
ثلاث خطوات لترجمة تصريحات الرئيس عن "الإعلام الحر"
قبل أقل من أسبوعين على أزمة صحيفة فيتو مع وزارة النقل ووزيرها، بدت تصريحات رئيس الجمهورية حول الصحافة وحريتها لافتةً وجديدةً.
وجه الرئيس في أعقاب لقاء جمعه برؤساء الهيئات الإعلامية بمساحات حرية أوسع للصحافة، وبعودة الكوادر الإعلامية التي ابتعدت عن المشهد، وباحترام الرأي والرأي الآخر، ما دامت الآراء كلها وعلى تنوعها تهتم بالصالح العام.
بدا الاجتماع وكأنه توجّه جديد لدى السلطة، يوسع من دور الصحافة والإعلام، ويرفع عنهما القيود غير المسبوقة التي استمرت لنحو تسعة أعوام.
تفجرت أزمة صحيفة فيتو مع وزير الوزارتين، لتصبح تصريحات رئيس الجمهورية على المحك، في أول اختبار حقيقي لقدرة أجهزة ومؤسسات الدولة على ترجمة هذه التصريحات إلى واقع، يمنح للصحافة حريتها المستحقة، ويفك عنها الحصار المزعج، وينقلها إلى حيث الدور والتأثير المفقودين.
في حسابات السياسة يبقى ما أكده رئيس الجمهورية مجرد كلام نظري ما لم يُترجم إلى خطوات عملية وقانونية ترسم مشهدًا جديدًا للصحافة.
المشهد الصحفي ينتظر ثلاث خطوات فقط، إذا حدثت، يتغير الوضع البائس كله إلى آخر، يمنح العاملين في مهنة البحث عن المتاعب أملًا في حدوث تطورات جادة وحقيقية تنقل الصحافة خطوات مهمة إلى الأمام.
1. تعديل القوانين الخانقة للمهنة
عام 2018 صدر قانون المجلس الأعلى للإعلام، أو القانون 180. الاسم وحده صار مرعبًا، وبعد سنوات من التطبيق بات هناك إدراك لدى جميع المهتمين بالعمل الصحفي، أن هذا القانون جاء ليضيف مزيدًا من القيود على الصحافة وحريتها، ويصعِّب من حرية النشر والإصدار.
استحدث القانون اتهامات مطاطة وغير منضبطة وليس لها تعريفات واضحة، لتطال جميع المؤسسات الصحفية إذا ما تجرأت ومارست العمل الصحفي بمعناه المهني، الذي يشمل المساءلة والنقد وإعلان الحقيقة بلا تجميل.
بات على الصحفي الحصول على تصريح للتغطية الميدانية
كلمات من نوعية العنصرية أو الكراهية أو معاداة الديمقراطية أو الإباحية، وغيرها باتت قادرة على الانتقال بالصحفيين من مكاتبهم إلى أقرب محكمة، فضلًا عن أن نفس هذه الكلمات أو الاتهامات غير المفهومة، يمكن أن تكون وسيلة لحجب المواقع الصحفية بشكل مؤقت أو دائم، أو فرض غرامات غليظة وسط أحوال مادية صعبة ومعقدة تعيشها الغالبية من المؤسسات الإعلامية.
لم يتوقف القانون عند هذا الحد، فاستحدث نصًا شاذًا وغريبًا لا مثيل له في قوانين الدنيا كلها اسمه تصريح التغطية الصحفية، بات على الصحفي أن يحصل على تصريح للتغطية الميدانية من وزارة الداخلية.
هذا النص القانوني لم يوجه طعنة فقط لكارنيه نقابة الصحفيين، أو كارنيه الموقع والجريدة، لكنه ضرب في الصميم حرية العمل الصحفي، الذي يقوم في كثير من الأحيان على السرعة والانتقال إلى حيث الحدث في أقل وقت ممكن.
هذا القانون لا يمكن فهمه إلا في سياق تقييد العمل الصحفي، ووضع الحصار الكامل على ما له علاقة بحرية النشر، أو بالدور الطبيعي الذي تقوم به الصحافة في كل البلاد والمجتمعات.
بدون تغييرات جذرية على هذا القانون الذي حول "إخطار إصدار الصحف" الذي أقره الدستور إلى "تصريح" يضع القانون معاييره منفردًا، لا يمكن الحديث عن صحافة حرة، ولا يمكن ترجمة تصريحات رئيس الدولة إلى واقع مهني جاد وجديد.
هذا القانون هو المفتاح، إذا فُتح الباب بتعديله يمكننا تصديق أن هناك نية حقيقية للتغيير، وإلا فإن التصريحات ستظل في مكانها بلا ترجمة تغير من الواقع البائس للمهنة.
2. كف الأذى عن الصحافة
الحرية هنا لا تعني مجرد غياب العقاب، بل أن يكون للصحفي الحق في أن يكتب وينشر ويفكر دون خوف من المساءلة.
رفع القيود المفروضة على النشر هي الخطوة الثانية في خريطة الطريق، التي تترجم تصريحات الرئيس إلى واقع.
خلال السنوات التسع الفائتة عانت الصحافة من حصار كامل، وأدى هذا الحصار إلى دخول مئات الصحفيين إلى المحاكم والنيابات والسجون، وحجبت السلطة عشرات المواقع الصحفية، وأوقفت المؤسسات عشرات المواد الصحفية قبل نشرها، بل وأوقفت كتابًا وصحفيين عن العمل.
صحف ومواقع بلا روح ولا تأثير، وصحفيون محبطون
هذا المناخ غير المسبوق في تشدده وحصاره الخانق أنتج صحافة هي أقرب للنشرات الرسمية، فتحولت الصحف والمواقع مع الضغوط الحكومية التي تعرضت لها إلى حالة من البيانات الرسمية، والتصريحات التي تلمع السادة المسؤولين.
صحف ومواقع بلا روح ولا تأثير، وصحفيون مُحبَطون ومستسلمون لبيئة عمل طاردة لكل المواهب.
أي رغبة جادة في إعادة الروح للصحافة يجب أن تنعكس في الحرية في المقام الأول. صحافة حرة ومهنية ومسؤولة، لا يحكمها أو يتحكم فيها سوى القوانين ومواثيق شرف المهنة، التي تضبط العمل الصحفي، وتبتعد به عن الشطط أو الأخطاء الكبيرة.
بدون عودة الروح للصحافة عبر الحرية، وتغيير المناخ الاستبدادي الذي تحكم فيها طوال السنوات الفائتة، وإطلاق سراح نحو 24 صحفيًا محبوسًا لا مهنة ولا تأثير.
فلا صحافة بدون حرية، ولا مهنة إذا ظلت الأيادي ترتعش قبل أن تكتب خبرًا أو تطرح تساؤلًا.
نهاية عهد الولاء
في واقعنا الصحفي هناك أزمة تتجاوز الورق والكتابة، هي "أزمة الأشخاص"، من يتولى المواقع؟ وكيف؟ وما هي المعايير التي تحمل شخصًا إلى مقعد القيادة؟
بتعبير أوضح لا تقدُّم يمكن أن يحدث إذا ظل معيار الاختيار للقيادات الصحفية والإعلامية هو الولاء.
في تقديري كانت السنوات الفائتة تجربة حقيقية في الاعتماد على أهل الولاء لا أهل الكفاءة، والنتيجة معروفة، مؤسسات بلا روح وشاشات بلا جمهور وصحف ومواقع لا أحد يهتم بها.
الإعلام لا يُدار بالمحاباة، والصحافة لا تتحمل المجاملة
التغيير هنا بسيط حتى لو بدا صعبًا، أن تتوقف الدولة عن اختيار "أهل الولاء"، وأن تعود إلى الكفاءات الحقيقية.
فالإعلام لا يُدار بالمحاباة، والصحافة لا تتحمل المجاملة، لأنها مهنة تحتاج إلى من يعرف قواعدها وأدبياتها ولغتها الفريدة.
في توقف سياسة "الولاء" مصلحة؛ ليس للصحفيين وحدهم بل للدولة نفسها. لأن إعلامًا ضعيفًا غارقًا في المجاملات والتصفيق لن يحمي مشروعًا سياسيًا، ولن يصدقه أحد، ولن يتقدَّم خطوة واحدة للأمام.
ظني أن الوقت قد حان لتعود الكفاءة معيارًا وحيدًا لتولي المواقع، أو الظهور على الشاشات.
وقبل كل هذا وبعده التوقف الفوري عن سياسة الإقصاء في نفس اللحظة التي تختفي فيها سياسة منح أهل الولاء ما لا يستحقون على حساب هؤلاء الذين تم إبعادهم لأسباب غير موضوعية وغير جادة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.