صورة معدلة باستخدام nano banana
محمد الجندي لاعب النادي الأهلي وصاحب مواهب متعددة في الرياضة والصحافة والفن (1920-1995)

محمد الجندي.. الغزال الأسمر الأصلي

منشور الجمعة 5 أيلول/سبتمبر 2025

لعب التليفزيون دورًا مهمًا في حفظ التاريخ، فرغم قلة المباريات الموثقة من الستينيات وربما السبعينيات والثمانينيات، إلا أنها أتاحت فرصة لأجيال متعاقبة بالتعرف على نجوم تلك الحقب، على الأقل مَن يهتم بالتاريخ، وهكذا فإن نجومًا أمثال صالح سليم وحمادة إمام وطه إسماعيل وطه بصري وغيرهم وجدوا فرصة لبقاء أسمائهم في تاريخ الساحرة المستديرة، لكن ماذا عن نجوم ما قبل التليفزيون؟

دعنا هنا نلقي نظرة على مسيرة حافلة للاعب فذ، ملأ الدنيا وشغل الناس في أربعينيات وبدايات الخمسينيات من القرن المنصرم، وهو محمد الجندي (1920-1995).

موديل إعلانات

عرفت تلك الفترة نجومًا كثيرين، لكن إن أردنا إعداد قائمة بالأبرز، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فإن "أبو الجنود" أحدهم، لا ينتطح في ذلك عنزان. دعني أخبرك بأنه أحد اللاعبين النادرين الذين نحتت لهم تماثيل على يد الفنان مصطفى نجيب بتخطيط فني من صاروخان.

كان الجندي وقتها موديل الإعلانات الأول، خصوصًا لمعجون الأسنان الذي كان اختراعًا في مصر، وهو أول من حمل لقب "الغزال الأسمر"، الذي عُرف به عددٌ من اللاعبين لاحقًا، وإجمالًا كان من نجوم المجتمع، أو كما نقول في التعبير الشعبي "كان له في الجبال علامات".

كما هي العادة في ذلك الزمان، كانت البداية من المدرسة، وكان له زملاءه ماهرًا للغاية في لعب الكرة، وتمنى الجندي أن يكون في مثل مهارته، زميله هذا هو نجيب محفوظ، الذي سيترك مجال الكرة لاحقًا، ليصير فيما بعد أديب نوبل. غير أن الصداقة التي جمعتهما ظلت حتى وفاة الجندي 1995.

الفانلة الحمراء

التحق الغزال الأسمر بالنادي الأهلي، ووقتها لم يكن ارتداء الفانلة الحمراء مُتاحًا لكل المقيدين بالنادي، الفريق الأحمر هو الأول والأساسي، ولكي تبلغه عليك التدرب وخوض مباريات ودية بألوان أخرى، من هنا جاء تعبير "سر الفانلة الحمراء"، أي الذي ناله اللاعب بعد كفاح في فرق النادي الأدنى، وأبو الجنود كان ضمن فريق الأهلي الأبيض.

في سنة 1937، ينظم الأهلي احتفالية كبرى، على هامشها أقيمت مباراتان في كرة القدم بين الأهلي الأحمر والأهلي الأبيض، وكان مفاجئًا أن يفوز الأبيض باللقاءين، ليتقرر على الفور ضم عدد من اللاعبين للفريق الأحمر منهم الجندي الذي جاء انضمامه على حساب لاعب وعضو مهم بالنادي هو مصطفى علواني، جد رانيا علواني، الذي سيصير لاحقًا اللواء مصطفى علواني محافظ أسوان، ثم رئيس اتحاد الكرة.

صار محمد الجندي أساسي بالفريق الأحمر، وبمرور الوقت صعد نجمه وفاقت شهرته أغلب زملائه، حتى جاء العام 1946، الذي حمَل له حدثًا كان من الممكن أن يكون تحولًا جذريًا ليس فقط في مسيرته، بل في تاريخ الكرة المصرية.

عرض احتراف

عُرض عليه اللعب في الدوري الإنجليزي من نادي هدرسفيلد تاون، الذي تصادف وأن زار أحد مسؤوليه القاهرة ورأى أن الجندي، ولاعبًا ساحرًا آخر هو عبد الكريم صقر، يجب أن يلعبا في أفضل دوريات العالم. كان العرض جديًا مصحوبًا بتذاكر السفر، وبالفعل انتقل الشابان إلى بلاد الإنجليز، ووقعا عقود الانضمام للنادي.

لسوء الحظ كان التوقيت غير ملائم، فالحرب العالمية الثانية انتهت لتوها، وفي تلك السنة تحديدًا كان الشبان الإنجليز عائدين من الجبهات بأعداد غفيرة بعد نصر تاريخي، فكانت لهم الأولوية في كل مكان وكل مجال، خصوصًا الدراسة.

ما علاقة الدراسة بالأمر؟ لم تكن القوانين الإنجليزية آنذاك تسمح ببقاء لاعب الكرة في البلاد من خلال تلك الصفة فقط، إلا إن كان مسجلًا في أي مدرسة أو جامعة. نادي هدرسفيلد تاون كان مستعدًا لتفعيل عقدي اللاعبين فورًا، إذا استطاعا بجهودهما الذاتية أن يجدا مكانًا في أي فصل تعليمي، وكان ذلك صعبًا في ظل تكالب الشبان الإنجليز على المدارس والجامعات.

هكذا عانى الشابان لأشهر ثم نفدت كل مواردهما، ولم يعد مسموحًا لهما بالمكوث، فعادا لمصر معلنين ليس فقط عدم اكتمال تجربتهما، بل صعوبة الأمر على أي لاعب مصري في قادم الأيام.

عاد الجندي لمصر وكانت مياه قد جرت في النهر، فلم تعد علاقته بالأهلي كما كانت، والمسؤول عن القلعة كان عبود باشا الذي كان معارضًا لسفر الجندي لكنه لم يكن يملك منعه، فعصر الاحتراف لم يكن قد بدأ. فكان من حق الجندي تغيير صفته من هاوٍ لمحترف، وسافر دون رغبة عبود باشا والنادي، وهو ما تسبب في الغضب من الغزال.

قد لا يملك النادي منع لاعب من السفر، لكنه كان يملك أمور أخرى منها حجب ما كان مقررًا له من جوائز وعلى رأسها ساعة ذهبية كان موعودًا بها. ومن ثم، لم ير الجندي مناسبًا أن يطرق باب الأهلي مرة أخرى، بل كانت فرصته أكبر مع الغريم التقليدي، نادي فاروق (قبل أن يتحول للزمالك) وتوصل بالفعل مع القلعة البيضاء لاتفاق من بندين.

كان محمد حيدر باشا رئيس نادي فاروق المسؤول عن تنفيذ الاتفاق، وكان البند الأول أن يدفع النادي للاعب مبلغ 235 جنيهًا، وكان هذا رقمًا فلكيًا آنذاك، ثروة طائلة. أما البند الثاني فكان مؤجلًا حتى تتيسر الظروف وهو تسهيل التحاق اللاعب بالقوات البحرية من خلال نفوذ حيدر باشا، الفريق السابق بالجيش المصري، لضمان دخل ثابت للجندي ضد تقلبات الزمن.

لعب الجندي لصفوف نادي فاروق حتى أول موسم انطلق فيه الدوري العام 1948-1949، وكما لمع في الأهلي، لمع في فاروق، غير أن البند الثاني كان ينتظر التنفيذ، وهنا تتبدل الأمور إذ استطاع الجندي أن يجد بنفسه وسيلة للالتحاق بالبحرية، فاعتبر اللاعب أن علاقته بناديه استنفدت أغراضها خلال المدة التي لعبها، وغلبه الحنين للفانلة الحمراء.

لحسن حظه، كانت اللائحة في ذلك الموسم تحديدًا تقضي بحق اللاعب في تقديم استقالته والالتحاق بنادٍ آخر، في ظل ضوابط معينة كانت تنطبق على الجندي. قدم استقالته وعاد لبيته وصار على رأس قائمة اللاعبين.

سُنَّة الحياة أن يمضي الوقت ونتقدم في العمر وتصبح إمكانياتنا أقل وإن ظلت أسماؤنا كما هي، لذلك عندما كان الأوليمبي يمر بأزمة ولديه نقص في اللاعبين، لجأ للأهلي للعون، فوافق الأهلي على أن يمنحهم الجندي لموسم واحد فقط 1953-1954. انتقل الجندي إلى الأوليمبي، ثم عاد للأهلي موسمًا رمزيًا واحدًا، حتى يتحقق فقط غرض أنه اعتزل بالفانلة الحمراء.

بعد الاعتزال، عمل الجندي ضابطًا بالبحرية ثم صحفيًا، ومعلقًا وناقدًا أكاديميًا، ومديرًا فنيًا حين أدار منتخب مصر، وتلقى دورات تدريبية علمية في أوروبا، وعلاوة على هذا كان موظفًا في ستوديو مصر، وظهر خلال فترة نجوميته الأولى في أكثر من فيلم كان آخرهم نادوجا مع تحية كاريوكا 1944.

كما أنه كان من "السمّيعة" الذين يحسب لهم حساب، وصديقًا شخصيًا لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وعباس البليدي والذي كان الجندي ينظم له "قعدات سمع" في السيدة زينب.

عاش الجندي بالطول والعرض، ولا أعتقد بتاتًا أن أيًا من معاصريه، تخيل ولو للحظة إنه سيأتي اليوم الذي نكتب فيه مقالًا كل غرضه أن يقول: كان لدينا لاعب مصري مهم اسمه محمد الجندي.