انفجار فقاعة الرقائق.. "منجم الذهب" يصبح فخًا
لا شيك على بياض لاستثمارات الذكاء الاصطناعي
في الأسابيع الماضية لم تكن الأسهم الحمراء على شاشات وول ستريت هي القصةَ الأساسيةَ، إنما توجهت الأنظار نحو من يقف وراء هذا الهبوط. مجموعة الاستثمار اليابانية سوفت بنك التي قضى مؤسسها ماسايوشي سون سنواتٍ يعض أصابعَ الندم على بيع حصته القديمة في NVIDIA بسعر زهيد قررت الآن بيع ما تبقى من أسهمها في الشركة بالكامل. في التوقيت نفسه تقريبًا بدأ بيتر ثيل أحد أكثر المستثمرين إثارةً للجدل في العالم التخارج هو الآخر.
NVIDIA واحدة من كبرى الشركات العالمية في تكنولوجيا الحوسبة المتقدمة تأسست عام 1993 في كاليفورنيا. اشتهرت أولًا بتطوير وحدات معالجة الرسوميات GPU التي أحدثت ثورةً في ألعاب الفيديو، وسرعان ما أصحبت لاعبًا أساسيًّا في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية ومراكز البيانات، ومع الوقت باتت المزود الرئيسي للشرائح المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة.
لم تتوقف محاولات البحث عن الأسباب الحقيقية لهذه التحركات الحمراء للأسهم، واستندت معظم التكهنات بدايةً إلى احتمال ظهور نموذج ذكاء اصطناعي صيني جديد يمثل هزة أخرى لسوق الشرائح الإلكترونية. لكن بعد تسريب منشور داخلي في شركة OpenAI بدأت الصورة تتضح أكثر، فقد عبّر سام ألتمان الرئيس التنفيذي للشركة عن قلقه من القفزة الجديدة التي تحققها جوجل في تطوير نماذجها.
العلاقة "التوكسيك" بين Google وNVIDIA
طوال الأعوام الماضية، عاشت واشنطن ومعها المستثمرون في أمريكا وأوروبا حالةَ هوس بالبعبع الصيني. الجميع انشغلوا بمراقبة ورصد محاولات الشركات الصينية اللحاق بركب الذكاء الاصطناعي، والإدارة الأمريكية تفرض حظرًا تلو الآخر لمنع وصول رقائق NVIDIA المتطورة إلى بكين. ذلك لأن التوقع السائد كان أن تهديد عرش التكنولوجيا الأمريكي سيأتي من الصين.
وبينما انشغل الجميع بهذا السباق مع الصين، كانت جوجل تعمل بهدوء على تطوير هذا الجيل من نماذجها للذكاء الاصطناعي، واستغلت هذه الفترة لتطوير نماذج ليست أذكى فحسب إنما أكثر كفاءةً اقتصاديًا في استهلاك الطاقة ومصممة لتعمل بأعلى أداء على شرائحها الخاصة (TPU v6/Trillium) بدلًا من معالجات NVIDIA (H100).
يبدو ذلك تغيرًا جذريًا في علاقة جوجل بـ NVIDIA التي طالما ظهرت كعلاقة تقليدية، فجوجل تحتاج إلى الشرائح، وNVIDIA توفّرها. لكن في الأشهر الأخيرة بدأت التقديرات تشير إلى أنّ جوجل تنجح فيما عجزت به الصين حتى الآن، واقتربت من خلق بديل حقيقي يقلّل من أهمية القوة الحاسوبية الهائلة لشرائح NVIDIA ويجعل هذه القوة وحدها بلا وزن حقيقي في المعادلة. حتى وإن كانت لا تستطيع الاستغناء حتى الآن عن شرائح NVIDIA على الإطلاق نظرًا لضخامة مراكز بياناتها واحتياجات عملاء جوجل العملاقة.
القفز في "الخندق" المشتعل
تشكل NVIDIA مع عدد قليل من الشركات ضمن مجموعة السبعة الكبار/Magnificent Seven (Apple, Microsoft, Meta, Tesla, Alphabet, Amazon, NVIDIA) نسبةً تاريخيةً من وزن مؤشر S&P 500، وهو المؤشر الذي يُستخدم عالميًا بوصفه أحد أهم مقاييس أداء سوق الأسهم الأمريكية ويعكس حركة أكبر 500 شركة مدرجة.
هذا التركّز الشديد يعني أن حركة عدد محدود من الأسهم الثقيلة، بينها NVIDIA، يمكن أن تحرك صورة السوق الأمريكي بأكمله، بالتالي أي تصحيح عنيف في سعر NVIDIA لن يمحو فقط مليارات -ربما تريليونات- الدولارات من القيمة السوقية، بل يخلق أيضًا تأثيرًا عكسيًا للثروة يدفع المؤسسات المالية إلى تقليص إنفاقها فورًا.
حتى إذا رافق انخفاض سعر سهم NVIDIA ارتفاع في سعر سهم جوجل (إحدى شركات مجموعة السبعة الكبار) بفضل امتلاكها التكنولوجيا الجديدة، فلن يكون هذا الارتفاع كافيًا لتعويض الفجوة، ذلك لأن الصعود التاريخي لأسهم NVIDIA ارتبط باحتياج شديد إلى شرائح يُرجَّح ألّا تحتاج إليها السوق بالقدر نفسه في المرحلة المقبلة.
إضافة إلى ذلك، فإن ما وصلت إليه جوجل اليوم من تقليل اعتمادها على شرائح NVIDIA لن يكون التطور الوحيد أو الأخير، فالشركات الصينية حاضرة بقوة في السباق وتستعد لاقتناص أي فرصة يتركها هذا التحول.
في هذا السياق، فإن هروب المستثمرين من أسهم التكنولوجيا أو الأصول عالية المخاطر عادةً ما سيعني الاندفاع نحو سنداتِ الخزانة الأمريكية باعتبارها الملاذ الآمن الأهم. لكن هذه القاعدة لم تعد مضمونةً كما كانت؛ فبعد سلسلة من الصدمات التي تعرّض لها الاقتصاد الأمريكي، ومع شروع البنوك المركزية الكبرى في تنويع احتياطاتها والزيادة الكبيرة في شراء الذهب، تراجعت الثقة في قدرة سندات الخزانة على لعب دور خط الدفاع الأخير.
لذلك فإن أي هزة عنيفة في سهم NVIDIA اليوم لا تعني مجرد تصحيح في قطاع التكنولوجيا بل احتمال حدوث ارتباك أوسع في حركة رؤوس الأموال عالميًا.
صدى الصوت من تايوان إلى مصر
خارج الولايات المتحدة القصة تأخذ مسارًا أكثر درامية؛ دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية أعادت هندسة اقتصاداتها لخدمة طفرة الذكاء الاصطناعي، بالتالي فإن أي تباطؤ في NVIDIA يعني تراكم المخزونات في آسيا وتراجع الصادرات.
حتى في دولة مثل مصر سيكون هناك تأثير اقتصادي، فالصلة مع وادي السيليكون لا تمر عبر التكنولوجيا نفسها إنما عبر حركة رؤوس الأموال. وأي هزة عنيفة في وول ستريت تدفع المستثمرين العالميين إلى تقليص مخاطرهم سريعًا، فيسحبون السيولة من الأسواق الناشئة لتغطية مراكزهم المكشوفة في الأسواق الغربية. بالتالي فإن هروب المستثمرين إلى الملاذات الآمنة سيعني ارتفاعًا في تكلفة الاقتراض الخارجي وضغطًا متجددًا على الأموال الساخنة التي لا تزال ركنًا أساسيًا في استراتيجية الحكومة المصرية المالية والاقتصادية.
لا يحمل خروج سوفت بنك وبيتر ثيل من NVIDIA إعلانًا عن سقوط الذكاء الاصطناعي بقدر ما يعلن انتهاء مرحلة بعينها؛ مرحلة الإيمان بأن كل ما يرتبط بالذكاء الاصطناعي يستحق ضخّ رؤوس أموال بلا حدود. لذلك يُمكن اعتبار الفترة الحالية لحظة فرز حقيقية تعكس تحوّلًا في سلوك السوق من التوسّع في تمويل البنية التحتية لمشروعات الذكاء الاصطناعي اعتمادًا على توقعات عامة بالنمو المستقبلي إلى إخضاع كل استثمار في الشرائح ومراكز البيانات لتقييم دقيق لعوائده وتكاليفه ومخاطره.
هكذا لا يقتصر أثر التحولات الجارية على مسار سهم NVIDIA أو موقع جوجل في سباق الذكاء الاصطناعي لكن يمتد ليطال الطريقة التي يتعامل بها النظام المالي العالمي مع وعود التكنولوجيا ذاتها، والشاشات الحمراء في البورصات تتحول إلى إشارة دائمة إلى أن زمن السذاجة في تمويل المستقبل الرقمي يطوي صفحته، وأن المرحلة التالية قد تُبنى على فرز أكثر قسوة بين ما يمثل أساسًا اقتصاديًا صلبًا وما كان مجرد وهم على شاشة تداول.