طبيبها قاتلها وقاضيها.. لماذا تفشل قمم المناخ؟
قبل أسبوعين انفضَّ مؤتمر الأمم المتحدة الثلاثين لتغير المناخ (COP30) الذي استضافته مدينة بيليم البرازيلية، في الفترة من 10 إلى 21 تشرين الثاني/نوفمبر، وأصبح واضحًا أن مؤتمرات المناخ وعملياتها التفاوضية تحولت لاجتماعات بيروقراطية لا تقدم أو تؤخر شيئًا.
خارج هذه الاجتماعات يتغير الواقع بالفعل وتتحرك الأزمة المناخية بمعدلات أخطر بكثير من أفق صانعي القرار الذين يتوافد ممثلوهم على نُسخ المؤتمر كل عام، ويخلق زخمهم الإعلامي الضخم صورة مضلِّلة بأن ثمة تقدمًا يحدث.
الدولة المضيفة بين الأمازون والبرميل
كان من المفترض أن تكون البرازيل في طليعة الدول الداعية للتخلص من الوقود الأحفوري، باعتبارها الدولة المضيفة لقمة المناخ وبوصفها صاحبة الإقليم المطير الأكبر في العالم والبلد الذي يواجه أخطر معدلات إزالة الغابات وأنشطة استخراجية في حوض الأمازون.
انتهى المؤتمر وقد غاب أي ذِكر مباشر لوقف تدريجي للاعتماد على الوقود الأحفوري
يعيش الأمازون نفسه تحت وطأة توسُّع شركات النفط والتعدين والزراعة الصناعية، وكلها قطاعات تلتهم غابات الإقليم الواسع وتسرّع من وتيرة الاحترار العالمي، لكن تعقُّد الواقع العالمي جعل البرازيل عالقة بين طموحها للتحول لقوة صاعدة تعتمد على الطاقة المتجددة، وبين طموحاتها الاقتصادية التي لا تزال مرتبطة بالنشاط الاستخراجي من النفط إلى التعدين إلى الزراعة التصديرية.
هذا التناقض أثَّر على خطاب الحكومة البرازيلية أثناء المؤتمر وجعلها أقل جرأة في دفع مفاوضات مؤتمر المناخ نحو التزام صريح بالتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، خشية الاصطدام بمصالحها الاقتصادية الداخلية، مما جعلها تتبنى لغةً وسطًا بين جميع الأطراف.
انتهى المؤتمر وغاب أي ذِكر مباشر لوقف تدريجي للاعتماد على الوقود الأحفوري، وتضمّنت مسودة الاتفاق مبادرات "طوعية" للعمل على خفض الانبعاثات، ودعوة الدول الغنية لمضاعفة تمويل الدول المهدَّدة بالتغير المناخي.
أزمة بنيوية
يكمن أصل المشكلة في شكل النظام العالمي نفسه الذي تنعكس توازناته على مؤتمرات المناخ، وقواعده التي يفرضها على طريقة التفاوض قبل أن يفرضها على مضمون القرارات، فأكثر الأطراف تأثيرًا ليست الدول الأكثر تضررًا، بل الدول الكبرى والكيانات الصناعية الأكثر تلويثًا، حتى أصبح عدد ممثلي شركات النفط والغاز في المؤتمر السنوي أكبر من وفود بعض الدول.
يقف النظام العالمي الذي صنع هذه الأزمات متفرجًا
هذه الكيانات والدول تتعامل مع المؤتمر وهدفه الحيوي بمنطق السوق، بمعنى أن أي التزام بخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري يعني خفضًا في الإنتاج والأرباح، ومن ثمّ يأتي حضورها بهدف التأثير في مسار النقاش لعرقلة أي صيغة إلزامية في اتجاه تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري.
أما دول الجنوب التي تتحمل الضرر الأكبر فلا تملك ترف التماشي مع هذه المعادلة، فأي ارتفاع آخر في الحرارة ولو نصف درجة مئوية فقط يعني أن تفقد محاصيل أساسية وتعرض مواردها المائية لتهديد وجودي، ومن ثَمّ موجات من النزوح المناخي لمناطق أخرى، بينما يقف النظام العالمي الذي صنع هذه الأزمات متفرجًا عليها بدلًا من أن يكون أول من يسعى لحلول لها.
مؤتمرات للذكرى
قبل عشر سنوات حددت نسخة مؤتمر المناخ في باريس عام 2015 هدفًا مركزيًا خرجت به وهو الإبقاء على متوسط حرارة الكوكب عند حدود 1.5 درجة مئوية فوق معدلات ما قبل الثورة الصناعية.
قبل عشر سنوات كان هذا الهدف أشبه بخطٍ أحمر وضعه العلماء للدلالة على الحد الأقصى الذي يمكن للنظام البيئي للكوكب أن يتحمله، دون التعرض لموجات متتابعة من الكوارث المناخية المتنوعة، التي سيكون بعضها نتيجة للمعدل الحالي، وبعضها سيكون نتيجة للكوارث المتوقعة.
لكن الفجوة بين الطموح والواقع آخذة في الاتساع بسرعة ربما تفوق حتى توقعات العلماء المتشائمة شديدة الواقعية في نفس الوقت، وبدلًا من تحوُّل اتفاق باريس لنقطة انطلاق لعملٍ جاد ومنسّق، دخل الاتفاق في دوامة التعطيل.
كلفة الفشل لا يتحملها المتسببون
أتقن ممثلو الكيانات الكبرى تشذيب النصوص داخل الاتفاقات النهائية، فيستبدل "التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري" بـ"خفض الانبعاثات"، وإدخال مفاهيم مثل "الانتقال المرن" "الخيارات المتنوعة للطاقة"، وهي صياغات غير بريئة بل أدوات تحصين نموذج اقتصادي مفترس قوامه نشاط استخراج الوقود الأحفوري تستفيد منه الدول الكبرى والغنية، وتتحايل عليه بمثل هذه المفاهيم، بينما تستثمر هي في مشروعات أكثر لاستخراج النفط والغاز لعقود عديدة مقبلة، بل وليس من المستبعد أن بعض هذه الدول تُبرم اتفاقيات نفطية أثناء مؤتمرات المناخ نفسها.
ولأن هذه الكلفة لا تقع على عاتق دول الشمال الغنية أو الدول النفطية، يبقى سقف الطموح الدولي محكومًا بحسابات اقتصادية في عواصم مثل واشنطن وأبوظبي والرياض وفيينا "مقر منظمة أوبك"، لا باحتياجات شعوب دول مثل الكونغو أو السودان أو جزر الكاريبي.
الضحية تدفع الفاتورة مرتين
لا يوجد ما يكشف اختلال توازنات القوى في مؤتمرات المناخ مثل ملف التمويل/التعويض، التعلق المستمر بفكرة صناديق التمويل المناخي التي تتغير أسماؤها كل عام دون أن تتغير وظيفتها، فكل مؤتمر يخرج بصندوق جديد مثل ال"خسائر والأضرار" أو "ألتيرا" وغيرها، ويجري الترويج لهذه الصناديق بحماس كما لو كانت مزادات لبيع التحف، وتتسابق الدول لفظيًا كل عام لضخ الأموال في كل صندوق جديد، دون أن يتبع ذلك التزام سواء بتوجيه تلك الأموال لمستحقيها أو حتى الالتزام بسداد ما تم التعهد به.
منذ قمة كوبنهاجن عام 2009 الذي تعهدت فيه الدول الكبرى بتقديم 100 مليار دولار للدول الفقيرة سنويًا بحلول عام 2020 لمساعدتها على مواجهة تغيرات المناخ، لم يصل الرقم كاملًا ولو مرة واحدة، وما يصل فعليًا ففي شكل قروض ومشاريع مصممة لخدمة مصالح المانحين أكثر مما تخدم المتلقين، وإن كانت منح فهي منح قصيرة الأجل لا تبني قدرة حقيقية على التكيف مع تغيرات المناخ الحادة.
وانكشفت فكرة أن الصناديق الجديدة والوعود السنوية هي للاستهلاك الإعلامي، وأن الأموال الحقيقية أقل بكثير من أن تغير مسار أزمة بهذا الحجم والانتشار، علمًا بأن اتساعها مستمر.
ما الذي يمكن تغييره؟
أزمة المناخ ليست قَدَرًا رغم أنها تقترب سريعًا من نقطة اللاعودة، لكنها نتيجة نظام عالمي حازت دوله الكبرى صاحبة النسبة الأعلى من الانبعاثات على القوة، تلويثًا ونفوذًا، والأسوأ هو الاستمرارية في مسار كارثي سيطال الجميع عاجلًا أو آجلًا، حتى لو بقي الشمال محصنًا مؤقتًا بموارده وجودة بنيته التحتية والاقتصادية، فمن دون تمويل/تعويض عادل لدول الجنوب العالمي، غير خاضع لأي شروط سياسية أو إملاءات اقتصادية، سيظل الجنوب يتلقى الوعود لا أكثر، ودون اتفاقات ملزمة وواضحة في خطواتها ومددها الزمنية ستظل الدول الملوِّثة قادرة على التنصل من مسؤولياتها التاريخية بل والإدعاء أنها قامت بدورها.
بجانب أن انتزاع تمثيل حقيقي لدول الجنوب داخل غرف التفاوض يظل ضرورة لا مفر منها، لأن من يتحمل الكلفة الأكبر من آثار التغيرات المناخية يجب أن يمتلك الموقع الرئيسي في صياغة الحلول ومساراتها، لا مجرد مقعد على الهامش، وكذلك لا بديل عن تقييد نفوذ الكيانات التي تعتمد على الوقود الأحفوري التي تتواجد كشريك رئيسي في صنع السياسات وتتحمل نشاطاتها المسؤولية الأكبر عن ازدياد الأزمة سوءًا، ويتحمل نفوذها الذنب الأكبر عن عدم إعلان حالة طوارئ عالمية لسنوات قادمة لحل كوارث غذائية ومائية ستأتي لا محالة.

