
"السيطرة على غزة".. أبعد من حدود القطاع
لم تأتِ خطة احتلال غزة التي أقرها المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر مساء الخميس الماضي على ذكر مصطلح "التهجير"، لكن إزاحة الفلسطينيين وطردهم من القطاع هما جوهر الخطة ومبررها الحقيقي، كما الحال في كل العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل منذ بدء حرب الإبادة على مدار عامين.
خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لـ السيطرة على غزة تضمنت خمسة أهداف رئيسية؛ نزع سلاح حماس، إعادة جميع الأسرى، الأحياء منهم والجثث، نزع السلاح من غزة بالكامل، فرض السيطرة الأمنية على القطاع، وتشكيل إدارة مدنية بديلة لا تشمل حماس ولا السلطة الفلسطينية.
لم تختلف بنود الخطة عن أهداف العمليات التي أطلقتها حكومة اليمين الصهيوني، فرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تعهد قبل 22 شهرًا بتحقيق النصر المطلق يعيد تدوير أهداف الحرب، التي لم يتمكن من تحقيقها رغم تنفيذ جيشه أبشع الجرائم من قتل وإبادة وحصار وتجويع.
الخطط رمت لفرض واقع جديد في القطاع
من الفقاعات الإنسانية إلى عربات جدعون مرورًا بـ خطة الجنرالات؛ تحت إمرة رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير نفذ جيش الاحتلال عشرات العمليات الهجومية، التي تستهدف استعادة الأسرى وهزيمة حماس حسب ما أُعلن.
لكنها في الحقيقة كانت ترمي إلى فرض واقع جديد في القطاع الذي يعتبره قادة الائتلاف اليميني الحاكم خطرًا وتهديدًا وجوديًا على مستقبل دولتهم، ولا سبيل لتفادي هذا الخطر سوى بتغيير تركيبته الديموجرافية وطرد الجزء الأكبر من سكانه، أو كسر إرادتهم وكي وعيهم حتى لا يعودوا مجددًا إلى المقاومة وحمل السلاح.
خطة بدأت قبل إعلانها
نهاية الشهر الماضي، تعهّد نتنياهو لوزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير بـ"البدء في تهجير آلاف الفلسطينيين من غزة خلال أسابيع، ما لم يتم التوصل إلى صفقة مع حماس". وفقًا ليديعوت أحرونوت، بدأ رئيس الوزراء "في دفع خطوات عملية لصالح التهجير الطوعي لسكان غزة، بهدف إبقاء بن غفير في الحكومة".
بعد سحب فريقه المفاوض من الدوحة، كثّف نتنياهو اجتماعاته الأسبوعية حول ملف التهجير، بمشاركة الموساد ووزارة الخارجية، ووجّه بتسريع الاتصالات مع دول مرشحة لاستيعاب الفلسطينيين، مع تعديل المسار ليكون عبر الأردن لا مصر كما كان مخططًا في السابق.
المقصد تنفيذ مشروع قديم فشلت إسرائيل في إنجازه لعقود
منذ مطلع أغسطس/آب، بدأ التمهيد الإعلامي لخطة "السيطرة على غزة"، التي يبدو أن نتنياهو حصل بشأنها على ضوء أخضر أمريكي. ورغم أن الهدف المعلن هو إعادة الأسرى أو هزيمة حماس، فإن المقصد الحقيقي هو تنفيذ مشروع قديم فشلت إسرائيل في إنجازه منذ عقود، إثر تمسك الفلسطينيين بأراضيهم من جهة والممانعة الدولية من جهة أخرى.
اليوم، تبدو الظروف مواتية أكثر من أي وقت مضى؛ فالنظام الدولي مشلول، ومؤسساته رهينة القرار الأمريكي، ورئيس الولايات المتحدة الذي يتباهى بأن بلاده تسيطر على العالم يمنح إسرائيل شيكًا على بياض لفعل ما تراه.
تواطؤ أمريكي
"الأمر متروك إلى حد كبير لإسرائيل"، هكذا أجاب دونالد ترامب حين سُئِل عن موقفه من سيطرة تل أبيب العسكرية على غزة، مكتفيًا بالقول إن تركيزه ينصب على "زيادة وصول الغذاء" إلى القطاع.
ترامب نفسه سبق أن وصف غزة بأنها "بقعة مثيرة للاهتمام، موقعها على البحر وطقسها رائع"، ويمكن أن تكون "أفضل من موناكو"، في إشارة تكشف بوضوح رؤيته للتفريغ السكاني وتحويل الأرض الفلسطينية العربية إلى مشروع استثماري فاخر.
اصطدمت كل المحاولات بعناد الفلسطينيين ورفضهم مغادرة أرضهم
الخطة الإسرائيلية الحالية لا يمكن عزلها عن محاولات سابقة لتهجير فلسطينيي القطاع، فمنذ خمسينيات القرن الماضي، تطرح دولة الاحتلال مشاريع لـ إعادة التوطين في سيناء أو الضفة الشرقية، ثم تكررت المحاولات بعد هزيمة 1967، وفي أعقاب انتفاضتي 1987 و2000، وحتى خلال حصار 2007 وما تلاه من حروب.
اصطدمت كل تلك المحاولات بعناد الفلسطينيين ورفضهم مغادرة أرضهم، بعد انكشاف الحيل الإسرائيلية التي دارت في إجمالها حول رشوة شعب غزة بفرص أفضل في العمل والسكن والتعليم.
اليوم، ورغم إقرار عدد من المسؤولين الإسرائيليين في تصريحات لجيروزاليم بوست بأن خطة السيطرة لن تؤدي إلى هزيمة حماس أو إعادة الأسرى، فإن حكومة نتنياهو تراهن على إرهاق القطاع بالكامل ودفعه إلى حافة الانهيار، حتى يصبح الخروج هو الخيار الوحيد أمام السكان.
ليست نهاية الأطماع
الكارثة أن هذه الاستراتيجية تجد صمتًا أو تواطؤًا عربيًا ودوليًا، وبينما يتوجب على الأنظمة الحاكمة في المنطقة أن يكون شغلها الشاغل مواجهة هذا المخطط، فإنها تتعامل مع الولايات المتحدة شريك إسرائيل في مخططاتها باعتبارها حليفًا موثوقًا به أو كفيلًا.
العائق أمام تحقيق الكيان لهذا المشروع هو صمود أهل غزة
نجاح إسرائيل في فرض التهجير على الفلسطينيين من غزة لن يتوقف عند حدود القطاع، بل سيفتح شهيتها لتنفيذ مشروعها التوسعي وفق الرؤية الصهيونية، الذي يشمل أجزاء من سوريا ولبنان والأردن ومصر والسعودية لإقامة إسرائيل الكبرى.
العائق الوحيد الذي يقف أمام تحقيق الكيان لهذا المشروع هو صمود أهل غزة واستمرار عمليات المقاومة التي وقّع بعض العرب للأسف على عريضة تدعوها فيها إلى نزع سلاحها.
خطة السيطرة على غزة، إذن، ليست مجرد عملية عسكرية، بل تحول استراتيجي لمسار الصراع، ومحاولة لإعادة فرض حقائق جديدة على الأرض، وإن لم تنتبه الأنظمة العربية فإن هذه الخطط لن تقف عند حدود القطاع بل ستمتد لتهدد العمق القومي العربي، الذي تعتبره إسرائيل مجالها الحيوي الأمني.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.