تصوير نورا يونس، المنصة
الكاتب رءوف مسعد في شرفة منزله بأمستردام، 7 يوليو 2025

وداعًا رءوف مسعد.. قارئ المنصة الأول

منشور الاثنين 20 تشرين الأول/أكتوبر 2025

تنعى المنصة الكاتبَ الكبيرَ رءوف مسعد، الذي فارق عالمنا ليل الجمعة 17 أكتوبر/تشرين الأول، تاركًا أثرًا لا يُمحى بكتاباته ونضاله وتمرده، ومواقفه التقدمية الداعمة للحق والعدالة والحرية.

فضلًا عن كتاباته التي أثرت محتواها، ستفتقد المنصة قارئها الأول، الداعم الذي لم يكن ليفوّت مادة منشورة إلا ويترك تعليقاته مناقشًا ومشاركًا رأيه المبني على الخبرة والمعرفة.

سنفتقد نقده وجرأته وصوته المتمرد الصادح غير القابل للاستئناس والترويض. هكذا عاش خارجًا على كل سلطة؛ دينية ومجتمعية وسياسية.

المشي في التيه

الكاتب رءوف مسعد

ولد رءوف في السودان في 20 مارس/آذار 1937، لأب قس بروتستاني، وتلقى تعليمه الأول هناك قبل أن يعود إلى مصر، ويبدأ في التلاقي مع قادة وشباب الحركة الشيوعية التقدمية في مصر، ولم يتأخر قدره كثيرًا فكان مصيره السجن لسنوات رفقة مناضلي وكتّاب اليسار من جيل الستينيات الملهم، الذين انقلب عليهم النظام الناصري؛ وبينهم عبد الحكيم قاسم ويحيى مختار وصنع الله إبراهيم.

بقدر قسوة هذه التجربة؛ وما تركته في روحه من ألم وفي جسده من آثار التعذيب؛ مثّلت سنوات السجن الأربع لحظةً فارقةً في حياة مسعد.

ومثلما كان السجن "مفتاحًا للكثير من الأماكن المغلقة المكتومة داخل النفس البشرية" كما وصفه في بيضة النعامة، ولولاه لما التقى صنع الله ولما كتب ما كتب وما عاين من تجارب، فقد أدخله أيضًا في التيه الكبير؛ من بعده لم يعد يأمن للوطن الذي عرقل مسار روحه الطليقة؛ حاول الفرار منه بكل ما يستطيع؛ عاش في العراق، بولندا، لبنان، ولم ينتهِ تيهه إلا في هولندا مع زوجته الثالثة وشريكة عمره آنا ماريكا، التي جعلت من أمستردام موطنه، حيث حصل أخيرًا على سقف وغرفة وسرير يخصه وحده، ودفء أسرة مستقرة من طفلين؛ يارا وديدريك.

منذ عمله الأول الرائد بيضة النعامة، لم يتوانَ عن حمل أصعب القضايا وأكثرها جدلًا، طارحًا إياها بحرية وثقل فكري ومعرفي؛ كتب في قضايا حيوية متماسة مع المجتمع، داعمًا للمساواة والعدالة وضمان الحقوق الاجتماعية والسياسية، في مواجهة السلطويات السياسية والدينية والديكتاتوريات بممارساتها المعتادة.

تقترب بيضة النعامة من سيرته الذاتية. فقد كتبها في الأصل بحثًا عن ذاته وهويته المشتتة، كابن أقلية الأقلية، كما يقول، كونه من الطائفة الإنجيلية؛ وجد نفسه مغتربًا عن ذاته وأسرته ووطنه وعالمه برمته، لذا جاءت مواجهته شاملة ضد كل هذا.

بيضة النعامة هذه الرحلة في الزمن والمكان التي تضمنت زيارة السجون، وكشفت عن القمع والتعذيب وعن الجماعات الجهادية ودخلت إلى الغرف المظلمة في الطبقات كلها؛ كسرت بجرأة وتمرد وجسارة التابوهات الثلاث، فتعرضت للجنس المثلي داخل السجون، وتجاوزت المكاشفة وحققت التأثير وإن كان بعد سنوات.

يقول في مقاله تمشية في الذكريات المنشور على المنصة "كتبت عن الجنس المثليّ خارج السجن وداخله، رغم اعتراض صنع الله بحجة أن المباحث سوف تستخدم ما أكتبه ضد الشيوعيين، لكني لم أبال وإن صرت حذرًا في الكتابة. ليكتب صنع الله بعد أعوام طوال رواية 'شرف' عن الجنس المثلي في السجن أيضًا، لكن بين مساجين غير سياسيين".

يمكننا بثقة تنصيب رءوف مسعد رائدًا لكتابة الجسد/الكتابة الإيروتيكية؛ من "بيضة النعامة" مرورًا بـ إيثاكا، وحتى مجمل أعماله التي كان فيها للجنس والغواية وتأمل الأبدان مساحةٌ واسعةٌ.

يكتب رءوف "في الجنس لا عن الجنس"، كما قال في أحد حواراته. يخوض عبره رحلة استكشاف واستغراق وتجاوب وفهم للعلائق بين الأفراد وبعضهم، وبين الفرد ومجتمعه؛ فالجنس كما يقول في "بيضة النعامة" هو "الترمومتر الذي يعطيني مؤشرات واضحة عن الحركة الداخلية للمجتمع. ليست فقط العلاقات الجنسية بمعناها المباشر. لكن الاتصال الجسدي بكل تعقيداته بما فيها الاحتراف الجنسي كمهنة للجنسين في المجتمع المصري فيما بعد الافتتاح".

ربيع الشعوب وخريف البطاركة

رءوف مسعد مثال المثقف المهموم والمناضل المندمج بقضايا وطنه ونضال أمته، ففراره من وطنه الذي سجنه من دون تهمة، ثم تيهه في البلدان؛ وحتى استقراره في هولندا التي هرب دائمًا من شتاءاتها إلى أسوان، لم يُنسِه في أي لحظة بلده ومتاعب بني وطنه، خاصة الساعين منهم لحرية الكلمة وحرية الفعل.

لم يترك قضية إلا وكان أول المشتبكين معها والداعمين للنضال من أجلها؛ هو الرافض لحكم الفرد؛ والواقف مع كل مظلوم ومحبوس ومهان ومدان بكل تهمة؛ الحالم بـ"مصر التي نحياها في مخيلتنا وليس مصر التي نتعامل معها يوميًا في الشارع.. ابتداء من عسكري المرور إلى بقية مؤسسات الدولة"، في سبيل مصر "البهية" وليس مصر التي تخيفنا مثل "أمنا الغولة"، كما قال في أحد حواراته.

زار رءوف مسعد فلسطين التاريخية؛ وأمَّل أن يرى علمها مرفرفًا على البلدان التي اغتصبت

كانت حرب الإبادة الإسرائيلية شديدة الوطء عليه رءوف مسعد؛ الكاتب الذي عاش حصار بيروت، وعاين سنوات النضال الفلسطيني في مراحلها مشاهدًا ومعايشًا لا متابعًا من بعيد؛ مدونًا يوميات الحصار في كتابه صباح الخير يا وطن، ثم كتابه في انتظار المخلص: رحلة إلى الأرض المحرمة.

زار رءوف مسعد فلسطين التاريخية؛ وأمل أن يرى علمها مرفرفًا على البلدان التي اغتصبت، وتعرض شعبها للإبادة والتهجير ولا يزال؛ وتبنى رأيًا حالمًا وهو أن يرى دولة واحدة تجمع الشعبين؛ يكون فيها الفلسطيني مواطنًا من الدرجة الأولى؛ لكن ذلك ظل بعيدًا عن واقع تمرست فيه آلة القتل الإسرائيلية في استهداف الطفل والمرأة والشيخ؛ ولذا يقف كاتب "إيثاكا" و"مزاج التماسيح" و"لما البحر ينعس" إلى جوار كل نضال مشروع يتبناه الشعب ويرضى عنه ولا يُفرض عليه فرضًا.

حلم رءوف بربيع الشعوب وخريف البطاركة العرب؛ مستعيرًا عنوان رواية ماركيز الفاتنة خريف البطريرك، فكتب في بداية هذا الموسم على فيسبوك؛ "هانحن في بداية الخريف... وفي هذا الخريف قد لا يسقط البطاركة ويتم نفيهم في جزيرة.. لأن سقوط البطاركة المتحصنين بالمرتزقة من جند وسياسيين ليس بالأمر السهل! لكن  الشعوب تفاجئنا دومًا بربيعها الدائم الذي يحاول البطريرك دفنه في السجون الباردة و الزنازين الرطبة بلا جدوى، فالبطاركة يقبضون على بضعة أشخاص ويخطفونهم ليظهر بدلًا منهم مئات. هذه  دائرة سحرية للنشطاء و الربيع؛ نشطاء يبدون مثل الطائر الأسطوري الفينيق. تحرقه  فيعيد تخليق نفسه من جديد من الرماد و الجمر".

الكاتب رءوف مسعد مع زوجته آنا ماريكا، أمستردام، 7 يوليو 2025

أوان الرحيل

في أواخر يوليو/تموز الماضي كتب رءوف "للرحيل أوانه. نحن ضيوف في الدنيا ندخلها عرايا نصرخ ونرحل عنها عرايا صامتين. في آخر زيارة لمصر التقيت صنع الله وتحدثنا عن 'الرحيل'، قلت له إني جاهز، فرد قائلًا ما معناه حينما تكتمل مهمتنا في الحياة سوف نغادرها، وله تعبير ساخر عن أوان الرحيل؛ يسميه 'النداء الأخير'... لقد أخذنا صنع الله وأنا وكمال (القلش) ونبيل من الحياة ما قدمته لنا.. عائلة وأبناء وأحفاد، وأعطيناها ما قدرنا أن نعطيه لها بقدر إمكانياتنا، ونرحل عنها شاكرين. علينا أن نصغي للنداء الأخير فنرحل بكرامتنا في أواننا".

وبعدها بيوم قال "صنع الله اختار حياته وسار في اختياراته حتى النهاية، وكمال القلش أيضًا اختار حياته، وأنا اخترت حياتي. لكني أيضًا سأختار رحيلي في هذه الحياة ولما بعدها -إن كان هناك ما بعدها".

بالفعل، رحل صديق عمره صنع الله إبراهيم بعد أسبوعين تقريبًا عن عمر 88 عامًا، ولحقه رءوف في نفس العمر بعدها بشهرين، وأعلنت أسرته وفاته بتوقف قلبه أثناء نومه في مصحة بأمستردام، محاطًا بأحبائه:

"إلى الأهل والأصدقاء والأحباء الكرام، بقلوبٍ يملؤها الأسى، ننعى إليكم رحيل الأب والزوج والصديق الغالي، الذي عاش حياة لامست شغاف قلوبٍ كثيرة وتركت فيها أثرًا عميقًا. سنذكره في فيضٍ من اللحظات التي لا تُنسى؛ في الابتسامة، والكلمة، والحكاية. ففي طيَّاتِ هذه الذكريات، يحيا رءوف؛ لا كشخصٍ كان، بل كروحٍ باقيةٍ تسكن وجداننا. سيتم إحراق الجثمان في مراسم تقتصر على العائلة والأصدقاء المقربين".

وضمنت الأسرة الكلمات التي نشرها في بوست بمناسبة عيد ميلاده الأخير، الـ88، في مارس الماضي، حوى رسالته الأخيرة لهذا العالم:

منحتني الطبيعة حرية الحركة،

لكنها أيضًا وجّهت لي ضربتها:

في بصري، فلم أعد أرى سوى ظلالٍ باهتة،

وفي قلبي.

ومع ذلك، أنا ممتنٌ لها –

فقد أبقت على عقلي

وحماقاتي المحببة.

وهبتني زوجتي، أمَّ أولادي،

ووهبتني عبر عزيزتي يارا، حفيدين رائعين.

وزوجتي أهدتني ابنًا: طيبًا، وديعًا، ومِعوانًا.

إنها سندي، ودفئي، وموطني.

وثمة أصدقاء قليلون لم يسأموا مرافقتي في رحلة الحياة الطويلة هذه، المليئة بالأسفار، والبهجة، والحكايات.

لقد تمسكتُ بما أظنه فضائل قليلة، أهمها الصدق والمواجهة، واحترامي لحق الآخرين في الاختلاف معي. أستطيع الآن أن أردد مع أسلافي وهم يعبرون إلى الشاطيء الآخر اعترافاتهم:

إنني لم ألوّث النهر،

ولم أظلم الأرملة،

ولم أستول على حق اليتيم.

ومن كُتبت عليه خطى مشاها، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

رءوف مسعد بسطا

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.