
ولانعدام الخيال قمة
الشعوب انتظرت أكثر من "الدعوة والمطالبة" لاستخدام الأسلحة المعطلة ضد إسرائيل
كأنها تهتف "نحمدك يا رب!"؛ سوّقت بعض وسائل الإعلام لـ"إنجاز" مشاركة زعماء الدول العربية والإسلامية في قمة الدوحة الاستثنائية لبحث تداعيات الهجوم الإسرائيلي على قطر واستهداف قادة حماس المقيمين هناك منذ عقود بتنسيق سياسي وأمني مع واشنطن وتل أبيب، بينما لم يفهم المواطن الفلسطيني أو العربي الخطوة التالية، وقد بدأ الاجتياح البريّ لمدينة غزة بدعم أمريكي كامل!
اللحظة صادمة، وما زالت تربك الحسابات، ولا أثر لـ"خيال سياسي" إلا لدى العدو. فبنيامين نتنياهو الذي يدير ملف الصراع العربي الإسرائيلي منفردًا الآن أقدم على تحطيم حجر زاوية في نظام إقليمي على شفا الانهيار هندسته الولايات المتحدة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، بعد أن دمّر جميع قواعد الاشتباك المعتادة خلال عامي 2024 و2025 بالعمليات المتتالية ضد حزب الله والقضاء على زعامته التاريخية ثم ضرب إيران والتدخل المتصاعد وشديد الوطأة في سوريا سعيًا لتحويلها إلى دويلة دمية.
وعلى مدى عامين من حرب الإبادة في غزة ومساعي الاحتلال النهائي للقطاع والضفة الغربية، ارتضى كثيرون في أروقة أنظمة الحكم العربي وخارجها التفكير داخل ذلك الصندوق الذي صنعته أمريكا وحددت تخومه بضفائر جهنمية من عقود التسليح واتفاقيات التجارة والاستثمار شديدة التعقيد، يضمن تحكمها المطلق في مصائر شعوب المنطقة وحماية إسرائيل من ردات فعل عنيفة تفقدها التوازن أو تؤدي إلى تآكل قدراتها، بالتوازي مع استثمار متنامٍ في التسليح المُستخدم حصرًا في الإبادة وإخضاع الدول المحيطة.
متى نتحدى "الجدار الحديدي"؟
ثم جاءت لحظة استهداف الدوحة وأعلنت بجلاء ألَّا عصمة لأحد من سياسة الجدار الحديدي التي يتبعها نتنياهو وأعطى الضوء الأخضر للتنظير لها وإعادة تسويقها داخل المجتمع الإسرائيلي.
واعتبر مراقبون ومستخدمو سوشيال ميديا في مصر وتركيا وإيران ودول محيط فلسطين والخليج العربي أن الوقت مناسب تمامًا لتبني لغة مختلفة تجاه إسرائيل، مقترنةً بإجراءات وأفعال طال انتظارها لسنوات، خصوصًا بعد اعتماد مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري قرار "الرؤية المشتركة للأمن والتعاون في المنطقة" قبل ساعات معدودة من الهجوم الإسرائيلي، والذي تحدَّث لأول مرة، ولو بشكل غير مباشر، عن احتمالية وقف مسار الاتفاقيات الإبراهيمية وعدم التعويل عليها.
ولم يكن الرد على استهداف قطر المحرّك الوحيد لتلك الآمال، فمسار احتلال مدينة غزة بدأ ومستمر على قدم وساق رغم ما يتردد عن اعتراضات داخلية. ولم تمنع بيانات الإدانة الدولية الوزراء الصهاينة المتطرفين من المضي قدمًا في تكريس خطتهم لضم الضفة الغربية وإنهاء الإجراءات القانونية اللازمة بعد ظهور مشروع قرار جديد لإلغاء اتفاقيات أوسلو.
كما بات لدينا قرار جديد من الجمعية العامة للأمم المتحدة مدعوم بتأييد ساحق لإعلان نيويورك المُدافع عن حل الدولتين يؤكد حتمية الدولة الفلسطينية المستقلة، وجاء التصويت معبّرًا عن أزمة إسرائيل الدبلوماسية بانحياز عدد من الدول ذات المواقف السلبية سابقًا مثل ألمانيا وكرواتيا وفنلندا إلى حماية مستقبل القضية الفلسطينية، مما يوفّر نظريًا ساحة واسعة لدعم القضية وتحركات عربية وإسلامية قوية، كان من المنتظر أن تحملها إلى أسماع العالم قراراتٌ مدويّة من قمة الدوحة.
القمة وحدها لا تكفي
يرى البعض أن رسالة القمة وصلت بمجرد انعقادها، وأن البيان الختامي تحصيل حاصل، ارتباطًا بتحركات أخرى لأطراف عربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها من المستويات الدبلوماسية، ويبرر هؤلاء وجهة نظرهم بأن هناك أطرافًا عربية تمنع تبني نبرة تصعيدية ضد واشنطن وتل أبيب، وأن تلك الصياغات "أفضل ما بالإمكان" على ضوء الخلافات.
ويمكن تفنيد ذلك الاتجاه بثلاثة أمور؛ أولها أن المواقف العربية تمايزت منذ طوفان الأقصى وزاد تباينها بمرور الوقت، تحديدًا بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، وأصبحت المحددات الرئيسة لسياسات الأنظمة واضحة، ومن يمكن البناء معه ومن ينبغي الحذر منه، وبالتالي فإن التكتل الإيجابي ضد قوى الانكفاء وفضحها لم يعد رفاهية مهما كانت المغريات والمصالح، خصوصًا وأن الأحداث أثبتت ما حذر منه كثيرون لسنوات؛ النجاة الفردية والصداقة المتكافئة وهمُ ساذج لن يصمد إذا انفلت زمام الآلة الحربية الصهيونية.
بينما يتمثل الأمر الثاني في النبرة الحادّة الجديدة في الخطابات الفردية لبعض الزعماء، مما يبرهن على تعدد وسائل التعبير في جعبة القادة العرب وقابليتها للتطور إلى مواقف أكثر حزمًا، فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لوّح لأول مرة باحتمالية "إجهاض اتفاقيات السلام القائمة" موجّهًا رسالة لافتة وغير مسبوقة إلى الشعب الإسرائيلي تحذره من مغبّة تصرفات حكومة نتنياهو، في تأكيد جليّ لسوء العلاقات الثنائية والاقتراب من حافة الصدام.
لم يحمل البيان الختامي للقمة أي إجراء عملي دبلوماسي ضد إسرائيل يساند الضغط الأوروبي بالاعتراف بدولة فلسطين
أما الأمر الثالث والأهم فيرتبط بالخيارات السياسية والمعركة الدبلوماسية الحالية. لم ينتظر عاقل أن تعلن قمة الدوحة حربًا شاملةً على إسرائيل، ولم يكن من المنطقي طرح مسألة الدفاع العربي المشترك بحضور أطراف إسلامية يعتبرها بعض العرب أعداء، بينما يتحارب بعض الحاضرين - عمليًا - على أراضي دول أخرى.
لكن هناك عشرات الإجراءات الحيوية والقيود الجادّة على الاحتلال أُهملت لفترة طويلة، وظهرت بشائرها في البيان الختامي بعد تعديله في الساعات الأخيرة، وواجب اللحظة أن تتبناها العواصم العربية والإسلامية المخلصة للقضية وأن تستثمر فيها، ونحن على بعد أيام قليلة من اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الذي من المنتظر أن تكون القضية الفلسطينية عنوانه الأبرز في مواجهة رغبة صهيونية محمومة لتكريس الأمر الواقع.
نقلة نوعية خجولة
أضيفت إلى البيان الختامي للقمة ثلاثة بنود، تمثل في الحقيقة نَقلة نوعية -وإن كانت متأخرة- في الخطاب العربي والإسلامي المشترك على مستوى القمة، تتلخص في دعوة جميع الدول إلى اتخاذ جميع التدابير القانونية والفعالة "الممكنة" لإنهاء إفلات إسرائيل من العقاب والمساءلة، وفرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالأسلحة والذخائر والمواد العسكرية ونقلها وعبورها، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها، ومقاضاتها، والنظر في مدى توافق عضويتها في الأمم المتحدة مع ميثاق المنظمة، وتكليف الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية باتخاذ الإجراءات الممكنة ضد مرتكبي جرائم الحرب.
لكنها ليست المرة الأولى التي يشير فيها بيان عربي إسلامي إلى تلك التحركات المهمة، التي لم تعد فريضة وطنية وجيوسياسية فقط، بل باتت واجبًا على ضوء مكاسب مهمة تحققت للقضية في مجال القانون الدولي. فجميع القرارات ذات الطبيعة الاقتصادية والتجارية ومساعي الحد من وصول الأسلحة وتنامي الاستيطان تجد ظهيرًا قويًا لها في الشرعية الدولية والآراء الاستشارية الصادرة من محكمة العدل الدولية ضد الجدار العازل والاستيطان وممارسات الاحتلال في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها قطاع غزة المحاصَر، ولها سوابق في دول أوروبية ولاتينية.
وليست المرة الأولى التي يطالب فيها بيان عربي إسلامي إلى ملاحقة إسرائيل على جرائمها. ومن المفهوم هنا خشية بعض دول الحضور من اتباع هذا المسار بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية التي مازالت تطلب نتنياهو كمتهم في جرائم حرب.
إنها نَقلة خجولة، أقل بكثير من وتيرة التصعيد الصهيوني، وتخيّب ترقب الشعوب لما هو أكثر من الدعوة غير الملزمة إلى المتاح من المواقف الفردية. فالطبيعي أن القمة لا تبدأ التعامل مع الحرب الحالية من الصفر!
كان يتوجب أن تتخذ من قرارات مؤتمر بوجوتا المنعقد في يوليو/تموز الماضي بمشاركة دول مجموعة لاهاي وتحركات مبادرات إنسانية قوية مثل أسطول الصمود دليلًا استرشاديًا فضلًا عن تفعيل محتواها ودعمها والانضمام إليها.
كان من الممكن اتخاذ خطوات عملية لإحياء خطة قمة القاهرة وتعديلها ودعمها ماليًا ودبلوماسيًا
كما أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في دعوى الإبادة الجماعية المرفوعة من جنوب أفريقيا أو إقامة دعاوى جديدة أخرى لا يكلّف الدول العربية والإسلامية شيئًا، ولا يعود عليها بأي أضرار، وهو ما يطرح تساؤلات حول جدية المواجهة بعد عامين من الإبادة.
ولم يحمل بيان القمة أي إجراء عملي على الصعيد الدبلوماسي إزاء التجاوزات الإسرائيلية للتكامل مع الورقة الأخيرة التي يضغط بها الأوروبيون بالاعتراف بدولة فلسطين. وهذا المسار يحتّم توسيع الخيال السياسي إلى آفاق جديدة من الاشتباك والتنسيق مع أكثر من 140 دولة قالت تحت مظلة الأمم المتحدة إنها مع حل الدولتين. ولا أقصد هنا فقط استلهام ما حدث عام 1988 عندما نقل اجتماع الجمعية العامة إلى جنيف ليحضره ياسر عرفات (الإرهابي وفق التصنيف الأمريكي آنذاك) بل بتدشين نشاط دولي تشاركي واسع ومستدام ضد الاحتلال.
كان أمام القادة أيضًا فرصة اتخاذ خطوة حقيقية لتطبيق الخطة المقدمة من مصر والمعتمدة من قمة القاهرة في مارس/آذار الماضي بشأن التعافي المبكر وإعادة إعمار غزة، التي تُعتبر حسب إعلان القاهرة "خطة عربية جامعة" وذلك من خلال اتخاذ خطوات عملية لإحياء الخطة وتعديلها على ضوء المستجدات الأخيرة ودعمها ماليًا ودبلوماسيًا.
الأسلحة المعطلة
تموضعت باقي بنود البيان الختامي في خانة التضامن مع قطر وتجديد الثقة في دورها الإقليمي، وطغت عليها صبغة دعم دعائية مثل "الإشادة بالموقف الحضاري والحكيم والمسؤول الذي انتهجته دولة قطر في تعاملها مع هذا الاعتداء الغادر، وبالتزامها الثابت بأحكام القانون الدولي...".
ويبدو أن الضجر العام من بيانات الإدانة والشجب والتنديد انتقل إلى صفوف القادة العرب ووزراء الخارجية. فالبنود الأخرى لم تُدن ولم تشجب ولم تندد، بل "أكدت" الإدانة، و"أكدت" الشجب، و"أكدت" التنديد!
بات واضحًا أن "المطالبة والدعوة" هي أقصى ما يمكن للمجتمعين اتخاذه حاليًا من قرارات.
ما سبق لا يكفي على أرض الواقع الكارثي، بالتزامن مع جولة وزير الخارجية الأمريكي مردد الدعاية الصهيونية ماركو روبيو في المنطقة، وتصريحات جديدة حمّالة أوجه لرئيسه دونالد ترامب تؤكد على خصوصية قطر كـ"حليف كبير للولايات المتحدة" ودعوة إسرائيل إلى "توخي الحذر عندما تفعل شيئًا ضد حماس"، وتهديد نتنياهو أمس "يمكن لقادة حماس الاختباء لا الهرب" وحديثه عن ضرورة توسع الكيان في الصناعات الحربية وتقليل اعتماده على الدول الأوروبية "التي تسيطر عليها الأقليات الإسلامية".
انظر كيف يفكر هو وكيف ما زلنا نتردد إزاء أبسط الخطوات!
إن مراجعة اتفاقيات السلام والمقاطعة الاقتصادية والملاحقة القانونية أسلحة معطلة فتح البيان الختامي لقمة الدوحة مسارًا "اختياريًا" و"متأخرًا" لاستخدامها، وهي السبيل الوحيد لخرق الجدار الحديدي للصهاينة، ولرفع سقف التحدي ضد إدارة أمريكية استثنائية برضوخها التام لمخططات نتنياهو لتغيير وجه المنطقة، واستغلالها الماديّ المنحط للأنظمة الخليجية.
لقد ملّت الشعوب حديث القمم حتى تحوّل الهجوم عليها - بذاته - إلى كليشيه ثقيل الظل، لا يلفت نظر أجيالٍ جديدة ربما لا تسمع بجامعة الدول العربية. غير أن قمة الدوحة قطعت خطوة يمكن البناء عليها سريعًا، شريطة امتلاك الإرادة والخيال السياسي الجريء.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.