تصميم أحمد بلال، المنصة 2025
صنع الله إبراهيم وأسامة أنور عكاشة

يقين أسامة أنور عكاشة وقلق صنع الله إبراهيم

منشور الأربعاء 27 أغسطس 2025

بدأتُ قبلَ فترةٍ مشروعًا للكتابة التحليلية عن مسلسل ليالي الحلمية للكاتب أسامة أنور عكاشة والمخرج إسماعيل عبد الحافظ. كان مفتتحُ الكتابة وسؤالها الأساسي تفسيرَ ارتباط جيلي الشديد بهذا المسلسل تحديدًا، منذ بث موسميه الأول والثاني في النصف الثاني من الثمانينيات، بينما نحن ننهي المرحلة الثانوية، ونتأهب لدخول الجامعة وعالم التسعينيات.

تطلَّبت الكتابة مشاهدة كل الحلقات من جديد، وتدوين ملحوظات عليها، وكتابة تتابع لمشاهدها وتطورات أحداثها. لم يكتمل العمل، وتوقفت مع نهاية الموسم الثاني. سبب التوقف، المؤقت ربما، أن المشاعر التي سيطرت عليَّ، كمتفرج في عام 2025، اختلفت تمامًا عن مشاعري القديمة في نهايات الثمانينيات، وغابت تلك اللهفة في انتظار كل حلقة جديدة من المسلسل. شعرت هذه المرة بالرتابة، والملل أحيانًا، والانفصال الكامل عن هذا الموديل الدرامي المعتمد على الكثير من الميلودراما والتنميط، وكذلك التكرار من نوعية مونولوجات الهذي لسليمان باشا غانم.

ثم بوفاة صنع الله إبراهيم، انتبهت لمفارقةٍ لم أكن واعيًا بها من قبل؛ أن جيلي اكتشف صنع الله إبراهيم ورواياته الأولى، وارتبط بها، في المرحلة نفسها التي ارتبط فيها بليالي الحلمية وجدانيًا وفكريًا، رغم تناقضهما. فعلى مستوى نوعية الأبطال على سبيل المثال، يلفت الانتباه الفارق الكبير بين أبطال أسامة أنور عكاشة في هذا المسلسل وغيره، من جانب، وأبطال روايات صنع الله إبراهيم من جانب آخر.

ثقة أسامة أنور عكاشة ويقينه

بقراءة عصرية للمسلسل، يبدو لي أبطال ليالي الحلمية أحاديين، أصحاب وجه واحد شبه ثابت لا يتغير. حتى مع تحوَّل علي البدري/ممدوح عبد العليم أثناء الانفتاح وبعد تجربة السجن المريرة التي مرَّ بها، ليصبح رجلَ أعمالٍ باردًا؛ فإن أسامة أنور عكاشة بمهارته، يجعلنا نعرف دون أن يصرّح أنه سيعود لطبيعته الأصلية؛ علي البدري الرومانسي القديم، المستقيم، بل وتوقعنا أنه سيعود لزُهرة. وإن لم يعد، سيدان أخلاقيًا وقتها الإدانة التي يستحقها.

فيما بطل نجمة أغسطس على سبيل المثال، المهووس جنسيًا، الذي سيدينه الكثيرون بسبب هذا الهوس، له وجهٌ آخرُ مبدئيٌّ حتى ولو عرّضه للخطر. فهو يرفض ببساطة أن يذهب للمباحث العامة في أسوان كمبادرة منه، كمبدأ. وبطل اللجنة الهزيل، المنسحق أمام هذه اللجنة، الذي يتحرش بالنساء في الأوتوبيسات العامة، يتصدى بشجاعة لمتحرش عملاق في الأوتوبيس، لأنه تجاوز بفعله المعايير الأخلاقية التي يضعها البطل لنفسه كمتحرش، قبل أن يأكل نفسه.

https://youtu.be/3x1jxOFbO8Q?si=OqC6lsHxtxHrg8bZ

يفتقد أبطال أسامة أنور عكاشة الأسئلة الحقيقية الصعبة تجاه واقعهم، وتجاه ذواتهم. لا يمكن أن يكونوا عدميين أو وجوديين. هم واعون بهويتهم، وبانحيازاتهم، وبالأرض التي يقفون عليها، بقدرهم إن جاز التعبير. ليسوا شخصيات درامية قلقة، ومتناقضة، ومضطربة. لا يلعب الجنس أدوارًا أساسيةً في حياتهم، يبدو غائبًا تمامًا كهاجسٍ. إنها شخصيات معبرة عن أيديولوجيات، عن مواقف، عن معسكرات، وكثيرًا ما تقع في الخطابية. أو يضع الكاتب على لسانها "الخطاب" المتماسك الملائم لها. فتُشعرنا بالأمان، أو بنوع من طمأنينة الثبات.

على العكس تمامًا من ملامح أغلب شخصيات روايات صنع الله إبراهيم، القلقة، المليئة بالتناقضات، المنفصلة أيضًا عن الصورة العامة التي نعرفها عن شخصيته هو، ككاتب، وعن التزامه السياسي والفكري. والمفارقة هنا، أننا نحب شخصيات ليالي الحلمية، ونقترب ونتفهم في الوقت نفسه شخصيات وردة وذات وبيروت بيروت وتلك الرائحة واللجنة وشرف والتلصص. بل ندخل طواعية لعالم صنع الله إبراهيم الذي يحاول استكشاف عمق الهوس من ضمن أشياء أخرى، عبر شخصيات وحيدة، كثيرًا ما تكون منفصلةً عن بيئتها أو محيطها، لا تشعر بالحماية ولا تبحث عنها، ولا يمكن أن تمنح القارئ الطمأنينة، بل المزيد من القلق والأسئلة.

تستحق مسألة الخطابية توقفًا سريعًا؛ فلم يتورط صنع الله في الخطابية السياسية أو الأخلاقية، أو في إدانة أو محاكمة شخصياته. إلا في مرة واحدة زادت من إعجابنا به، وجعلتنا نشعر أكثر بأن هذا الرجل الفنان والسياسي يعبر عنا، وأن وجوده يخلق للكثيرين مِنَّا شعورًا مبهمًا بالأمان. المرة الخطابية الوحيدة هي تلك المرة التي خرج فيها من صفحات الرواية، للواقع، ليحاكم بكلمات موجزة، وقاطعة كالمشرط، نظام الحكم، ويعلن تعاليه عليه، ويدينه، في خطاب رفض جائزة مؤتمر الرواية العربية 2003. وأنظمة الحكم، أو للدقة الحكام، هم ضمن شخصيات صنع الله الروائية، حاضرون فيها دائمًا، وإن غابت أسماؤهم.

البطل الروائي المرتبك، وصنع الله القادر على اتخاذ الموقف السياسي الواضح في الحياة الحقيقية، كلاهما وجهان لصنع الله نفسه، غير اليقيني، المتناقض في جوهره مع اليقينية الناصرية/الوطنية لأسامة أنور عكاشة. نجد هنا المفارقة، كيف يجذبنا كمراهقين عالم بيروت بيروت على سبيل المثال، وأعترف أنها أكثر رواية قرأتها لصنع الله، بكل أفخاخها الأخلاقية والسياسية وتكسيرها للتابوهات، وعالم ليالي الحلمية الدافئ واليقيني والحميمي أيضًا. والأهم، أنه عالم يُشعِرك، على عكس أجواء مدينة بيروت كما كتبها صنع الله، بانتصار مبهم ومؤكد للخير والقيم والوطن في النهاية، وبأن الحارة وناسها العاديين لن يتغيروا وسيحملون قيم الخير على الدوام، حيث يغيب التناقض والعدم والوحدة والفراغ والشارع والجحيم الحاضرة في روايات صنع الله.

قلق صنع الله وتشكيكه

أعترف بأن صنع الله إبراهيم، منذ اكتشافي الأول له في بيروت بيروت، النصف الثاني من الثمانينيات، أقرب كُتّاب جيل الستينيات لي وجدانيًا وفكريًا، متناسيًا بعض رواياته الغارقة في تفاصيل صغيرة لا أستطيع أن أرى ما تقدمه لمسار العمل الأدبي أو بنائه، ويشكل الهوس الجنسي محورها الأساسي، ويكاد أن يكون الوحيد. على سبيل المثال روايات نجمة أغسطس وبرلين 69 و67. لكن هذه الروايات، وإن أحببناها أقل من غيرها، تحقق نية صنع الله؛ أن يظل ذلك الطفل الذي يحكي ما لا يحكيه الآخرون.

يقف البطل في نجمة أغسطس أمام لحظة الإنجاز الوطني الكبرى، السد العالي في مرحلته الثانية بعد تحويل مجرى النهر في 1964. لا يقع صنع الله في غواية الصورة الأحادية للحظة أو لشخصياتها، بل يحاول الخربشة فوقها ليكتشف ما يناقضها على المستويات السياسية والمجتمعية والثقافية والنفسية. سيفعل ذلك لاحقًا في وردة؛ حين يرسم عالم حلقات الشباب المناضلين في حركة القوميين العرب مطلع الستينيات، بتناقضاتهم، وارتباكهم، والمناطق المظلمة من ذواتهم. ربما لأنه ليس ناصريًا، لا ينتمي لهذا النموذج الذي انتمى إليه أسامة أنور عكاشة ولكيف يرى عبد الناصر امتدادًا لكل أبطال الأمة المتجمعين في شخصية واحدة. فلا يتشكك أو يقلق أبطال ليالي الحلمية، طه السماحي/عبد العزيز مخيون، أو أخوه زينهم/سيد عبد الكريم، أو علي البدري لاحقًا، وغيرهم.

يختار صنع الله وعكاشة اللحظات الفارقة ليكتبا عنها.. لكنهما يفترقان عند كيفية التعامل مع هذه اللحظات

لا يتردد هؤلاء الأبطال لأن وجوههم الأخلاقية وانحيازاتهم الوطنية محسومة أو مقررة سلفًا. ينتسبون لمشروع وطني/أخلاقي محدد وواضح المعالم. لا يمكن ولو في حياتهم الشخصية أن ينفصلوا عن المشهد الوطني العام المبهر، سواء في لحظة النضال ضد الاستعمار الإنجليزي، أو الثورة وصعودها. حتى وإن تحول بعضهم لخونةٍ مجازيًا، مثل الضابط الفدائي مصطفى رفعت/محمد وفيق، الذي يصبح فاسدًا لاحقًا، إلا أنه يقف داخل هذا الإطار اليقيني/التطهري الناصري، ومن قبل ظهور عبد الناصر، ليبدو معبرًا عن "الحالات الفردية" المنحرفة، التي لا تُشوِّش على الصورة العامة الجميلة والمبهرة أو تلوثها.

يختار صنع الله وعكاشة اللحظات الفارقة ليكتبا عنها. لكنهما يفترقان عند النقطة التالية؛ كيفية التعامل مع هذه اللحظات. تأملها وتوثيقها وطرح التساؤلات حولها، مثلما يفعل صنع الله مع الثورة الفلسطينية في بيروت بيروت، بلغة تكاد تكون باردة. أو تمجيدها وتضخيمها شعوريًا مثلما يفعل أسامة أنور عكاشة وهو يستدعي الانتفاضة الفلسطينية الأولى مع أغنية فلسطينية مؤثرة، كي ننفعل ونبكي.

يلعب أسامة أنور عكاشة لعبة النوستالجيا، يُلامس مشاعرنا ووجداننا عبرها، يُلوح لنا بهذا الزمن القديم الجميل الذي لن يعود. أما صنع الله فيلعب معنا لعبة الواقع الحقيقي. يجذبنا عبر اكتشاف الأسئلة المحرمة داخل هذا الواقع، دون أي حنين لأي نموذج أو زمن سابق. يشدنا لواقع ملوث، مفتوح على كل الاحتمالات؛ سياسة، ثورة، جنس، عائلات مفككة يخون أفرادها بعضهم البعض، متمردون ضائعون مليئون بالشروخ، وغيرها.

ربما يكمن هنا السر، أن جيلنا، والجيل الذي سبقنا مباشرة، جيل الثمانينيات، بعد هزيمة مشروع جيل السبعينيات وانتفاضة يناير 1977، يبحثان عن النقيضين، ويحتاجان كليهما؛ الدفقات الشعورية العالية والآمنة بشخصياتها من نوعية البطل الفدائي طه السماحي، الرومانسي، المحب من النظرة الأولى، والممتدة في نماذج أخرى، من بينها عادل البدري/هشام سليم الذي تحوّل من ابن الأغنياء التافه إلى شخص مبدئي ومنحاز متزوج من فلسطينية. ونحتاج كذلك لتشكيك صنع الله، دعوته للتأمل، ودعوته كذلك للمتعة، للجنس، للتحرر، وكسر التابوهات.

يخرج علي البدري من السجن منقلبًا للنقيض، يتحول لبزنس مان انفتاحي مؤقتًا، قبل أن يعود لصورته الأولى المثالية. لكن بطل تلك الرائحة، الخارج بدوره من السجن، تحيط به تلك الرائحة الصعب تحديدها، وربما تكون رائحة العفن. يتأمل العالم المحيط به، ويتأمل شروخه الذاتية في الوقت ذاته. لا ينقلب، لم يعد كما كان قبل تجربة السجن، لكنه الشخصية التي تغمرها الأسئلة، لا الإجابات.

نحب الاثنين، يعبر عنا كلاهما. أحدهما يعبر عن الحلم، عما كنا نود أن نكونه؛ علي البدري المناضل النستالجياوي مانح الأمان، والآخر، هذا البطل الذي يستمني وراء النافذة، دون أن يجد ما يعينه على الوحدة والشعور بالضياع، نتلاقى معه لأنه يعبر عن الواقع، لا عن الحلم.