تصميم: سيف الدين أحمد، المنصة 2025
تيكتوكرز

الحملة ضد التيكتوكرز.. كيلا يعلو صوت الهامش

منشور الاثنين 11 أغسطس 2025

في الأيام القليلة الماضية، بدأت السلطات المصرية حملة أمنية لا تزال مستمرة استهدفت عددًا من الفلوجرز على تيك توك. خلال ساعات، أُلقي القبض على عدد من أبرز التيكتوكرز المعروفين وُجِّهت إليهم تهمٌ متنوِّعةٌ ما بين نشر محتوى خادش للحياء، والإخلال بقيم الأسرة المصرية، والتربح من أنشطة غير أخلاقية، وصلت في بعض الحالات إلى اتهامات بحيازة أسلحة ومواد مخدِّرة والانخراط في عمليات غسل أموال.

ما كان مُثيرًا للدهشة ليست الاتهامات في ذاتها، بل ردود الفعل على السوشيال ميديا، خصوصًا تيك توك، فانتشرت صور المقبوض عليهم، وتوالت فيديوهات التضامن، مظهرة تعاطفًا واسعًا في مشهد بدا أشبه بموجات الدعم التي اعتدنا أن نشهدها مع النشطاء السياسيين أو المعتقلين على خلفيات حقوقية.

هذا التضامن لم يكن ظاهرةً عابرةً أو انفعالًا مؤقتًا، بل عبَّر عن تحوُّل لافت في الفعل الشعبي الرقمي، إذ استُخدمت الأدوات الرقمية لنصرة فئة جديدة صعدت من الهامش الاجتماعي والثقافي هم صُنَّاع المحتوى الشعبي الذين وجدوا في تيك توك نافذةً للتعبير والاعتراف بعيدًا عن وصاية النخب وقيود المؤسسات الإعلامية التقليدية.

بدتْ المظاهرُ مألوفةً من حيث الشكل، لكن المضمون تغيَّر جذريًا. لم تعد منصات التضامن ساحات نخبوية تحتكرها النُخب الثقافية والسياسية، بل تحوَّلت إلى فضاءات شعبية تقف ضد ما تعتبره ظلمًا يمسُّها.

جوهر المشكلة ليس في طبيعة المحتوى بل في هوية منتجه وموقعه الطبقي ومدى نفاذه إلى المجال العام

لم يكن الحافز توفير تعبئة سياسية منظمة أو حشد تقوده منظمات حقوقية أو قوى اجتماعية تقليدية؛ بل موجة تضامن عفوية نابعة من شعورٍ جمعيٍّ باللاعدالة والانحياز ضد من لا يحظون بالتمثيل.

القيم الأسرية غطاءً للرقابة الطبقية

تواصل الدولة المصرية استخدام شعارات مثل حماية الأخلاق العامة والحفاظ على القيم الأسرية لتبرير تدخلاتها الأمنية في الفضاء الرقمي. هذه الشعارات الفضفاضة، المحمَّلة بإيحاءات أخلاقية عامة، تحوّلت أداة فعّالة لتقييد الحريات الفردية، خصوصًا عند استهداف أشكال تعبير لا تنسجم مع ذائقة السلطة أو معايير الطبقات المهيمنة.

إلا أن الحملة الأخيرة تكشف ما هو أعمق من البعد الأخلاقي. فما يقدِّمه بعض صُنَّاع المحتوى من الطبقات الشعبية يُوصم تلقائيًا بأنه مبتذل أو غير أخلاقي، ربما لا لشيء إلا لأنه لا يصدر من موقع النخبة أو لا يُغلَّف بهالة إنتاجية مصقولة. وما قد يُعدّ ترفيهًا مقبولًا إذا صدر عن فنانة معروفة في برنامج تليفزيوني يُعامَل باعتباره فعلًا مشينًا إذا صدر عن شابة من حيٍّ شعبي عبر هاتفها.

جوهر المشكلة ليس في طبيعة المحتوى بل في هوية منتجه وموقعه الطبقي ومدى نفاذه إلى المجال العام، والرقابة هنا لا تستهدف القول وحده، بل قائله وموقعه؛ إنها منعٌ لكسرِ نموذجِ التمثيل الرسمي داخل المجال العام، والحدّ من حضورٍ رقميٍّ غير منضبط يُربك هندسة الهيمنة الاجتماعية. ولهذا يصبح المنع والتقييد ردًّا على اختراقٍ غير مُصرَّحٍ به لمجالٍ افترِض أن يظلّ حكرًا على أصحاب الامتياز التكنولوجي والثقافي.

حين يُقيّد اللاسياسيُّ

موجة التضامن التي صاحبت الحملة الأمنية على صُنَّاع المحتوى ربما تعكس تحوُّلًا نوعيًا في طبيعة الوعي الجماهيري. امتد التضامن من الخطابات الأيديولوجية والمطالب الديمقراطية المباشرة إلى الحياة اليومية وممارسات التعبير الذاتي في الفضاء الرقمي.

ما يبدو ترفيهيًا أو اعتياديًا في ظاهره، يتحوَّل إلى فعل سياسي حين يصدر من موقع اجتماعي مهمَّش ويتجاوز حدود الظهور المسموح به. ومع سيطرة الدولة والنخب على دوائر الإنتاج والتمثيل والحضور في المجال العام، يصبح أي اختراق لهذه الحدود من قبل الفئات المُهمَّشة تهديدًا لبنية الامتيازات ذاتها.

لقد تحوَّلت تفاصيل الحياة اليومية إلى ساحة للصراع؛ صار المطبخ البسيط أو البث المباشر من غرفة متواضعة بمثابة تحدٍّ للذوق الرسمي، ومصدر إزعاج لمن يحتكرون تعريف المقبول.

بالتأكيد لا يعني ذلك أن كل محتوى هو بالضرورة فِعل مقاومة، بل إن مجرَّد قدرة هؤلاء المهمَّشين على الظهور أمام جمهور واسع تُمثِّل إرباكًا لموازين القوة، ما يدفع الدولة إلى التقييد والمنع، لا لأن المحتوى خطير، بل لأن صاحبه لا ينتمي إلى طبقة الامتياز.

وعندما تُمارِس الدولة المنع على محتوى رقمي لا يتناول قضايا سياسية تقليدية، بل يعكس ببساطة شكل حياة، أو نمط تواصل، أو تعبيرًا حرًا صادرًا من طبقات مهمَّشة، فإن هذا المنع يصبح، في جوهره، إعلانًا صريحًا عن أن "اللاسياسي" لم يعد خارج الحقل السياسي، بل صار مشتبكًا معه بالكامل.

وربما يكمن هنا جوهر التحوُّل؛ فحتى "اللاسياسي" بات يُعامَل على أنه تهديدٌ، وتُوظَّف أدوات الدولة في منعه، لأنه يُنتج وجودًا غير منضبط، ويكسر احتكار الدولة والنخب لتمثيل "المقبول" و"الشرعي" في المجال العام.

ثلاث تحوُّلات

ربما ما نرصده اليوم هو تراكب ثلاثة تحوُّلات متداخلة تُعيد رسم ملامح الوعي الحقوقي والسياسي في الفضاء الرقمي. أولًا، نشهد اتساعًا في الفعل الحقوقي الشعبي ليشمل فئات طالما كانت مُهمَّشة رقميًا وثقافيًا. لم تكن تحظى سابقًا بالاعتراف أو الدفاع الجماهيري عندما تتعرَّض للانتهاك.

لم تعد المسألة من يُقبَض عليه فقط بل من يُسمَح له بالظهور أصلًا

ثانيًا، نحن أمام إعادة تعريف جوهر المنع ذاته، فلم يعد يُختزل في الممارسات السياسية المباشرة من اعتقال الصحفيين والنشطاء السياسيين أو حظر العمل الحزبي أو قمع الحق في التنظيم، بل بات يشمل أنماطًا خفيةً من الرقابة الطبقية والرمزية، تُمارَس ضد من يمتلك قدرة التأثير والظهور خارج قنوات الهيمنة، سواء كان ذلك عبر فيديو بسيط على تيك توك أو عبر بث مباشر من الهامش.

أما التحوُّل الثالث، فيتجلَّى في نضوج ملموس لشكل جديد من التضامن الشعبي، لم يعد رهين النخب والمنظمات، بل يستند إلى وعي جمعي آخذ في التشكل، يرى أن التقييد لم يعد حكرًا على فئة دون أخرى، بل يمكن أن يطول أي شخص يتجاوز حدود المسموح به.

ما تكشفه هذه اللحظة ليس فقط حملة أمنية ضد تيكتوكرز، بل صراع أعمق على الظهور، والتمثيل، والحق في النجاة داخل فضاء رقمي غير عادل. لم تعد المسألة من يُقبَض عليه فقط، بل من يُسمَح له بالظهور أصلًا، ومن يُعاقَب لأنه خالف خرائط الهيمنة الطبقية على الصورة والصوت والمعنى.

في وقت تتحوَّل فيه شاشات الهواتف الذكية إلى جبهات صراع، يصبح الدفاع عن صُنَّاع المحتوى هؤلاء فعلًا سياسيًا حقيقيًا يواجه سلطة لا تحتمل أن تُربكها كاميرا هاتف، أو أن تُزاحمها سردية لا تُشبهها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.