حساب بيليه على إكس
صورة غير مؤرخة نشرها بيليه على إكس في أكتوبر 2020 تجمعه بوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر

كيسنجر.. "الحريف"

منشور الجمعة 5 كانون الأول/ديسمبر 2025

في حقبة ما، كان هنري كيسنجر "مدير العالم" تقريبًا.

أعرف أن التعبير ينطوي على قدر كبير من المبالغة، خصوصًا إذا راعينا الاعتبارات الرسمية والقانونية من ناحية، وعدم تبسيط وتسطيح الأمور من ناحية أخرى، حيث لا يمكن الحديث عن فرد أو حتى قوة واحدة يمكنها "إدارة" العالم. غير أنه باعتبار وزنه ومجهوداته وقدر الملفات التي استطاع حسمها كمًا وكيفًا، يمكننا استخدام التعبير مجازًا، دلالةً على الثقل والتأثير.

كان كيسنجر مستشارًا للأمن القومي الأمريكي بداية من 1969، ثم وزيرًا للخارجية من 1973 إلى 1977، أي ثماني سنوات في قلب الإدارة الأمريكية جمع في اثنتين منها المنصبين (مستشار الأمن ووزير الخارجية)، من 1973 إلى 1975. وخلال تلك الفترة قاد سياسة انفراج التوترات مع الاتحاد السوفيتي، بما في ذلك التفاوض على اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية.

كما كان أيضًا مهندس الانفتاح على جمهورية الصين الشعبية في عام 1972، وهو أول اتصال أمريكي رسمي معها منذ سنوات. وتفاوض على اتفاقيات باريس للسلام التي أنهت حرب فيتنام، وحصل بسبب دوره على جائزة نوبل للسلام عام 1973 بالمناصفة مع السياسي الفيتنامي لي دوك ثو، الذي رفض الجائزة.

أما في الشرق الأوسط، فدوره بداية من 7 أكتوبر 1973 أشهر من التعريف به.

حارس المرمى الذي صار سياسيًا

الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون يناقش الوضع في فيتنام مع هنري كيسنجر (على اليسار) وألكسندر هيج، كامب ديفيد، نوفمبر 1972

لذلك، لا يتصور كثيرون أن كيسنجر كان له أي اهتمام بكرة القدم، فلا مجاله ولا بلده ولا وقته يوحون بهذا. غير أن سيرته تقول إن علاقته باللعبة الشعبية عالميًا تتجاوز كثيرًا مجرد الاهتمام، حتى إنه يؤثر عنه قوله إنني أفهم في شيئين، "الاستراتيجية الدولية وكرة القدم". وبغض النظر عن مدى دقة هذا القول، فإن شيوعه يعزز الهالة الدائرة حول علاقته باللعبة الشعبية الأولى. كما أن هناك قولًا آخر منسوبًا له وهو "لكي تَكْوُن دولة، أنت بحاجة إلى جيش، وعملة، وفريق كرة قدم وطني".

بدأت علاقة السياسي الأبرز بكرة القدم منذ طفولته في بافاريا الألمانية، عندما كان يحمل اسم "هاينز ألفريد" وكان مشجعًا لنادٍ اسمه "جروتر فورت". لم يرضَ والده عن اهتمامه بالكرة، فحاول توجيهه لمشاهدة الأوبرا مثلًا، لكن هنري كان يحصل منه على ثمن تذكرة الأوبرا ويذهب لمشاهدة اللعبة الفاتنة الأولى.

عندما شبَّ التحق بناشئي النادي وكان حارسًا للمرمى حتى منعه الحزب النازي من ممارسة اللعبة، بل حتى من مشاهدتها، وإن كان من الصعب عليه، بل المستحيل، أن يتحدى قرار المنع من اللعب؛ فإن تحدّي قرار منع المشاهدة ممكن بالتسلل الذي كان ينضوي على خطورة. غير أنه اعتبر ذلك نوعًا من المقاومة الصامتة.

فرَّ هاينز إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938، واستطاع سريعًا الانسجام مع المجتمع الأمريكي وعقليته، والتحق بالجيش ودرس العلوم السياسية في هارفارد، غير أن شيئًا واحدًا لم يستطع التكيف معه، وهو غرام الأمريكان بلعبات مثل البيسبول وكرة السلة، ورغم محاولته الاندماج في هذا فقد فشل واعتبر غرامه بكرة القدم هو ما يحافظ على علاقته بالجذور، وظل شغوفًا للعبة متابعًا لناديه الأصلي (رغم انحداره الشديد عبر الزمن) حتى مات.

كان كيسنجر محلِّلًا جيدًا يمنح اللعبة ودقائقها الفنية أبعادًا لا يمكن لغيره رؤيتها

غير أن لحظة الموت ما زالت بعيدة، فلنتحدث إذن عن غرامه باللعبة، الذي ظل شخصيًا غير ملحوظ حتى تولى منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي 1969، وبدأ هوسه بكرة القدم يصبح لافتًا، فهو يرتب جدوله مراعيًا المباريات المهمة، مما يرهق مساعديه الذين لا يستوعبون ما يهتم به، وكانت ذروة ذلك عندما قرَّر أن يشاهد في الملعب نهائي كأس العالم 1970 بين البرازيل وإيطاليا، الذي فازت به السامبا برباعية لهدف.

فيما بعد، كتب كيسنجر عن تلك المباراة وعن منتخب البرازيل في تلك النسخة من المونديال، وعن هدف كارلوس ألبرتو الشهير، مقدمًا تحليلًا له لا يخلو من وصف فني تقني طبقًا لمقتضيات اللعبة ثم أعطاه مستويات أخرى من الدلالة عن "الاستراتيجية" ليس في كرة القدم فحسب، بل في مناحي الحياة كافة.

بالمناسبة، كيسنجر له مقولات وكتابات في كرة القدم تدل على أنه ليس متابعًا تقليديًا يكتفي بالتشجيع والفرح عند إحراز الأهداف والحزن لدى استقبالها، وإنما هو محلِّل جيد يمنح اللعبة ودقائقها الفنية أبعادًا لا يمكن لغيره رؤيتها.

المبشِّر بكرة القدم حتى 94

خلال فترة وجوده في الإدارة الأمريكية رسميًا لم يتوقف عن محاولات نشر اللعبة في الولايات المتحدة، وكانت أولى المحاولات الكبرى عندما سافر شخصيًا إلى ساو باولو مفاوضًا ومقنعًا الأسطورة البرازيلية بيليه للقدوم إلى بلاد العم سام لاعبًا في أحد الأندية هناك، وهو ما حدث بالفعل، وأسهم في ارتفاع جماهيرية اللعبة إلى حد كبير، صحيح لم تصل لتصبح الشعبية الأولى، لكن قفزة كبيرة حدثت في نشاط اللعبة.

لعب كيسنجر دورًا فعالًا وقياديًا في اللجنة المسؤولة عن ملف استضافة الولايات المتحدة لكأس العالم

بيليه لم يكن الأسطورة الوحيدة التي استقدمها، فهناك أيضًا الألماني فرانز بيكنباور، الشهير بالقيصر، وهناك أفضل لاعب في إفريقيا 1978 الغاني كريم عبد الرزاق، ومن ثم بدأت العجلة تدور منذ السبعينيات.

ثم جاءت محطة أخرى مهمة لاهتمام كيسنجر باللعبة، عندما بات أبرز قادة حملة الولايات المتحدة لاستضافة كأس العالم 1994. كانت مهمة صعبة بالطبع، لكنه استخدم اسمه السياسي الثقيل، بوصفه وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي السابق، وشبكة علاقاته الواسعة والقوية في الدوائر الدولية والسياسية للتأثير على صناع القرار في FIFA، وعلى رأسهم رئيسها آنذاك، البرازيلي جواو هافيلانج.

فضلًا عن ذلك، كان عضوا فعالًا وقياديًا في اللجنة المسؤولة عن ملف الاستضافة، مما أعطى الملف الأمريكي ثقلًا سياسيًا ودوليًا كبيرًا. وكان الهاجس الأكبر للفيفا عدم وجود قاعدة جماهيرية واسعة لكرة القدم في أمريكا. لذلك، ركز كيسنجر على ضمان إنجاح البطولة جماهيريًا.

في هذا الصدد يُنقل عن كيسنجر  أنه التقى بجواو هافيلانج وطالبه بضرورة مشاركة النجم الأرجنتيني مارادونا في البطولة، على الرغم من أن مارادونا كان قد اعتزل دوليًا ويعاني مشكلات صحية، كما أن لياقته البدنية لم تكن مثالية، لكن كيسنجر رأى أن اسم مارادونا وحده كان كفيلًا بـ "رفع شعبية اللعبة" في أمريكا وضمان جذب اهتمام إعلامي وجماهيري عالمي ومحلي ضخم للبطولة.

حدث هذا بالفعل بعد عودة مارادونا للمشاركة مع المنتخب في المونديال، ولم ينغص تلك الجماهيرية ما حدث من استبعاد الأسطورة الأرجنتينية بعد أن شارك بعض المباريات بل ربما زاد هذا الأمر كله إثارة.

ظل كيسنجر طيلة حياته مخلصًا للعبة ولناديه، وربما يكون أفضل مشهد لختام المقال، ما حدث في سبتمبر/أيلول 2012، عندما ظهر الدبلوماسي المخضرم وهو في التاسعة والثمانين من العمر، ببدلة داكنة، يرتدي وشاحًا (أخضر وأبيض) هو علم ناديه الأصلي في طفولته جروتر فورت.

حدث هذا في ألمانيا ذاتها، فقد سافر الذئب العجوز خصيصًا قاطعًا المحيطات والبحار للاحتفال بصعود ناديه إلى البوندزليجا بعد غياب طويل، وهناك كرر مقولته "كرة القدم هي تجسيد الخبرة الإنسانية كاملة".