صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
شرائح ذاكرة RAM فوق كومة عملات ذهبية وأمام أبراج مراكز بيانات مضيئة مع أسهم صاعدة

شحّ مُصطنع وسوق محتكرة.. القصة وراء ارتفاع أسعار الرامات

منشور الثلاثاء 23 كانون الأول/ديسمبر 2025

واجه مستخدمو الكمبيوتر قفزةً حادةً في أسعار ذواكر الوصول العشوائية/RAM خلال الشهور الماضية، لدرجة أن بعض الترقيات أصبحت تكلّفتها أكبر من ثمن أجهزة كاملة، كما أن أسعار بعض الذواكر من نوع DDR5 بسعة 64 جيجابايت وصلت إلى نحو 600 دولار (أكثر من 28 ألف جنيه مصري).

إضافة لهذا ظهرت مؤشرات إضافية على شحّ المعروض من الذواكر، وهو ما ربطته تقارير تقنية بالطلب المتنامي من مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، مع توقعات باستمرار الضغط السعري قبل أن يبدأ الانحسار في وقت متأخر من العام المقبل.

هذا الارتفاع وشح المعروض لا يبدوان نتيجةً لظرف عابر بقدر ما يكشفان بنيةَ سوق تهيمن عليها قلةٌ من الشركات تمنح المنتجين قدرةً على توجيه الإنتاج نحو الذواكر الأعلى ربحية حتى لو جاء ذلك على حساب احتياجات المستخدمين العاديين، واتساع الفجوة في الوصول إلى ثمار التقدم التقني عالميًا.

لماذا ارتفعت الأسعار؟

نتج ارتفاع أسعار ذواكر الوصول العشوائية عن سلسلة قرارات وتحولات داخل الصناعة تراكمت في وقت واحد. أهم هذه التحولات طفرة الذكاء الاصطناعي وما أحدثته من توسّع سريع في مراكز البيانات التي تُدّرب النماذج وتشغلها.

تدريب النماذج وتشغيلها يحتاجان إلى كميات كبيرة من الذاكرة وإلى أنواع بعينها قادرة على تغذية العتاد المستخدم في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي بسرعة عالية، في هذا السياق ظهرت ذاكرة HBM التي صُممت لتبادل البيانات بكثافة وسرعة، وصارت جزءًا من البنية الأساسية لمراكز البيانات. 

مع توسع الطلب، تغيّر ترتيب الأولويات داخل المصانع بدافع ملاحقة العقود الأكبر، وضمان مبيعات مستقرة وعوائد أعلى، ما أدى في المقابل إلى تقليل تصنيع ذواكر الوصول العشوائية الموجهة للأسواق الاستهلاكية التي تعتمد عليها الكمبيوترات والهواتف. هذا مثلًا ما فعلته شركتا سامسونج وSK Hynix عندما حوّلتا جزءًا ملحوظًا من خطوط إنتاج DRAM التقليدية لإنتاج HBM الأعلى في هامش الربح.

هناك عامل سيجعل هذا الارتفاع في الأسعار أكثر ثباتًا خلال الفترة المقبلة وهو أن جزءًا كبيرًا من الذواكر يُباع عبر اتفاقات توريد بكميات وأسعار تُراجع كل فترة، وعندما يرتفع سعر هذه العقود ستنتقل الزيادة بسرعة إلى السوق كله، بينما يتأخر الهبوط لأن الأسعار تظل مغلقة داخل العقود حتى موعد المراجعة التالي. لهذا ظهرت بعض القفزات السعرية كبيرة ومفاجئة، لأنها نتجت عن تعديل شروط التوريد دفعة واحدة، لا عن تغير مفاجئ في تكلفة الإنتاج.

الرامات بوصفها قدرةً اجتماعيةً

ذاكرة الوصول العشوائية ليست تفصيلًا تقنيًا يهم التقنيين فقط لكنها جزء من البنية التي يقوم عليها العمل الرقمي كله. هذه الذواكر توجد في الكمبيوترات والهواتف ومنصات الألعاب والتليفزيون الذكي، وتعمل في الخلفية داخل الخوادم التي تُشغّل الخدمات السحابية.

لا نراها، لكن أثرها يظهر في سرعة فتح الملفات واستجابة التطبيقات وقدرة الجهاز على إنجاز أكثر من مهمة دون أن ينهار تحت الضغط. إنها الجزء الخفي الذي يحتفظ بالبيانات مؤقتًا ويمنح البرمجيات مساحة للعمل بسلاسة، ولهذا ترتبط بما نعدّه أداءً طبيعيًا في حياتنا الرقمية.

ومن هنا تتضح قيمتها الاجتماعية قبل التقنية. ذاكرة الوصول العشوائية شرطٌ يوميٌّ لإنتاج المعرفة والعمل، فالمبرمج الذي يبني مشروعًا، ومحرر الفيديو الذي يتعامل مع ملفات ضخمة، والمهندس الذي يشغّل أدوات تصميم ومحاكاة، والتعليم والبحث والصناعة، كلها تحتاج ذاكرة كافية حتى لا يتحول الوقت إلى مجرد انتظار غير منتج.

لهذا يصبح الحديث عن إتاحة الذاكرة قريبًا من الحديث عن إتاحة القدرة على العمل والتعلّم والإنتاج داخل الاقتصاد الرقمي وحتى التواصل اليومي.

ظهر تأثير ارتفاع الأسعار في سوق الكمبيوترات الشخصية والمحمولة سريعًا وجليًّا. فخطّط ترقية الذاكرة أو بناء جهاز جديد يصطدمان بارتفاعات متسارعة في أسعار DDR5، حتى بدت بعض الترقيات غير منطقية مقارنة بثمن جهاز كامل.

هذه الضغوط غيّرت سلوك السوق، وبدلًا من أن تتقدم دورة تحديث الكمبيوترات طبيعيًا نحو الأحدث، عاد جزءٌ من الطلب إلى منصات أقدم تعتمد DDR4 الأرخص نسبيًا من DDR5.

ويبدو التأثير في سوق الهواتف الذكية أكثر حساسيةً، لأن هذه السوق تقوم على توازن دقيق بين السعر والمواصفات، خصوصًا في الفئات المتوسطة والاقتصادية. وارتفاع تكلفة ذواكر LPDDR -وهي ذاكرة الوصول العشوائي منخفضة الاستهلاك التي تُستخدم في الهواتف لتشغيل التطبيقات بسلاسة مع تقليل استهلاك البطارية- يضغط على هوامش ربح الشركات. لذلك من المتوقّع أن تظهر زيادة إما في السعر، أو في مواصفات أقل مقابل السعر نفسه.

أما في الخدمات السحابية والبنى التحتية الرقمية، فإن رغم تأخر ظهور الأثر الوقتي، لكنه سيكون أعمق وأطول نفسًا. السحابة تقوم على خوادم ممتلئة بشرائح الذاكرة، وتوسيعها يعني شراء كميات ضخمة باستمرار. ومع ارتفاع الأسعار ترتفع فاتورة التوسع والترقية وتشغيل مراكز البيانات، بالتالي ستتسرب التكلفة إلى المستخدمين في صورة اشتراكات أعلى أو تباطؤ في تحسين الخدمات، خصوصًا في المنتجات التي تستهلك ذاكرة كبيرة.

الحوسبة الشخصية مقابل حوسبة النخبة

تكشف أزمة ذواكر الوصول العشوائية عن أوجه متعددة لقطاع صناعة التكنولوجيا؛ أولها هو أن التكنولوجيا تتحرك داخل صناعة شديدة التركّز، وفي سوق تحكمه قلة من اللاعبين. في مثل هذه السوق، ترتفع القدرة على صناعة شحٍّ فعلي عبر توجيه الطاقات إلى ما يحقق أعلى عائد، أو عبر ضبط الإمدادات بحيث تبقى السوق متوترة. لينتج ارتفاع في الأسعار لا يوازيه ارتفاع مماثل في تكلفة التصنيع، بل يعبّر عن قوة سوقية تتيح صناعة الندرة التي تستخرج أرباحًا.

الوجه الثاني للأزمة هو توزيع وإنتاج الذواكر وفق القدرة على الدفع لا وفق الحاجة الاجتماعية. هذا المورد الحيوي للحياة الرقمية يذهب أولًا إلى من يملك العقود الأكبر والميزانيات الأضخم، بينما تتراجع حصة الاستخدامات اليومية التي تمس الملايين في عملهم وقدرتهم على الإنتاج والتواصل والتقدّم التقني.

أما الوجه الثالث فهو ما يمكن أن نطلق عليه "لا مساواة الزمن". الذاكرة هي فرق بين العمل السريع والعمل البطيء. ذاكرة أكبر تعني برامج تستجيب أسرع، ومهام تُنجز في وقت أقل، وقدرة على تشغيل أدوات أكثر تقدمًا دون توقف أو تعطّل.

في خلفية هذا المشهد تتجاور صورتان تبدوان متناقضتين، في الأعلى تتراكم موارد هائلة لبناء قدرات حاسوبية خارقة، وفي الأسفل يتحول الحصول على ترقية بسيطة لعبء ثقيل. القمة تمضي بسرعة، لا لأنها تخدم المجتمع كله، بل لأنها تخدم التنافس على السيطرة على المستقبل الرقمي، والقاعدة يُطلب منها أن تتأقلم، فيتأجل التحديث، أو تشتري أجيالًا أقدم، أو تكتفي بمواصفات أقل.

أي أننا أمام تكوين اجتماعي يحقق أعلى التقدم التقني لكنه لا يوزعه بالتساوي، بل على العكس يفاقم التفاوت. ويصبح لدينا تطور في جانب وتخلف نسبي في جانب آخر داخل المنظومة نفسها، فتطور مراكز الذكاء الاصطناعي ثمنُه إفقارُ سوق الحوسبة الشخصية وتجفيفه لصالح تراكم الموارد نحو حوسبة النخبة.

الذاكرة بنيةً تحتيةً

أزمة أسعار ذواكر الوصول العشوائية تترك أثرًا أبعد من سوق المكوّنات، لأنها تُظهر هشاشة الحياة الرقمية عندما تُبنى على موردٍ حيوي بلا ضمانات من تغول السوق والمحتكرين. وتحوُّل شروط التشغيل إلى تكلفة متقلبة يجعل التقدّم نفسه قابلًا للتعطيل من داخل السوق. فلا ينحصر الحديث عن أسعار ترتفع وتهبط، بل عن قدرة مجتمع كامل على الحفاظ على حدٍّ معقول من الاستقرار التقني الذي صار جزءًا من استقرار المعيشة.

في هذا السياق، يفتح التعامل مع القدرة الحاسوبية بوصفها سلعة خالصة الباب لأزمات متكررة على النمط نفسه، لأن السوق تكافئ الاتجاه الذي يراكم أسرع ويخدم الأقوى ماليًا. وكسر هذه الحلقة يحتاج تحويلًا عمليًا في زاوية النظر، واعتبار المكوّنات الأساسية للحوسبة جزءًا من بنية تحتية، ووضع قواعد تمنع ترك الحق في الاستفادة من التطور التقني تحت رحمة موجات التسعير، وتوسيع الخيارات عبر سياسات منافسة أكثر صرامة، ومشتريات عامة تحمي الاستخدامات الاجتماعية، واستثمارات تقلل الاعتماد على نقطة إنتاج واحدة.