياة

هذا الكتاب بلغته الإشراقية التي يستعرض بها ميلر حياة هذا الشاعر الاستثنائي والمواجهات التي كانت تحيط بحياته وتحولاته الجذرية، واعتباره ضمير عصره الذي يمكن من خلاله رصد، على الجهة المقابلة، الفساد وخمود الروح وانتشار القتلة المقنعين باسم الحضارة، وهم على طول الخط ضد الشاعر وما يمثله في الحياة.

الفتى الشاعر الذي وحد بين الأدب والحياة وأصبح رجل الفعل بامتياز. يسمى رامبو "الرائي"، برغم سنه الصغيرة، وتجاوزه المحدود تجاه اللامحدود. هذه الرؤية التي تعتمد على حساسيته وطريقة نظرته وممارسته للحياة، وكيف أيقظ العالم في لحظات كابوسية في نهاية القرن التاسع عشر الذي يمثل قمة المعاناة الإنسانية.

كان قرنًا معذبًا بالإيمان، كما يكتب(*) ميلر، هذا "القرن الذي حلت عليه اللعنة فكان يجمع بين عنف التناقض والبحث عن الحقيقة والتطابق بين الداخل والخارج هو مبلغ منتهاه" وتخرج منه عظام ممسوسين بالجنون مثل نيتشه وديستوفسكي وغيرهما. ربما هذا المس الرؤيوي والفني كان مثيله في مصر شخصًا مثل سيد درويش.

حياة قصيرة متناقضة

في منتصف حياته القصيرة، توقف رامبو وترك الشعر تمامًا، وقضى نصفها الآخر في السفر والسير والتسكع والكسب في صحراء عدن والحبشة، حيث عمل تاجرًا للعبيد في مدينة هرر، متنكرًا للنصف الأول من حياته والطموحات الإنسانية العريضة. هذا التناقض في المسلك كانت سمة هذا العصر، ربما بداية أمل لظهور هيكل إنساني متوحد ومتسق من خلال ممارسته لهذا التناقض.

ربما الإنسان القادم الذي سيعمر بلا أمراض أو أخطاء جينية سيكون بلا روح مثل أرواحنا

هذا الخيار الذي وصل إليه إنسان القرن التاسع عشر، كما يشير ميلر، بسبب أن معرفته أصبحت بلا حكمة، وراحته بلا أمان، وتقدمه وحداثته بلا حداثة، بل إسراف في البربرية، وخواء في الروح.

ربما الوضع الآن أكثر صعوبة ولكن هناك عزاء في تلك المحاولة الإنسانية التي اجترحها ذلك الفتى الريفي المولود في شارفيل، ليرصد بذرة الفساد في قلب الحضارة الأوروبية القائم على الاستغلال وكشف القناع مبكرًا عن الوجه الآخر لهذه الحضارة الذي فرَّ منها، لأنه كان يؤمن في بذرة روحه بأن التجربة الإنسانية ورغبة التحرر تستحقان السهر عليهما وتجويدهما.

كابوس مضيء

مع الأجواء الكابوسية التي تسيطر على العالم وعلى منطقتنا العربية الآن، يطفو مصطلح نهايات العالم. لا تأتي النهايات عادة فهي مؤجلة دائمًا، ولكن تستمر الأوضاع في التحول والتحلل بدون نقطة انكسار واضحة، بل ذائبة وسط هذا البريق، ويتمدد هذا الكابوس المضيء شديد اللمعان ليستعمر الجوانب الأكثر خفاءً في مشاعرنا وذاكرتنا.

يأتي السؤال دومًا؛ ماذا نفعل كأفراد عُزّل أمام هذه التحولات الجذرية والتحللات؟ أصبح وجودنا الإنساني وتبريره يعبُران بامتحانات عديدة بسبب هذه التحولات التي لا يقدر على مسايرتها، وتغيير موقعه منها بسبب جبروتها، ليأخذ مكان المبادر أو الفاعل؟

ماذا تفعل هذه الذات الوحيدة التي لم يعد لها كثافة؟ هل هناك طريقة نطل بها على المستقبل بدون أن نفقد إنسانية هذه الذات وضوء هذه الروح؟ إنها لحظة دفاع عن هذه الذات والإنسانية التى استلمناها كعهد شفاهي ومادي.

بالفعل هي ليست إنسانية صماء مقدسة، بل متغيرة حسب موقعها من التقدم والاعتبارات التي تمنحها الجدارة وأدوات مقاومتها، وهنا يظهر صوت الفنان، الشاعر، أو السياسي أو رجل الدين، ليشكلوا هذا الصوت الآخر الذي يضبط جنون التقدم وصور استغلاله، ويكشف عن الفساد الذي يتراكم داخل أكثر صوره جمالًا وجاذبية. "غدت الحياة للرجل الحديث إشباع الرغبة".

مكاسب مُرَّة

بورتريه للشاعر الفرنسي آرثر رامبو مرسوم عام 1872

وسط هذه العصور المضطربة يمكن لأي منا أن يعثر أو يتعثر في طريقه بمكاسب فائقة. رغم كابوسية المناخ والأحداث فإنها مكاسب مُرَّة، مثل أغنياء الحرب، الذين ينتعشون وقت الأزمات. هناك سؤال ومسؤولية سابقان على أي منا، وإغراء المكاسب والاستسلام لبريق الكابوس الاصطناعي هذا وصور التقدم والتفوق، كلها قشور لأفعال ومكاسب تغلفها المرارة.

نبحث عن تجارب تهزنا وتعيد صياغة الفكرة للوصول لهذا القبس من النار، الإيمان، الذي يرقد داخلنا، لنعيد لهذه الذات الحقيقية احترامها وفاعليتها أمام النهايات الكابوسية والهزات التي تزلزل كل مرجع وقفنا عليه من قبل ونظرنا من خلاله على الفردوس سواء الأرضي أو السماوي.

ربما الإنسان القادم الذي سيعمِّر بلا أمراض أو أخطاء جينية، سيكون بلا روح مثل أرواحنا، فالعمر المديد سيكون هناك شكل آخر لاستخدامه، وأسئلة أخرى ليس من ضمنها الاتساق أو البحث عن الذات، أو الحقيقة، وليس من بينها الإيمان أو الخوف من الموت، جميعها كونت بذرة هذا القبس الناري لهذه "الذات الحقيقية".

سر إيمان رامبو

هذه الذات التي من أجلها قام رامبو بكل هذا الجهد والمحاولات والمناورات والمغامرات، وترك بلده ليجول العالم بحثًا عنها، والتي سماها ميلر "الذات الحقيقية" في خمسينيات القرن العشرين "نحن الآن نتهيأ لموت الذات الصغرى من أجل أن تطلع الذات الحقيقية".

هذه الذات الحقيقية منحت رامبو، كما يصفه ميلر، إحساسًا عارمًا بالحرية والتحرر "بلغ إحساسه بالحرية حدًا هي الهدف وهي الإنجاز". ويضيف "نحن لا نبدأ في الحياة إلا حين نجعل أنفسنا جزءًا من الخلق، ليس الموت هو الذي يتهددنا في كل خطوة نخطوها، لكنها الحياة". ثم "لقد أدرك رامبو أن ثمة خطورة وراء الفن، وضع قدمه على العتبة ثم تراجع من الفزع أو خوف الجنون".

من داخل الفن الذي هو فِعلُ خلقٍ خالصٍ، تكوَّن الإيمان. عند وفاة رامبو قال قس الاعتراف لأخته إيزابيل "أخوك لديه إيمان"، كأنه اكتشف سرًا، وهو بالفعل سر، أن يقترب الإيمان من كل هذه التناقضات والتجارب المارقة، وطرق البحث عن الحقيقة، وأحيانًا تدمير وتخريب هذه الحقيقة. إنه إيمان من نوع جديد، كالسر تمامًا، يحتاج الزمن لاكتشافه وفك شفرته.

يصف ميلر إيمان رامبو بأنه "إيمان أكثر الأرواح يأسًا، المتعطشة إلى الحياة،إأنه إيمان الساعة الأخيرة ولكنه إيمان". يريد ميلر في كتابه أن يقول إنه في أكثر الأوقات ظلامية وكابوسية، هناك أرواح تسعى لإقامة "عيد على الأرض"، وتضحي من أجل ذلك.

الآخر عند رامبو

عندما كتب رامبو "فصل في الجحيم" في النصف الأول من حياته، اتخذ فيه موقفًا جذريًا من أسلافه البيض الغاليين، أصحاب الحضارة الأوروبية، أما في النصف الثاني فأخذ يدمِّر هذه الحضارة في صورته الشخصية، أصبح ضحية وجلادًا معًا كما يوحي ميلر.

كان الآخر بالنسبة إليه طريقًا للهرب من حضارته "كان المكان الغريب فقط هو الذي يستثير ذهنه". و"كان يشعر أنه في بيته لو ذهب بعيدًا، أما الشرق فكان دائم الإلحاح عليه".

يكتب رامبو في إحدى رسائله من هرر عن أهل الحبشة الذين عاش بينهم النصف الثاني من حياته "ليس أهل هرر أكثر مكرًا وسفالة من الزنوج البيض في البلدان المسماة متحضرة. الطريقة فقط ليس نفسها، بل هم أقل خبثًا، ويمكنهم في حالات معينة إظهار معرفة وإخلاص أكثر. إن المرء يكون إنسانًا بينهم".

التحول

يفسر ميلر تحول رامبو الجذري بأنه "تنازل وهو على عتبة الرجولة تمامًا، عن كنزه إلى تلك الغريزية السرية، قوة الموت فينا". وأيضًا يعتبر أنه "مضى إلى الضد وأصبح العدو نفسه الذي كرهه. تنازل وأمسى إلهًا متشردًا يبحث عن مملكة حقيقية". ثم يقول "كان رامبو المنتحر الحي" الذي "عندما رأى أنه لا يستطيع أن يصلح نفسه، فهو يستطيع أن يصبح شخوصًا لا منتهية العدد". و"بدلًا من أن يُنزل الأب، طابق نفسه معه، وقد فعل هذا سواء بإيمانه بالسلطة أو بتجاوزاته وتشرده ولا مسؤوليته".

يكتب رامبو أن "معركة الروح وحشية كمعركة الرجال، لكن رؤيا العدالة هي بهجة الله وحده". ولا ينسى شروط معلمه الشاعر بودلير حين يقول "كل من لا يتقبل شروط الحياة، يبيع روحه". وربما لهذه التحولات في موقع وجغرافية الذات، تحول الشاعر الرائي إلى تاجر للعبيد، بالمعنى السوقي للكلمة. يصف ميلر حياة وموت رامبو كليلٍ ممتد "لقد ولد بذرة وبقي بذرة وهذا هو معنى الليل الذي يحيط به".


(*) جميع الاقتباسات في هذا المقال من كتاب "رامبو وزمن القتلة" لهنري ميلر، ترجمة سعدي يوسف، طبعة خاصة مع جريدة السفير، دار المدى 2014