وقائع انقلاب أمريكي معلن في فنزويلا
في آخر فصول فيلم الرعب الأمريكي في القارة الأمريكية الجنوبية، يغلق دونالد ترامب، رئيس أقوى دولة في العالم، المجال الجوي لفنزويلا، الغنية بالنفط، ويحاصرها ويضغط عليها عسكريًا. في الوقت نفسه يُهاتف رئيسها نيكولاس مادورو ويطلب منه مغادرة البلاد مقابل الخروج الآمن.
لم يتأخر رد مادورو، فقد رفع سيفًا تقليديًا خلال تجمع حاشد في يوم المقاومة الفنزويلية، مستدعيًا من دفاتر الوطن شعار القائد التاريخي سيمون بوليفار "الاستقلال أو الموت"، وإن أبدى استعداده لحوار يتضمن تقديم التنازلات.
في لعبة القط والفأر المتواصلة منذ نحو شهرين بين ترامب ومادورو، تزداد وتيرة التصعيد الأمريكي بشكل شبه يومي، فما الأسباب الحقيقية لكل ما يحدث بعيدًا عمَّا هو معلن من محاربة كارتلات المخدرات؟
هل أصبحت فنزويلا، التي تعني بالإسبانية "البندقية الصغيرة" لأنها مبنية على أوتاد فوق الماء في خليج ماراكايبو على غرار مدينة البندقية الإيطالية، عنوانَ فصل جديد في الصراع المشتعل بين الولايات المتحدة والصين حول الهيمنة العالمية؟
لماذا عاد ترامب لتبّني سياسات صكها الرئيس ثيودور روزفلت في أوائل القرن الماضي تمنح بلاده الحق في التدخل في شؤون أي دولة في القارة الأمريكية تُرتكب فيها "مخالفات صارخة ومستمرة، ولو على مضض"؟ نعم، "لو على مضض"، هكذا كتبها روزفلت!
فناؤنا الخلفي بات صينيًا
استيقظت الولايات المتحدة من سباتها العميق لتجد الصين الشريك التجاري الأول لدول أمريكا الجنوبية مع وصول قيمة التجارة معها إلى 393 مليار جنيه إسترليني في عام 2024، بينما بلغ إجمالي القروض الصينية لفنزويلا 45.6 مليار جنيه إسترليني، والأخيرة أصبحت الآن أكبر مشترٍ للأسلحة الصينية في العالم.
لم يقف الأمر عند هذا الحد. أقامت بكين في سبتمبر/أيلول الماضي أول منصة نفطية تديرها في فنزويلا التي تمتلك أحد أكبر احتياطيات النفط المعروفة في العالم.
كما أن لروسيا أيضًا نفوذها، فقد زودت كاراكاس بمنظومات دفاع جوي متطورة. وخلال الأيام الماضية، تواترت تقارير صحفية عن ضغوط يمارسها ترامب على حلفائه للقبول باتفاق سلام في أوكرانيا يخرج بمقتضاه بوتين منتصرًا، مقابل أن يرفع يده عن مادورو.
يضاف إلى ذلك أن تغيير النظام في فنزويلا وكوبا من أهداف صقور ولاية فلوريدا الجمهوريين، وتزداد الأهمية السياسية لهذا الجناح مع تنامي رغبة ترامب في استعادة جزء من شعبيته التي تتدهور بشكل متسارع. يكره هذا الجناح كراهية التحريم أيَّ نظام يعتبر نفسه اشتراكيًا، ويسعى للسيطرة على ثروات فنزويلا النفطية بوضعها تحت رحمة الشركات الأمريكية المفترسة.
لم تكتفِ الولايات المتحدة بالتلويح بالعدوان العسكري لمنع الصين من السيطرة على نفط فنزويلا؛ فقد فرضت عقوبات اقتصادية أشد على عدة دول في أمريكا الجنوبية، منها البرازيل التي ترتبط بعلاقات قوية مع روسيا والصين. كما تدعم واشنطن علنًا اليمين المتطرف الموالي لها.
أما هندوراس، التي تربطها كذلك علاقات قوية ببكين، فاتهم ترامب مسؤولي الانتخابات فيها بـ"محاولة تغيير" نتيجة الانتخابات الرئاسية، التي جرت قبل أيام، في سباق أعلن الرئيس الأمريكي دعمه فيه للمرشح اليميني نصري عصفورة.
رهن ترامب استمرار الدعم الأمريكي لأحد أفقر بلدان أمريكا الجنوبية بفوز عصفورة. وكتب عبر منصّة تروث سوشيال "إذا لم يفز (عصفورة)، فلن تستمر الولايات المتحدة في إنفاق الأموال عبثًا".
غير أن هذا السلوك الاستعماري القديم المتمثل في محاولة ترامب تشكيل كتلة محافظة موالية له في أنحاء أمريكا اللاتينية، مُتعاملًا مع نصف الكرة الأرضية كامتداد للوطن الأمريكي، لا يضرب فقط القواعد الراسخة المُعتمدة أمريكيًا لعالم الأسواق والتجارة الحرة، بل يهدد أيضًا بإشعال الحروب وضم الأراضي قسرًا، كما شاهدنا مع الجدل الذي أطلقته مساعي ترامب ضم جرينلاند في بداية رئاسته الثانية.
بينما يحدث كل ذلك، لم يرتفع صوت أيٍّ من الحكام العرب دفاعًا عن سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، تنتهك أراضيها ومياهها الإقليمية ويُفرض حظر جوي عليها وتُصادر ناقلاتها النفطية دون غطاء شرعي أو قانوني، ولا يعني ذلك سوى أنهم قرروا المزيد من الارتماء في حضن ترامب والارتهان لحليفته إسرائيل التي شنت وتشن هجمات عسكرية في فلسطين وسوريا ولبنان وقطر واليمن وإيران برعاية أمريكية!
مقاومة الصعود للهاوية
لا يمكن فهم سياسات الطبقة الحاكمة الأمريكية تجاه فنزويلا، دون إلقاء الضوء على التطورات التي مرت بها الإمبريالية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، والاندماج المتزايد بين التنافس الاقتصادي لرؤوس الأموال والتنافس الجيوسياسي للدول الامبريالية المتصارعة.
فمع انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وبدء حقبة الهيمنة الأمريكية المنفردة، ساد الكلام عن انتصار الليبرالية.
لكن سرعان ما تكشفت حقيقة مختلفة نوعيًا من الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان إلى تراجع الحجم النسبي للاقتصاد الأمريكي والصعود الاستثنائي للصين قوةً رأسماليةً وعسكريةً أيضًا، دون إغفال التغلغل الصيني الجيوستراتيجي في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.
كما وضع الركود الاقتصادي الكبير في 2008 مشروع العولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها موضع المساءلة، على مستوى السياسات الاقتصادية والنتائج السياسية والفرضيات الأيديولوجية. وزادت أزمة الرأسمالية سوءًا مع ما أظهرته جائحة كورونا من نقاط ضعف في سلاسل الإنتاج، والاعتماد الأمريكي الكامل على الصناعة في آسيا، خاصة الصين، معها الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية، لتضع مشروع الهيمنة الأمريكية محل تساؤل كبير.
وقد تجاوزت الصين الولايات المتحدة بصفتها أكبر مساهم في التجارة الدولية، حيث تعتبر أكبر مصدر للسلع في العالم وأكبر شريك تجاري لأكثر من 150 دولة في عام 2024، ومن هنا كان لا بد من وضع العصا في عجلة الاقتصاد الصيني، ومحاولة تقليم أظافرها في أمريكا الجنوبية، بقوة السلاح والعقوبات.
الثورة الفنزويلية المغدورة
يريد ترامب الإطاحة بحكومة مادورو الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا وإيران والصين إلى جانب دعمه لغزة، ووضع مكافأة قدرها 50 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عنه بهدف تنصيب نظام موالٍ للولايات المتحدة.
وأعلن أن بلاده ستبدأ قريبًا تنفيذ عمليات برية لمكافحة المخدرات في منطقة الكاريبي، بالطبع دون أي غطاء شرعي أو قانوني. في المقابل، أدى 5600 جندي فنزويلي اليمين الدستورية، بعد أن دعا الرئيس مادورو إلى تكثيف التجنيد العسكري من أجل الاستعداد للحرب التي يلوح بها ترامب ضد كراكاس.
ويتجاهل ترامب، ككل الطغاة، دروس التاريخ القريب، فقد فشلت محاولات الإمبريالية الأمريكية عام 2002 لتغيير نظام الزعيم اليساري هوجو تشافيز، بدعمها محاولة انقلاب ضده. بل إن التعبئة الجماهيرية التي دحرت المحاولة أسهمت في بروز ما يُعرف بـ المد الوردي الذي شهد موجة من انتصارات اليسار في البرازيل والإكوادور وبوليفيا ونيكاراغوا في أوائل القرن الحادي والعشرين.
لكن التطور الدراماتيكي، أن مادورو الذي يتحدى أمريكا حاليًا خان الآمال الجذرية للثورة البوليفية، ويترأس نظامًا فاسدًا واستبداديًا ازداد في ظله الأغنياء ثراءً والفقراء فقرًا. ورغم ادعائه الانتماء إلى تشافيز والثورة فإنه ينتهك باستمرار مكاسب الثورة وحقوق العمال.
رغم ذلك يناهض التيار اليساري المعارض لمادورو، الذي يتنامى في البلاد، أي محاولة لتغيير النظام على يد ترامب. ويرى هؤلاء بحقٍ أن استيلاء المعارضة الفنزويلية اليمينية ماريا كورينا ماتشادو الحائزة على جائزة نوبل للسلام على السلطة محمولة على الدبابات الأمريكية، لن يجلب الديمقراطية وحقوق الإنسان.
على العكس تمامًا، من أجل تنفيذ برنامج "إصلاح اقتصادي"، سيكون على حكومة يقودها ما يسمى بـ"المعارضة الديمقراطية" أن تستخدم القمع الوحشي لسحق مقاومة العمال والفلاحين. لقد شهدنا هذا من قبل، حين طبقت حكومة الرئيس الفنزويلي الأسبق كارلوس أندريس بيريز حزمةً من الإصلاحات النقدية أدت إلى انتفاضة عفوية واسعة النطاق في أنحاء البلاد، في فبراير/شباط 1989.
أيضًا لن تحل المشكلات التي تواجه الجماهير الفنزويلية بالتدخل الإمبريالي، ولا بواسطة أتباع الإمبريالية الأمريكية من الأوليجاركية المحلية، بل ستزداد سوءًا. فقط حكومة شعبية تواجه الإمبريالية وتطيح بالحكام المستبدين والفاسدين، وتنجح في استغلال الثروة والموارد الهائلة في المنطقة، هي التي تستطيع تلبية الاحتياجات الملحة للجماهير.
إلى أن يتحقق ذلك، لا بد من تضافر جهود أحرار العالم، على غرار ما حدث في غزة، لدعم نضال ورثة المحرر سيمون بوليفار ضد بلطجة النسر الأمريكي، وتبديد سُحب حرب استعمارية جديدة تهدد بإيقاظ النمر اللاتيني.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.