تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
انتخابات البرلمان ولعبة السلم والتعبان

مستقبل البرلمان على رقعة "السلم والثعبان"

النقاش حول التمثيل السياسي تقابله محاولات لتجاوز أزمة الانتخابات دون تغيير

منشور الاثنين 22 كانون الأول/ديسمبر 2025

أشعر وكأن النقاش العام حول مستقبل السياسة والبرلمان في مصر استُدرج إلى رقعة "سلم وثعبان" من بعد بيان الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي تبعته تغييرات واسعة في أداء انتخابات مجلس النواب ونتائجه، حملت عدة عناوين، من بينها إلغاء الدوائر بقرارات إدارية وأحكام قضائية، وانقلابات بالجملة في نتائج الدوائر الملغاة، وخسارات فادحة لمختلف الأحزاب، وتبخّر عشرات الآلاف من الأصوات، وانهيار نسب المشاركة خاصة في الدوائر الحضرية والقاهرة والجيزة والإسكندرية.

ومن عجبٍ أن من بين المجتمعين حول لعبة "السلم والثعبان" بعض أصحاب المواقف الثابتة في دعم العملية السياسية والانتخابية بكل مثالبها قبل فيتو الرئيس، فصارت أصواتهم الآن تصدح بالنقد لما فات والتبشير بالقادم، غير أنهم يدفعون النقاش العام نحو تلك الأفاعي الملونة المرسومة على الرقعة لتهوي بنا إلى الخلف، ويحاولون تجاوز "السلالم" حتى لا يمضي الحوار إلى الأمام ليضع أسسًا جديدةً يمكن البناء عليها.

بقليل من التمعن يمكن تمييز الجهود المبذولة -عمدًا أو بحسن نية- لتفريغ المشهد الانتخابي المأزوم من مضامينه الخطيرة، وطيّ صفحة الماضي "على مفيش". لسان حالهم أن العملية الانتخابية برأت من الدنس، وأن الإجراءات التي اتخذتها الهيئة الوطنية للانتخابات وأحكام "الإدارية العليا" والتحرك المتصاعد غير المسبوق من وزارة الداخلية ضد الرشاوى الانتخابية، جميعها تكفي لإنتاج أفضل برلمان مصري ممكن، بالتالي فهو معبّر عن الإرادة الشعبية بحق، ولا حاجة إلى تغيير أوسع.

هل نُسدل الستار؟

يركز هذا الاتجاه النقاشي على القشور دون النفاذ إلى الجوهر، ليبدو أن ارتداد عشرات المرشحين إلى حجمهم الطبيعي بعد فقدان الأصوات الزائدة بفعل المال السياسي أو غيره من التجاوزات، هو البرهان القاطع على سلامة الانتخابات. وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق. فما زالت بيانات الداخلية تتوالى لحظيًا تقريبًا خلال أيام الاقتراع عن انتشار الرشاوى والحشد بواسطة "التكاتك"، وتتواتر الشهادات عبر الصحافة والسوشيال ميديا، وشكاوى المرشحين بشأن "تسعيرة الصوت" وتغيير الاستراتيجية فقط إلى إبعاد تلك الممارسات عن محيط اللجان.

كما أن "سلامة ونزاهة وأفضلية" البرلمان لا تقتصر بأي حال على تمام الإجراءات دون مخالفات أو مهرها بخاتم التصديق القضائي، لأن "التمثيل السياسي" هو قلب العملية.

الواقع يقول إن مئات النواب في البرلمان المقبل، من القائمة الوحيدة أو المستقلين، نجحوا باقتراع شابته العديد من المخالفات ولم يُلغ فوزهم نظرًا لاكتسابهم مراكز قانونية مستقرة، وانتقال اختصاص الطعن على عضويتهم إلى محكمة النقض، فضلًا عن فوز كثيرين قبل وبعد "فيتو" الرئيس بنسب هزيلة من إجمالي عدد الناخبين في دوائرهم، وبما يحتم طرح تساؤلات أعمق حول الحدود المقبولة لوصف كل ما نراه بـ"عملية سياسية" من الأساس.

المال السياسي ليس جوهر القضية

من جانب آخر يؤدي الانغماس في مسألة المال السياسي إلى تصاعد أصوات تتظاهر بالمنطقية وتلقي بعبء التغيير على المواطن وليس المناخ السياسي والمنظومة الانتخابية. فيدّعي البعض أن السيطرة بشكل كبير على وسائل الحشد المعتادة خاصة في الدوائر الجاذبة للأضواء في العاصمة، أسفر عن تراجع مطرد في نسب المشاركة إلى 1.7% في الجيزة و2% في مدينة السادس من أكتوبر وحي البساتين، و2.8% في المنتزه بالإسكندرية والهرم بالجيزة.

ويتناسى الطرح السابق أن عددًا أكبر بكثير من المواطنين حرص على المشاركة في دوائر بها منافسة على خلفية الانتماءات الجهوية أو العائلية بجولة الإعادة، مثل دائرة مركز المنصورة الثانية التي تجاوزت نسبة المشاركة فيها 29%، ودائرة أجا 27%، ودائرة دكرنس وشربين وبني عبيد 23%، إلى جانب دوائر أخرى في الشرقية وكفر الشيخ والبحيرة وقنا والمنيا تدور نسبة المشاركة بها بين 15 و20%.

الأعجب أنني سمعت أحد أصحاب هذا الطرح يزعم أن حملة الداخلية على الرشاوى الانتخابية لها سلبيات، بدعوى تخويف أنصار المرشحين من الحشد حتى اضطُر بعضهم إلى الانسحاب، والإسهام في انخفاض حماسة المواطنين للتصويت! وكأن الهدف هو العودة لحالة الزحام المفتعلة أمام الصناديق، وليس عمليةً حقيقيةً من أجل ضمان التمثيل السياسي للمصريين وخدمة مصالحهم.

البرلمان ضرورة شكلية أم موضوعية؟

أما إيجاد "السلالم" في اللعبة بدلًا من "الثعابين" فيتطلب مقاربة مختلفة، بأن نسأل أولًا أنفسنا: لماذا نريد مجلسًا للنواب؟ ولماذا الاهتمام نخبوي وضئيل في مواجهة العزوف الشعبي؟ ونحن نلمس تجاهل معظم القراء والمشاهدين موضوعات وأخبار ومقالات الانتخابات وانصرافهم إلى "حكاوي وخناقات" والدة إعلامية صريعة و"ترند" بمستوى مسن المترو.

وإذا كنت ترى أن البرلمان ضرورة شكلية في سياق استكمال المسيرة النيابية من 2015 إلى الآن، فلا داعيَ لاستكمال النقاش من الأساس. ففي وجود برلمان ضعيف لا يمثل الناس ولا يضطلع بمهامه الحقيقية في التشريع والرقابة، سوف تزداد الفجوة اتساعًا بين المجتمع والسلطات، وتغدو محفوفة بالضغوط المسببة للاحتقان والغضب والانفلات الذي يُترجم فورًا إلى عنف فردي وجماعي، في ظل غياب مسارات التمثيل والتعبير الحقيقيين.

البرلمان القوي في مصلحة مصر كلها؛ السلطة والدولة والمواطن. وإعادة المواطنين إلى لجان الاقتراع لن تتحقق بغض البصر عن الرشاوى الانتخابية أو حملات التوعية. إن العودة بكثافة وسرعة مرهونة فقط بإحياء العمل البرلماني، وبرفع أيدي السلطة التنفيذية بمختلف أجهزتها وجهاتها عمّا يجري تحت القبة، وترك النواب والأحزاب للتفاعل مع آمال الشارع وآلامه.

لم تعد القضية تتحمل مزيدًا من "المواءمات". لقد أثبتت إدارة المشهد السياسي عجزها في كل التفاصيل، وإذا ارتضينا أن نخطو للأمام مع مجلس النواب الجديد فالفرصة سانحة ليكون "الأفضل" فعلًا في تاريخ مصر، ليس بمجريات انتخابه، بل بأدائه خلال السنوات الخمس المقبلة، بالأخص الدورة البرلمانية الأولى.

التجربة الانتخابية المضطربة، الطويلة، والمُربكة، بصناديقها الخاوية، ليست ناتجةً عن محاولات الهندسة المُسبقة فحسب. إنها بنت الاصطفاف خلف مشاريع الحكومة وبياناتها وتطابق الأصوات والتصريحات. وبنت مواقف تتراوح بين الصفرية والضبابية من قوانين مفصلية في حياة عشرات الملايين مثل الإيجار القديم والإجراءات الجنائية والعمل. وثمرة غياب الأدوات الرقابية، ومحدودية إمكانات النواب وتراجع قدرتهم على تقديم أبسط الخدمات.

سيعود المواطن إلى الصندوق إذا رأى مواقف برلمانية "متمايزة" تبدأ بالجرأة في طرح الأفكار والمساءلة الجادة وتقديم مشروعات القوانين القابلة للنقاش والتطوير، وأمامنا عشرات التشريعات يجب إعادة النظر فيها، سواء المرتبطة بالمصالح المباشرة للناس أو بفتح المجال العام.

التحدي الأول.. الخطوة الأولى

قوانين الانتخاب ذاتها تمثل اختبارًا وتحديًا أول أمام المجلس المقبل، لأن تعديلها يقتضي أولًا توافر الإرادة السياسية، ثم تبدأ العملية الفنية والتشريعية اللازمة لإزالة ما بها من قيود إجرائية وواقعية على الترشح، ولمنع إهدار أصوات الناخبين بواسطة القوائم المطلقة المغلقة، وللقضاء على إشكالات اتساع حجم الدوائر مثل تذكية العصبيات والحساسيات بين المراكز والقرى وتهاوي المشاركة في المناطق التي لم يترشح بها أحدٌ والاحتياج إلى قدرات مالية كبيرة لبسط الدعاية والتحالفات في الدوائر الكبيرة.

إن تعديل قوانين مباشرة الحقوق السياسية والهيئة الوطنية للانتخابات ومجلسي النواب والشيوخ هو المحكّ الرئيسي، لنعرف ما يحمله لنا مستقبل السياسة في مصر. ولا أتحدث عن تعديلات شكلية، بل أقترح مجموعة مبادئ أساسية من حصيلة النقاش العام الممتد حول القضايا الحقيقية:

1- إعادة النظر في حالات الاستبعاد من الترشح وشروط وإجراءات الترشح بما يمنع التعسف في تأوليها وتطبيقها، تحت رقابة القضاء.

2- إلغاء العمل بالقوائم المطلقة المغلقة.(*)

3- إجراء الانتخابات بالنظام الفردي على ثلثي المقاعد، وتخصيص الثلث الأخير للقوائم النسبية، وإتاحة تشكيلها للأحزاب والمستقلين سواء بسواء وفق معايير متكافئة. مما يتوافق مع المادة 102 من الدستور وهي مظلة واسعة لاختيار النظام الانتخابي.

4- النظر في تخصيص القوائم النسبية للفئات المنصوص دستوريًا على تمييزها: المرأة، العمال والفلاحين، الشباب، المسيحيين، ذوي الإعاقة، المصريين في الخارج.

5- إعادة ترسيم الدوائر الفردية بما يجعلها ذات مقعد واحد أو اثنين بحد أقصى، وإلغاء نظام الدوائر الثلاثية والرباعية، لتقليص مساحات الدوائر، والتقريب بين النواب وممثليهم، والحد من ارتباك الناخبين وزيادة عدد المتنافسين في جولات الإعادة.(**)

6- تعديل المواد الخاصة بالفرز في اللجان الفرعية وبالقواعد المنظمة لعمل مندوبي ووكلاء المرشحين، بما يضمن تسهيل قيد التوكيلات لدى اللجان العامة، وضمان تسليم محاضر الفرز لأي من الممثلين المعتمدين للمرشح.(***)

7- تشديد عقوبات الجرائم الانتخابية، بالأخص الرشاوى والابتزاز والتلاعب، واستحداث نظام للتحقيق والمساءلة السريعة وبما يسمح باستبعاد المرشحين المتورطين.

إن الانفتاح السياسي مع إصلاح النظام الانتخابي هو بالضبط الخطوة الأولى المطلوبة، للتدليل على قابلية المشهد للتغيير، وبداية جديدة لممارسة الواجب البرلماني بمسؤولية، لعلها تفتح شهية المواطن للمشاركة الحقيقية.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.