تصميم أحمد بلال، المنصة 2025
كان فيلم ميكروفون تمردًا على كل أشكال سلطات القمع، السياسي والأمني والأبوي وكذلك سلطة الفن الكلاسيكي

أفلام وأفكار وثورة| ميكروفون.. والإمساك بحلم اللحظة

منشور الأربعاء 31 كانون الأول/ديسمبر 2025

بعد خلع مبارك بأيام، أدلى المنتج محمد حفظي بتصريحات لموقع "في الفن" يوم 22 فبراير/شباط 2011، احتفظت بها الصفحة الرسمية لشركته "فيلم كلينك" منشورةً قبل حذفها لاحقًا، قال فيها إن "الفيلم واجه سوء حظ شديدًا منذ اتخذنا قرار عرضه في إجازة نصف العام، فكان من المفترض أن يتم عرض الفيلم في بداية 2011، ولكن أحداث تفجيرات كنيسة القديسين في الإسكندرية جعلتنا نؤجله، ومع بداية عرضه قامت الثورة، فبات الإقبال عليه ضعيفًا قبل أن يتم غلق دور العرض تمامًا، لكني لم أهتم بالخسارة المادية، فما ربحناه كمصريين أهم بكثير".

الفيلم المقصود هو ميكروفون (2010) من كتابة وإخراج أحمد عبد الله، أحد الأفلام الأولى للشركة التي تأسست في 2005، ويؤكد مالكها، حفظي، في حديثه أنه ليس الخاسر الوحيد. بل إن العديد من شركات الإنتاج تعرضت للوضع نفسه، وأن الخسائر المالية بالملايين. لكنه يؤكد أن "هذه الملايين كلّها لا تساوي شيئًا أمام الحرية والشكل الحضاري الذي ظهرنا به". ويتوقع أن نرى توثيقًا سينمائيًا عن الثورة في الكثير من الأفلام، حيث إن الكثير من السينمائيين شاركوا في التظاهرات، ووثقوا الثورة في مادة تسمح جودتها باستخدامها لاحقًا في الأعمال الدرامية.

الأعمال الدرامية التي يقصدها المنتج هي الأعمال الروائية/التخيلية تحديدًا. ووصف التخيلي/الروائي بـ"الدرامي" خطأ شائع ينفي ضمنيًا عن السينما التسجيلية صفة الدرامية، ويحصرها فيما هو متخيل. ما يهمنا في كلام حفظي مسألتين؛ الأولى توقعه الصائب بأن هذه المواد ستستخدم لاحقًا في الأفلام الروائية. وإن كانت في تقديري لم تستخدم كجزء محوري في البناء الدرامي لأغلب الأفلام، بل لإكسابها مصداقية أنها تعكس الواقعي/الحقيقي. والمسألة الثانية، الأهم، هي هذه الروح شديدة الحماس والانتماء للثورة والحرية التي تدفعه للتقليل من أهمية الخسارة المالية، مقابل ما كسبناه كمصريين من الثورة، وأهمه الحرية.

نهايات ثورية لأفلام غير ثورية

محمد حفظي منتجٌ منتبهٌ لما يحدث حوله، وسريع التفاعل مع الجديد. بمتابعة قائمة أعماله نجد أن الكثير منها إنتاج مشترك مع شركات أخرى، مصرية ومن جنسيات أخرى. مشاريع حصلت على تمويل من صناديق دولية لدعم السينما، وقطاع أساسي منها لم تكن "فيلم كلينك" منتجته في الأصل، بل كانت مشاريع شبه مكتملة تعثرت ماليًا، فيتدخل لاستكمالها مقابل الشراكة، في انسجام مع فلسفة الشركة التي كانت منشورة كذلك على موقعها الإلكتروني، وتشجيعها على إنتاج "الأفلام الفريدة"، وتحفيز المواهب الشابة على تقديمها، في توجه لنوع محدد من الجمهور، يسميه بالجمهور صاحب "الذوق المتميز والذي يحمل تقديرًا حقيقيًا للشاشة الفضية".

الحماس الواضح للثورة في حديث حفظي، والانتباه لما يحدث حوله، انعكَسَا فعلًا في إنتاجه. فشركته أنتجت العدد الأكبر من بين الأفلام التي تناولت ثورة يناير 2011، وإن كان برؤى شديدة التناقض فيما بينها. تُنهي "فيلم كلينيك" قبل الثورة بشهور فيلم أحمد عبد الله "ميكروفون". ورغم أن الفيلم لا تربطه علاقة مباشرة بأحداث الثورة، التي بدأت قبل عرضه الافتتاحي بيوم واحد؛ لا يمكن رؤيته إلا باعتباره فيلمًا يتناول الثورة نفسها، وبعض مقدماتها، ويقترب من بعض من سيشاركون فيها.

تظهر في الفيلم لقطة سريعة لمادة أرشيفية؛ مظاهرة وصورة للشهيد خالد سعيد. وهناك مشهد آخر لبعض مخبري الشرطة يسحبون إلى ممر جانبي شابًا يبيع شرائط الكاسيت القديمة في الشارع، تحت مظلة دعاية انتخابية لأحد السياسيين الذين نراهم فقط في الصور، ويضربونه بشراسة. وهو ما يُذكِّر أيضًا بكيف قُتل خالد سعيد.

ربما أضيفت اللقطة الأرشيفية ومشهد ضرب المخبرين للشاب للفيلم بعد الثمانية عشر يومًا الأولى من الثورة وخلع مبارك، وخلال الأسابيع التي شهدت إغلاق دور العرض السينمائي، وقبل عرضه من جديد. ولا أستطيع الجزم إن كانا من ضمن المونتاج الأصلي للفيلم. لكنهما ليسا ما يقربا الفيلم من الثورة، أو على الأقل من أحد صورها.

هناك أفلام حاول صناعها ركوب الموجة الثورية الجديدة بعد خلع مبارك. فبعد أن كانت أفلامًا منتهية أو شبه منتهية، أتت الثورة، لتُعدَّل نهاياتها، بحيث تبدو وكأنها أفلام ثورية، لتتماشى مع الزمن الجديد. من أبرز هذه النماذج فيلما الفاجومي لعصام الشماع، وصرخة نملة لسامح عبد العزيز، اللذان عُرضا مطلع يونيو/حزيران 2011، بعد تغيير نهايتيهما.

التحفظات على التعديلات التي تحدث على الأفلام بعد اكتمالها لأسباب سياسية لا تنحصر عادة في نقد الانتهازية بمعناها الأخلاقي وإنما تمتد للمشكلات الدرامية التي تسببها. كثيرًا ما تشبه هذه التعديلات "ترقيع" الملابس باستخدام قطعة قماش من نوع ولون مختلفين. لكن ميكروفون، سواء أُضيف المشهد واللقطة بعد اندلاع الثورة، أم كانا ضمن مونتاجه الأصلي، يخرج عن مظلة الترقيع. فالفيلم بتركيبته من أقرب الأفلام للثورة، ولنوعية محددة من أبطالها. وللمفارقة أنه مصنوعٌ قبلها ويحمل نضارتها.

قراءة الفيلم في علاقته بيناير ليس فقط لأن مسرحه الوحيد مدينة الإسكندرية، مدينة الشهيد خالد سعيد، الذي كان لمقتله على يد الشرطة دور أساسي في إثارة غضب قطاعات واسعة من الشباب، مهدت احتجاجاتهم للانفجار الكبير في يناير. بل لأسباب أخرى لها علاقة بمضمونه، وبالشكل الذي يختاره المخرج لتقديم هذا المضمون. وكيف عدَّل من المشروع الأصلي بحيث لا يكون فيلمًا تسجيليًا عن فنون "الأندرجراوند" في الإسكندرية، ليتطور لفيلم يقف بين منطقتي الروائي والتسجيلي، ويرسم صورةً لمجتمع محدد من مجتمعات الإسكندرية، بأحلامه واحتقاناته.

حين تسيَّد الحلم

تحدثت في المقال السابق عن المنظومات الفكرية السائدة مجتمعيًا، وكيف أن الغالبية العظمى من الأفلام والمنتجات الفنية والثقافية لا تخرج عنها، ولا يمكنها التمرد عليها، أو على أصحاب رأس المال، والسلطات السياسية والأمنية، والمجتمع المحيط. لم يُسمح لأفكار ثورة يناير أبدًا بأن تتطور وتتأصل وتتحول لمنظومات فكرية، ناهيك عن أن تسود. لكن في 2010 و2011 كان هناك حلم سائد؛ تغيير كل هذا الواقع، وتحطيم منظومة الاستبداد والاستغلال، وإن لم نكن واعين بعد بالبديل. وهذا الحلم السائد هو ما أنتج ميكروفون، وسمح بوجوده.

"إقرا الخبر.. شيخ البلد.. خلف ولد.. بس الولد.. ساب البلد". هذا المقطع من أغنية لفريق "مسار إجباري"، يتردد في الفيلم عدة مرات، لدرجة أن يغنيه في أحدها بطله خالد أبو النجا، مهزومًا وصارخًا. لن أقول إن غناءه لهذا المقطع كان تنبؤًا بأنه سيُجبر على أن يغادر البلد، فلا مجال للتنبؤات هنا. لكنه مُعبِّرٌ عن أحد الخيوط التي يمسك بها أحمد عبد الله، لرصد حالة تسيطر على بعض شخصيات فيلمه؛ الاختناق، وغياب الفرص والقدرة على التواؤم، والتمرد، والطموح في التحرر ولو عن طريق الهرب.

تحدث أفعال التحدي والعناد في مواجهة عدد من سلطات القمع المختلفة، التي تؤسس لسطوتها المنظومة الفكرية السائدة في 2010؛ بداية من العائلة التي تتحول إلى جحيم للبعض، وصولًا للدولة ممثلة في جهاز الشرطة المطارد للشباب، مانعًا غناءهم في الشارع، وفي الموظف السلطوي المسؤول عن المركز الثقافي الحكومي، الذي يكرر بسماجة أنه أصلًا فنان، مُدَّعيًا مساعدة الفنانين بما يستطيع، فيما يشارك في قمعهم وحرمانهم من فرصة الغناء أو رسم الجرافيتي.

وبين الجهتين، العائلة والسلطة السياسية، نجد السلطة الفنية الكلاسيكية، المختلفة تمامًا عما يغنونه، مُمثلةً في أم كلثوم. وسلطة المجتمع الذي يضحك في صالة السينما على قصة تستحق البكاء وليس الضحك، ويرى الأشياء على طريقته التي لا تناسب هذا الجيل الجديد، فيقدم حياة أسهل نسبيًا للذكور على حساب الإناث. وسلطة الدين والإسلاميين الذين يرون أن الغناء يفسد طهارة مكان صلاتهم القريب. وسلطة مؤسسة ثقافية تبدو مستقلةً وبديلةً، لكنها تمضي في مشروعها الخاص دون مراعاة أنه يضر بفنانين آخرين.

طموحا التحقق والتحرر، وإن عن طريق الهروب، في محيط شبابي سكندري يمثل عيِّنةً من مجتمع شبابي مصري أكثر اتساعًا، تُعبِّر عنهما عدد من القصص غير المكتملة؛ شاب يعود من أمريكا بعد غياب سنوات، يحاول ترميم علاقته بحبيبته التي لا تطيق حياتها في مصر، وترميم علاقته بأبيه الصامت الذي اعتزل الموسيقى، محاولًا صنع شيءٍ مختلفٍ في سياق مشروع يدَّعي أن هدفه المصلحة العامة، لكنه في النهاية مشروع خاص.

إنهما الهاجسان نفساهما عند شابين يخطوان خطواتهما الأولى في صناعة سينما تسجيلية، متعثرين، ومتسائلين عن طبيعة الوسيط الذي يدخلانه، وعن موقفهما من المادة التي يصورونها، ويتعثران أيضًا في علاقة عاطفية لا تكاد تبدأ إلا وتبتر. وعند فريق موسيقي مشكل من فتيات يغنين في السر، وتحت ستر أقنعة تخفي هوياتهن الحقيقية عن عائلاتهن. وعند فتاة جامعية تحاول الحفاظ على محل جدها الذي كان يرسم أفيشات الأفلام في الماضي البعيد، وترسم هي الآن على جدران المحل الجرافيتي الممنوع رسمه في الشوارع. وعند عشرات من الشباب صانعي الفن المختلف والجديد، الباحثين عن مساحة للتعبير والوجود من دون جدوى.

مشاعر الاحتقان والتوتر والرغبة في التحرر، في مجتمع سينفجر بعد قليل في ثورة سيلعب فيها هؤلاء أنفسهم دورًا أساسيًا، سواء عبر الموسيقى، أو الجرافيتي، أو المشاركة الجسدية المباشرة، لا يتناولها الفيلم بمعزل عن اللغة التي يفهمها أبطاله. فعلى مستوى الشكل، ولأن المنتجات الفنية التي يقترب منها صناع ميكروفون في أغلبها مشكلة من جمل غير مكتملة، لا تكتمل كذلك قصص وخيوط الفيلم. نعرف أجزاءً منها، متشظية مثل طريقة تعبير أبطالها، ولها ترتيب زمني غير خطي، يبدو مشوشًا، بمونتاج يُوحي بالفوضوية.

لكنها، ربما، الفوضوية التي ستُكسب يناير بعضًا من جماله وطزاجته، وتشكل أيضًا بعض عوامل هزيمته. بهذا المعنى عبَّر ميكروفون عن حلم اللحظة السائد قبل أن يُجهض، فتعبر الشركة المنتجة نفسها عن نقيض هذا الحلم، وعن روح مختلفة تمامًا في فيلم عيار ناري، حين أراد وتمكَّن أصحاب السلطة من تسييد خطاب آخر. وهو موضوع المقال المقبل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.