الدليفري وموت الأجهزة والـBNPL.. دهس الزمن تحت عجلات "الأسرع"
منذ بدايات الثورة الصناعية وزمنُ دورة رأس المال يمثل قلبَ الآلة الرأسمالية. فكرةُ إضافة ساعاتٍ جديدة إلى يوم العمل ليست قائمةً بقدر التركيز على تحقيق أقصى استفادة من الموارد المتاحة بالفعل، بحيث يُنتج العامل في الدقيقة الواحدة أكثرَ، وتنتقل السلعة إلى المشتري أسرعَ، فيعود الربح إلى جيب المستثمر في أقصر وقت ممكن، لتبدأ دورة عمل/ربح جديدة.
في الطور الرقمي من الرأسمالية، أضحى هذا المنطق برنامجَ عمل متكاملًا، تُصمم فيه المنصاتُ الواجهاتِ لتدفعك لاتخاذ قرار الشراء الآن، وتدير الخوارزميات العمالَ بالثانية، وتُقلِّص البُنى التحتية المالية زمنَ التسوية النقدية إلى لحظات، وتُعيد اللوجستيات رسم المدينة حول وعد توصيل المنتج/السلعة خلال دقائق.
التحديثات وتقصير عمر الأجهزة
يُعَدُّ قِصَر العمرِ الافتراضي للأجهزة الحديثة مثالًا واضحًا على تسريع الزمن، ويُثبت أن طريقة تصميم هذه الأجهزة وتحديث برمجياتها خيار اقتصادي وسياسي يرسم إيقاع الشراء والاستبدال. يظهر ذلك حين تُقصِّر تحديثاتٌ أو تصميماتٌ معينة عمر الجهاز فعليًا، أو حين يقنعنا التسويق ومعايير الأداء بأن ما في يدنا صار قديمًا رغم أنه يعمل جيدًا. كلاهما استراتيجيات تضغط زمن الدورة الاقتصادية، فيأتي قرار الشراء أسرع، لتُسترد التكاليف والربح بشكل أسرع.
يحدث هذا على نطاقٍ واسع، خصوصًا في قطاع الهواتف الذكية؛ مثلًا في 2018 غرّمت هيئة المنافسة الإيطالية شركتي أبل وسامسونج بسبب تحديثات رأت أنها أبطأت أجهزة قديمة ودَفعت المستخدمين للترقية. وفي 2020 غرّمت فرنسا أبل لعدم إخطار المستخدمين بتأثير تحديثات iOS على الطرازات القديمة، وفي الولايات المتحدة انتهت دعاوى إبطاء آيفون إلى تسويةٍ جماعية.
حتى على مستوى الأجهزة نفسها، أقرّ الاتحاد الأوروبي لائحة البطاريات التي تُلزم بأن تكون بطاريات الأجهزة المحمولة قابلة للإزالة والاستبدال من قِبَل المستخدم؛ بحيث لا يكون الاستبدال السريع الخيار الوحيد، وتطيل عمر المنتج وفترة الاستخدام والصيانة.
وإذا أردنا أن نرى الزمن وقد صار مقياسًا إداريًا، فلننظر إلى المستودعات العملاقة. في أمازون مثلًا، بوصفها المثال الأكثر شهرةً، استُخدم لسنواتٍ نظام الوقت خارج المهمة/Time Off Task الذي يحسب بالثواني والدقائق الفجوات بين مسحٍ وآخر، أو بين مهمةٍ وأخرى، ويولِّد إنذاراتٍ تلقائيةً قد تتحول إلى إجراءات تأديبية أو إنهاء خدمة إن لم تُبرَّر.
أسرِع.. سابق.. لا تتوقف
وفي اقتصاد المهام -الترجمة السريعة، التصنيف، الاختبارات القصيرة، إدخال البيانات- تتحول الساعة إلى مهام متناهية الصغر قد لا تستغرق الواحدة منها دقائق، لكن خوارزميات المنصة تضبط الإيقاع، وتُسعِّر الدقيقة، وتُعيد توزيع المخاطر على العامل الذي يجلس منفردًا أمام شاشة.
أظهر تقرير لمنظمة العمل الدولية عام 2021، مبني على آلاف المقابلات، أن عمال المنصات يواجهون تذبذبًا حادًا في الدخل وتنافسًا على المهام متناهية الصغر وضغطًا زمنيًا يزاحم الجودة، فيما تُترجم التحسينات التقنية إلى مزيد من الزمن غير المدفوع (انتظار، بحث عن مهام، تدريب ذاتي) لا يُحتسب في الربح. وتسرّب هذا الضغط إلى الجسد عبر إصاباتٍ عضليةٍ وإجهادٍ متصاعدٍ في أعمال التوصيل تحت مواعيد تسليم ضيّقة.
بعيدًا عن المستودعات، هناك سباقٌ آخر يجري في البورصات. شركاتٌ تستخدم كمبيوترات سريعة جدًا لتنفّذ أوامر البيع والشراء قبل الآخرين بجزء صغير للغاية من الثانية. في عام 2010 بنت شركة Spread Networks كابل ألياف ضوئية شبه مستقيم بين شيكاغو ونيويورك، فصار الوقت الذي تستغرقه الإشارة للذهاب والعودة نحو 13.3 ملي ثانية فقط (أي نحو 0.013 ثانية). هذا الفارق المتناهي في الصِّغر يكفي من يصل أولًا لتنفيذ أمره قبل غيره، فيربح فروقًا صغيرةً في السعر تتراكم لتصبح أرباحًا كبيرة.
وفي الشارع تبدو السرعة أكثر وضوحًا عندما ننظر إلى تطبيق توصيل يعد المستخدمين باستلام مشترياتهم من البقالة في ربع ساعة، عبر مخازن معتمة/dark stores مُغلقة الواجهات تتوزع داخل الأحياء لتقليص المسافات، وخرائط مسارات تُحسَب بالثانية، وإيقاعات عملٍ تضغط على أجساد العمال.
ثم تأتي أدوات التمويل الاستهلاكي لتعيد هندسة الطلب. اشترِ الآن وادفع لاحقًا/BNPL ليست مجرد خطة أقساط سهلة إنها أداةٌ زمنيةٌ بامتياز، تُقصر المسافة بين الرغبة والشراء، لتضغط لحظة القرار إلى "الآن" وتؤجل "الدفع" إلى سلسلةٍ من الأقساط الصغيرة. وبالنظر إلى دورة رأس المال، هذا مثالي، فالمبيعات تُنجز فورًا، والسيولة تتدفق أسرع عبر شركاء التمويل.
ملامح مشتركة ومسارات كبح
تتلاقى الأمثلة السابقة على فكرة واحدة، أن الزمن مادة تُصمَّم وتُدار لزيادة سرعة الدوران. وتظهر هذه الحقيقة في ثلاثة أوجه مترابطة؛ الأول، تجزئة الزمن تعني تقطيع الأعمار والعمليات إلى وحدات أقصر (أعمار أجهزة تُضغط، مهام عمل تُقاس بالدقيقة، وتحويلات مالية تتم في ثوانٍ).
والثاني، أن أدلجة السرعة تجعل "الأسرع" معيار جودة وتسويق وإدارة، بحيث يُنظر إلى زمن الانتظار لا كراحة لازمة بل فقدان قيمة.
والثالث، أن الهندسة المؤسسية للوقت تجعل القاعدة القانونية والمواصفة التقنية والواجهة الرقمية أدوات لإعادة تعريف ما يعد زمنًا "طبيعيًا" للاستهلاك والعمل والدفع والتسليم.
الغرض هنا بالتأكيد ليس تمجيد البطء، لكن صياغة سياسة زمن عادلة توازن بين الفاعلية والحقوق، وتشريعات تُطيل عمر الأشياء، وحَوكمة مدينية تضبط إيقاع الشارع والواجهة، وتصميم سوقي يحدّ من امتياز السبق بالميلي ثانية.
العدالة الزمنية لا تعني إبطاء الاقتصاد، إنما التوزيع المنصف لسرعته وتكاليفه، ليعاد تعريف "الزمن المعقول" بوصفه إطارًا مؤسسيًا قائمًا على عتبة دنيا للسلامة والراحة لا تُمسّ، وسقفًا أقصى للسرعة حين تصبح لها تكلفة اجتماعية وبيئية، ومجالًا مرنًا للابتكار المسؤول داخل هذا الحيز.