صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
أين يبدأ الحق وأين ينتهي الاحتكار؟

اسمه عبد الرحمن ويبدو وطنيًا.. عن أزمة فيديو المتحف الكبير وحقوق الملكية

منشور الأربعاء 20 أغسطس 2025

القبض على عبد الرحمن خالد بسبب إنتاجه فيديو ترويجيًا بالذكاء الاصطناعي للمتحف المصري الكبير وزعم انتهاك حقوق الملكية الفكرية، فتح بابَ نقاشٍ مستفيضٍ عن حدود استخدام قوانين الملكية الفكرية، وهل تحمي الإبداع أم تخدم امتياز الاحتكار؟

لقي الفيديو، الذي ظهر فيه نجوم عالميون مثل محمد صلاح وميسي تفاعلًا واسعًا. وربما كان ظهور ميسي سببًا في إثارة الانتباه للفيديو، عندما انتقدت أصوات عدة ظهوره بعد مزاعم تأييده للصهيونية وتبرعه لإسرائيل، خصوصًا بعد تداول الفيديو بشكل واسع وظن البعض أنه إعلان رسمي عن الافتتاح المرتقب للمتحف.

حفزت ردود الفعل وزارة السياحة والآثار لإصدار بيان تنفي فيه صلتها بالفيديو، واعتبرته "محتوىً مزيَّفًا" يشكِّل "انتهاكًا لحقوق الملكية الفكرية وحقوق الأداء العلني". وتحدث وزير السياحة والآثار شريف فتحي علنًا عنه، متهمًا صاحبه بسرقة الملكية الفكرية.

تقدمت الوزارة ببلاغ ضد خالد فألقي القبض عليه، قبل أن يُخلى سبيله لاحقًا، بعدما أبدى مؤيدون للسلطة تعاطفًا معه باعتباره "شابًا مبدعًا ووطنيًا"، وبعد أن سحبت الوزارة شكواها.

تكشف هذه الواقعة مدى التداخل بين الإبداع باستخدام الذكاء الاصطناعي والقيود القانونية المفروضة؛ الفيديو باعتباره مبادرة فردية قابلتها استجابة رسمية ذات طابع عقابي، بين ما يمكن وصفه بالنوايا الحسنة للشاب ومسار الدولة القانوني، ما يمنح القضية أهميتها، ويجعلها نقطة مناسبة لطرح السؤال الأكبر حول علاقة الذكاء الاصطناعي بالملكية الفكرية وإمكانات تقييد الإبداع الرقمي.

مزاعم الانتهاك

ثمة أسئلة جوهرية حول طبيعة الحقوق التي قيل إنها انتُهكت، وما إذا كانت وزارة السياحة والآثار تملك أصلًا الصفة القانونية للتقاضي بشأنها، فالمقطع الذي أُنتج باستخدام الذكاء الاصطناعي تضمّن صورًا لنجوم عالميين، وهي عناصر ترتبط بما يُعرف بـحقوق الصورة؛ أي حق الفرد في التحكم في استخدام صورته، وحقوق الشهرة/Right of Publicity، أي الحق في الاستفادة من السمعة والصورة العامة. هذه الحقوق تعود إلى أصحابها أنفسهم لا إلى الدولة.

مع ذلك، تصرفت الوزارة كمدّعٍ أصيلٍ رغم أن أصحاب الحق الأصلي لم يتخذوا أي إجراء، وهو ما يكشف خلطًا واضحًا بين الصفة والمصلحة في حجج الدولة الرسمية.

تجاوز الخطاب الرسمي حدود الدقة حين وصف ما حدث بأنه سرقة ملكية فكرية، فهذا الاستخدام الفضفاض للمصطلح يخلط الانتحال، أي نسب عمل الغير إلى النفس، بأشكال مشروعة من التعبير الفني مثل المحاكاة أو الفن التوليدي/Generative Art أو الاستعارة الإبداعية وإعادة التوظيف الفني.

يقصد بالفن التوليدي إنتاج عمل جديد باستخدام أدوات أو تقنيات سواء عبر الذكاء الاصطناعي أو الأساليب الرقمية التقليدية، انطلاقًا من عناصر قائمة لكن في صياغة مغايرة تمنحه طابعًا مستقلًا.

أما الاستعارة الإبداعية وإعادة التوظيف فهي ممارسة منتشرة في تاريخ الفنون والأدب، تقوم على استلهام صور أو ألحان أو أفكار أو أساليب قديمة وإعادة توظيفها في سياق جديد يمنحها دلالة مختلفة، كما يحدث حين يوظف فنان صورة شخصية مشهورة في عمل نقدي، أو يقتبس شاعر بيتًا قديمًا في قصيدة حديثة.

في مثال فيديو عبد الرحمن تتعقد الصورة أكثر حين تكون المدخلات وجوه مشاهير والمخرجات فيديو مركّب

بالنظر إلى هذا السياق، فإن هذه الممارسات تُعد تقاليد إبداعية مقبولة تقوم على الاقتباس والتحويل وإعادة التفسير، ولا يمكن إخضاعها أو مساواتها بالسرقة. 

أما فيما يخص حقوق المؤلف، فإن رد الفعل الرسمي على الفيديو يسلط الضوء على خط فاصل لا يزال موضع نقاش وتنظيم مستمر. فثمة فارق بين عمل "مدعوم بالذكاء الاصطناعي" تتجلى فيه مساهمة بشرية أصيلة يمكن نسبتها لمؤلف، وبين عمل "مُولَّد بالكامل" يخلو من أي بصمة إنسانية واضحة. 

أما ما يتعلق بالعلامات التجارية أو الهوية البصرية للمتحف، فهو يقتصر على الشعار والتصميم الرسمي ولا يمنح ذلك أي احتكار مطلق لصور المكان أو تمثيله البصري. بل إن هذه الهوية البصرية يفترض أن تُعامل بوصفها ملكية عامة متاحة للجمهور بحكم أنها أُنتجت بتمويل عام.

أي أن القانون يحمي العلامة فقط من الاستخدام الذي قد يؤدي إلى لبس في المصدر أو منافسة غير مشروعة. واستنادًا إلى المعلومات المتاحة لم يُقدَّم الفيديو على أنه إعلان رسمي، وهو ما يجعل شرط الإيهام بالمصدر غير قائم.

مع ذلك، جرى تضخيم مزاعم الضرر من دون أي سند واقعي، إذ لم يظهر ما يدل على أن المتحف أو حفل الافتتاح المزمع قد لحق بهما أي أثر سلبي من مقطع قصير، غير ربحي، طُرِح بوضوح باعتباره عملاً فرديًا وغير رسمي.

تفكيك الادعاء 

من الوهلة الأولى يبدو التعامل مع الفيديو بهذا الشكل محاولةً لتقييد الإبداع، غير أن التدقيق يكشف أن الخطاب الرسمي الذي يربط بين الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لا يقف عند ذلك، إنما يخدم في جوهره مصالح احتكارية أكثر مما يحمي حقوق المبدعين.

اللجوء إلى التجريم الجنائي لا ينبغي أن يكون الخيار الأول

تاريخيًا، لم تُصمَّم قوانين الملكية الفكرية لحماية المبدع الفرد بقدر ما صُمّمت لحماية الناشر أو المنتج. ومع تطور البيئة الرقمية تحولت هذه القوانين إلى سياج توسعي يقيّد إمكانات إعادة الاستخدام التحويلي، ويجعل أي محاولة للتجريب الفني أو التعليمي عرضة للتهديد القانوني. هكذا أصبحت الملكية الفكرية وسيلة تأبيد الامتياز والسيطرة على قنوات الإنتاج والتوزيع، بدل أن تكون أداة لصون الإبداع.

يكشف الذكاء الاصطناعي نفسه هذا التناقض بوضوح. فالخوارزميات التي تولّد المحتوى تتغذى أساسًا على المشاع الثقافي المتاح عبر الإنترنت، أي على نتاج جماعي أنتجته البشرية وجمهور المستخدمين. مع ذلك يُمنع الأفراد من فهم ومراقبة ما تعلمته هذه الخوارزميات وكيف جرى التعلم، بينما تستأثر الشركات الكبرى والدول بالنتائج وتحوّلها إلى مصدر تراكم احتكاري جديد. النتيجة أن التجريب الفردي يُجرَّم، فيما يظل التملك والربح حكرًا على المؤسسات المهيمنة.

سوء التكييف القانوني

في التعامل مع واقعة عبد الرحمن خالد، لجأت وزارة السياحة والآثار إلى المسار الجنائي منذ البداية، متجاوزةً التدرج المتعارف عليه في مثل هذه الحالات. ففي النزاعات المتعلقة بالحقوق الفكرية أو بالصور والعلامات التجارية يُفترض أن يبدأ المسار بإنذار رسمي أو طلب إزالة المحتوى أو تصحيحه، أو حتى إضافة إخلاء مسؤولية يوضح الطابع غير الرسمي للعمل.

الرسالة التي تُوجَّه إلى المجتمع ليست حماية حقوق المؤلفين أو صون الإبداع بل تكريس فكرة أن الفضاء الثقافي العام ملكية مغلقة

وإذا وُجد ضرر مادي مثبت، يمكن التوجه إلى التسوية أو المطالبة بالتعويض أمام القضاء المدني، أما الانتقال المباشر إلى البلاغ الجنائي، فقد أدى في حالة خالد إلى تجريم مبادرة فنية لم تحقق أي مكسب مادي، وهو ما يمثل إخلالًا بمبدأ التناسب بين الفعل والإجراء.

هذا التوسع في استخدام الأدوات الجنائية لا يقتصر أثره على الفرد المعني فقط، وينعكس على المجال العام بأسره، فإحالة مثل هذه المبادرات إلى التحقيق الجنائي تُنتج أثرًا مُجمِّدًا يردع صناع المحتوى والمبدعين عن خوض أي تجربة جديدة خشية الملاحقة.

عندما يجري التوسع في تطبيق قوانين الملكية الفكرية، فإنها تتحول من وسيلة لحماية الحقوق إلى أداة لتقييد حرية التعبير والإبداع. ويظهر هذا التوسع في صور متعددة؛ إذ تُقدَّم بلاغات كيدية أو وقائية بقصد إسكات النقد أو المزاح أو حتى المحاكاة الساخرة، وهو ما يحرم النقاش العام من أدوات أساسية للتعليق والتصويب.

الأزمة أيضًا في تنامي ميل الجهات إلى المبالغة في مطالب إزالة المحتوى، فتُحذف أعمال أو مواد لا تنطوي على أي انتهاك حقيقي، لمجرد أنها تعارض مصالح سياسية أو تجارية ضيقة، إلى جانب ذلك يُعاد تعريف الضرر بحيث يشمل مجرد الإحراج أو التداخل السردي مع الرواية الرسمية، وهو ما يجعل أي مبادرة فنية أو خطاب نقدي مهددًا بالإقصاء.

ما حدث مع خالد لا يقف عند حدود نزاع قانوني حول فيديو قصير، ويكشف عن مسار أشمل يتجاوز الفرد إلى البنية التي تحكم علاقتنا بالإبداع في زمن الذكاء الاصطناعي. حين تُستدعى قوانين الملكية الفكرية لتجريم مبادرة فنية فردية، فإن الرسالة التي تُوجَّه إلى المجتمع هي تكريس فكرة أن الفضاء الثقافي العام ملكية مغلقة تحت سيطرة الدولة أو الشركات بدل حماية حقوق المؤلفين وصون الإبداع.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.