
من كفر السنابسة إلى تيك توك.. هيبة الدولة على أجساد الفقيرات
خلال أسابيع، تصدّرت الفضاء العام حادثتان تبدوان ظاهريًا بلا صلة؛ الأولى مأساة بنات كفر السنابسة، حيث لقيت 18 فتاة حتفهن أثناء توجههن إلى عملهن، والثانية حملة اعتقالات طالت مجموعة من التيكتوكرز. قد يظن البعض أن المسافة الزمانية والمكانية بين القصتين تُضعف أي رابط بينهما، لكن الحقيقة أن كلتيهما تكشف عن وجه واحد لأزمة أعمق؛ محاولة النساء الفقيرات النجاة في ظل اقتصاد جائر ومجال عام مُؤمم لا يتيح لهن سوى الهامش، ثم يعاقبهن عليه.
وراء القصتين يتشابك الفقر البنيوي مع الأبوية السلطوية والطبقية الاجتماعية، حيث لا تسعى الدولة والمجتمع لمعالجة جذور الإفقار، بل لإنتاج أدوات تأديب تعيد النساء إلى فقرهن مطيعات صامتات.
الفقر ومحاولات النجاة
تعاني النساء في مصر إفقارًا هيكليًا يعوق أي مسار لاستقلالهن الاقتصادي. وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لا تتجاوز مشاركة النساء في سوق العمل الرسمية 15%. وبينما يبلغ معدل بطالة الإناث 17.8%، فإنه لا يتعدّى 4.7% للذكور، رغم أن نسبة الإناث المنخرطات في التعليم الجامعي تبلغ 48.8% من إجمالي 3.7 مليون طالب جامعي، ما يُحوِّل التعليم إلى شهادة بلا جدوى اقتصادية.
ويزداد الأمر تعقيدًا في المناطق الريفية، إذ يؤدي انخفاض جودة التعليم الأساسي إلى تكريس التهميش بدل مقاومته، لتظهر نتائجه في ضعف مهارات التشغيل وتقييد فرص الهروب من الفقر، فضلًا عن تركز عمل النساء بشكل كبير في القطاع غير الرسمي، الذي يفتقر للحماية القانونية والضمان الاجتماعي؛ وفقًا لبيانات مسح سوق العمل في مصر، بلغت نسبة النساء العاملات بأجر غير رسمي 27% في عام 2018، قبل أن تنخفض بشكل ملحوظ لتصل إلى 18% في عام 2023.
هذا الواقع ينعكس بوضوح في هيكل برامج الحماية الاجتماعية، إذ تشكل النساء 75% من المستفيدين من برنامج "تكافل"، في إشارة إلى حجم الفجوة الاقتصادية والنوع الاجتماعي، كاشفًا كيف تتحول "الرعاية" إلى بديل هش عن التمكين، ويزيد مخاطر محاولات النجاة من الفقر.
تتعدد هذه المحاولات ومن بينها العمل في جمع المحاصيل في المواسم الزراعية، وفتح لايفات على تيك توك. لتتنوع المخاطر ما بين أجور زهيدة وغياب للتأمين وافتقار لأبسط معايير العمل اللائق، والملاحقة الأمنية والتشهير، فيقعن فرائس الموت الصامت، والملاحقة القانونية والوصم الاجتماعي.
الغضب الشعبي المعكوس
تُظهر هذه القضايا كيف يمكن أن ينصرف الغضب الشعبي بعيدًا عن جذوره الحقيقية، ليركّز على الظواهر السطحية، بدلًا من طرح أسئلة أعمق عن السياسات والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تكرّس الفقر وتقيّد حياة النساء. وبينما يتعيّن توجيه الغضب نحو الدولة المسؤولة عن الإفقار، تُصوَّب السهام نحو الفقيرات إذا حاولن النجاة.
تتبنى الطبقة الوسطى خطابًا أخلاقيًا مصحوبًا باحتقار طبقي يعتبر أي محاولة لتحقيق دخل سريع تهديدًا للنظام الاجتماعي
بعد حادثة كفر السنابسة، بدل أن يُترجم الغضب الشعبي نحو الحكومة والمسؤولين عن البنية التحتية والنقل غير الآمن وظروف العمل المهينة إلى محاولات جادة للمساءلة، قُورنت الفتيات "الشريفات" شهيدات لقمة العيش بسوزي الأردنية التي تثير الجدل بسبب محتواها على السوشيال ميديا. خرجت سوزي عن الأعراف المجتمعية ليس بكلماتها فقط، ولكن أيضًا بتحققيها دخلًا واستقلالًا نسبيًا. مثل هذه المقارنات تعكس الانحياز الطبقي والذكوري الذي يشيطن النساء اللواتي يخترن مسارًا مختلفًا للنجاة.
ولا يتوقف لوم النساء عندهن، بل يمتد إلى أهاليهن، الفقراء أيضًا، في حالة كفر السنابسة لأنهم تزوجوا وأنجبوا بلا شعور بالمسؤولية، دون النظر إلى كونهم مواطنين مسؤولين من حكومة الدولة. وفي حالة التيك توك من أجل أن "يلموا" بناتهن ويتخلوا عن دياثتهم.
في حالة النساء والتيك توك، تتبنى الطبقة الوسطى خطابًا أخلاقيًا مصحوبًا باحتقار طبقي، يعتبر أي محاولة للظهور أو تحقيق دخل سريع تهديدًا للنظام الاجتماعي، ما يخلق تسامحًا مع العنف ويفتح الباب للتحريض ضد النساء.
في هذا السياق تبرز أيضًا أم سجدة وأخواتها من النساء القادمات من الطبقات المهمشة. نساء لا يتناسب جمالهن مع معايير الجمال السائدة، ويتحدثن بلهجة شعبية تُوصف بـ"السوقية"، تصلح مادةً للسخرية والترفيه، وإعادة تدوير جملهن الشهيرة، إلى أن يبدأن في جني الأرباح ليهددن حينها قيم الأسرة.
يتسامح المجتمع مع تحويل هؤلاء النساء إلى محتوى كوميدي أو مادة استهلاكية على السوشيال ميديا، لكنه يقف بالمرصاد إذا تربَّحن من هذه السخرية وحققن استقلالًا اقتصاديًا.
هيا بنا نعاقب سوزي
هذه الازدواجية تكشف كيف تمتد السيطرة الطبقية حتى إلى الجسد والوجه والصوت، حيث يُسمح للفقر بأن يكون مسليًا، لكن لا يسمح له بأن يكون مُنتجًا للثروة، خاصة لو كان الفقير امرأة.
تعرضت سوزي الأردنية لوصم اجتماعي واسع بعد مقطعها الشهير "آه؟ الشارع اللي وراه" وهي تخاطب والدها بنبرة أثارت انتقادات الجمهور. أُلقيَ القبض عليها ثلاث مرات ووُجِّهت لها تهم من بينها "الانضمام لجماعة محظورة"، وأكاد أجزم أنها لا تدرك معنىً لذلك أصلًا. فيما صفق المتابعون للاتهامات بحماس يليق بمجتمع يكره النساء.
تجاهل المجتمع أنها مراهقة صغيرة عاشت الفقر والإهمال، وأن والدها الذي يُفترض أنه مسؤول عنها سرق أموالها ولم يوفّر لها حماية أو رعاية، كما تفعل الدولة مع الفقراء. وبدلًا من التعاطف معها اختُزلت في صورة الفتاة الخارجة عن القيم، بينما لم يُوجَّه أي لوم للأب أو للظروف الاجتماعية التي صنعت هشاشتها.
ربما تذكرهم بعجزهم عن الثورة في وجه دولة تفرض عليهم الصمت؛ يلومون سوزي لأنها تجني أرباحًا أكثر من المهندس والطبيب وكأنها المسؤولة عن تدني الأجور وتعويم العملة وانخفاض قوتها الشرائية وانهيار البنية التحتية وربما مشكلة السلام في الشرق الأوسط!
ينطوي هذا اللوم على جرعة أبوية تميز المجتمع وتستخدمها السلطة من أجل إظهار قدرتها على حماية "القيم العامة" وتعزيز شرعية سلطتها. إذ يمثل اعتقال بنات التيك توك أو التشهير بهن طقسًا تأديبيًا يؤكد رفض أي استقلال اقتصادي نسائي خارج السيطرة الرسمية. وتتزامن هذه الرسالة مع التسامح مع العنف الذكوري الشعبي الذي يضمن إعادة النساء إلى الهامش. وتتماهى هذه الآلية مع ما وصفته آنجيلا ديفيس في تحليلاتها حول السجون، إذ ترى أن عقاب الفقراء ليس هدفه معالجة الانحراف الأخلاقي بل إلهاء المجتمع عن الأسباب البنيوية للفقر والتهميش.
الانتقائية القانونية وتأميم المجال العام
تفتح الصياغات الفضفاضة للقوانين الباب للممارسات الانتقالية الصارخة في تطبيق القانون. فمثلًا تنص المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات على معاقبة كل من "اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري" بالحبس والغرامة. ولكن القانون لا يحدد ماهية هذه المبادئ والقيم، ولا أشكال الاعتداء عليها.
ثم أي أسرة تلك التي يقصدها القانون؟ هل تلك التي في الحضر أم الريف؟ في الطبقات العليا أم الشعبية أم المهمشة؟ ولماذا تُحصر في سلوكيات النساء على الإنترنت؟ لماذا لا تمثل الرشوة والفساد والإفقار الممنهج للأسر انتهاكًا لقيم الأسرة؟ وكيف لا تجرح هذه القيم سوى النساء الفقيرات خلال محاولتهن النجاة؟ لماذا لا توجَّه مثل تلك التهم للتيك توكرز من الطبقات العليا؟ بالطبع ليست هذه دعوة للقبض عليهن لكنها أسئلة في محاولة لفهم التوظيف الانتقائي الذي يجعل من جسد المرأة ساحة لإظهار هيبة الدولة.
ما معنى تهمة إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أصلًا؟ ولماذا لا يُحاكم بها المحرِّضون على العنف الطائفي أو العنف ضد النساء؟ فالسوشيال ميديا مليئة ببوستات تحريضية ضد النساء، أحدها كتبه المحامي مُقدّم البلاغات، وهو يطالب وزارة الداخلية بانتداب أحد أفرادها لاغتصاب الفتيات المقبوض عليهن في محبسهن. فيما استغل محام آخر الفرصة للتقدم ببلاغ ضدهن بتهمة الإساءة للمرأة المصرية! وكأن التهم في القانون لا تكفي.
من الممكن دومًا تجنب المحتوى الذي لا يوافق أذواقنا أو قيمنا لكن لا يمكن تجاهل حقيقة أننا جميعًا ضحايا محتملون لقوانين غامضة ومطاطة
بهذا يتحول القانون إلى أداة لضبط النساء والفقراء وتأميم المجال العام لصالح السلطة بدلًا من حماية الضحايا. ومع اختفاء القنوات الآمنة للاحتجاج وغياب أي مساحات حقيقية للتعبير الشعبي عن الغضب تجاه السياسات الاقتصادية، يتحول الغضب الشعبي إلى مسار معكوس.
بصفتي امرأة ومصرية أرى أن الإساءة التي نتعرض لها هي الحرمان من التمكين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتسامح مع العنف ضدنا، ولا علاقة للأمر بأفعال امرأة أخرى تعبِّر عن ذاتها وثقافتها ونمط حياتها على حساباتها الخاصة على السوشيال ميديا.
قد أُتهم بانحيازي للنساء، لا سيما الفقيرات، وهي تهمة لا أنفيها فأنا مثلهن امرأة تتعرض للتمييز ولي أيضًا محاولاتي اليومية للنجاة، وإن كنت أعي تمتّعي بامتيازات أكبر. لكن انحيازي الأعمق هو لثقافة الاختلاف، ولحرية الفكر والتعبير، باعتبارهما حجر الأساس لأي تحول حقيقي، وضمانة لبناء مجتمع عادل ينهض بقوة قانونه لا بعقوباته. منحازة أكثر لمنظومة العدالة المعتمدة على نصوص قانونية واضحة.
من الممكن دومًا تجنب المحتوى الذي لا يوافق أذواقنا أو قيمنا، لكن لا يمكن تجاهل حقيقة أننا جميعًا ضحايا محتملون لقوانين غامضة ومطاطة، تجرّم الفقر والأنوثة والتعبير بدلًا من أن تحمي الحقوق وتواجه جذور الظلم.
المطلوب اليوم ليس المزيد من الحجب أو العقاب، بل تحوُّل جذري في السياسات التعليمية والاجتماعية والاقتصادية، تعليم بجودة حقيقية يرتبط بسوق عمل منصف، حماية اجتماعية شاملة غير مشروطة، منظومة عدالة تعتمد على نصوص قانونية واضحة لا على الانطباعات والتوجهات الأخلاقية، وفضاء عام يُصان فيه الاختلاف لا يُقمع.
وحده إصلاح هذه السياسات يمكن أن يمنح المجتمع أدوات حقيقية لإدارة الاختلاف وتوجيه الغضب في مسارات بنّاءة. مجتمع يحترم تعبير الأفراد عن ذواتهم، ويُعلي من قيمة حرية الرأي، ويعيد الاعتبار لمؤسساته الثقافية والفنية، فيُميّز الرديء وينقده أو يتجاهله، لا أن يطالب بوصمه أو حجبه أو الانتقام منه. مجتمع يعرف أن أسوأ ما في الإنترنت يمكن تجاوزه بزر واحد: بلوك.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.