كيف تبخرت أصوات الناخبين بعد فيتو الرئيس؟
فاجأت إمبابة المهتمين بمتابعة السباق البرلماني. فرغم أنها ليست الدائرة الوحيدة التي تشهد إعادة الانتخابات فيها فوارق ضخمة في عدد الأصوات وتوزيعها على المرشحين؛ كانت هي الأبرز لوجودها في قلب الجيزة مع دوائر الاهتمام المركزية، وتنافس وجوه سياسية بارزة فيها.
فهم ما جرى إمبابة، الدائرة الصعبة التي تجمع كتلة سكانية متباينة ما بين الطبقة المتوسطة والتجار والمهنيين وأصحاب الأعمال إلى جانب الطبقات الأكثر فقرًا، قد يساعد في فك شفرة النتائج الأولية لإعادة التصويت في 19 من دوائر المرحلة الأولى لانتخابات مجلس النواب، قررت الهيئة الوطنية للانتخابات بعد "فيتو الرئيس" إلغاء نتائجها لوجود مخالفات. وترتبط نتائج الدوائر المُعادة ارتباطًا وثيقًا بنتائج المرحلة الثانية، التي شهدت بدورها مفاجآت خارج هندسة المشهد الانتخابي.
في الإعادة، صعد المستقلون ومُنيت أحزاب الموالاة ببعض الخسائر؛ واجه حزب مستقبل وطن الهزيمة في عدد من الدوائر الملغاة بخلاف بعض دوائر المرحلة الثانية، بعدما كان دينامو الحزب وقائده الأمين العام أحمد عبد الجواد، يتباهى قبل أسابيع قليلة بعدم خسارة أي مقاعد في المرحلة الأولى.
تكشف هذه النتائج أن للانتخابات وجوهًا كثيرة، تمتد من حسابات الشارع واتجاهات التصويت المفاجئة، إلى التحالفات الهشّة وترتيبات اللحظة الأخيرة التي تعيد رسم الخريطة بعيدًا عن الهندسة المسبقة، والعزوف الشعبي الواضح عن المشاركة في هذه العملية برمتها، فضلًا عن ظاهرة تبخر الأصوات التي ظهرت في أغلب الدوائر.
إمبابة.. قبل وبعد
قدمت دائرة إمبابة دراما انتخابية من اللحظة الأولى. ففي الدقائق الأولى ليوم التصويت الأول في الجولة الملغاة، أعلنت النائبة نشوى الديب في خطاب علني في الشارع انسحابها من هذه الانتخابات "لغياب النزاهة والشفافية".
وقتها، أكدت مصادر حزبية وسياسية لـ المنصة خلال هذه المرحلة وجود اتفاق وتنسيق في الكواليس بين حزبي المحافظين ومستقبل وطن، تجلى لاحقًا في تصريح مجدي حمدان، أحد قيادات حزب المحافظين، عن تشكيل "تحالف ليبرالي" في إمبابة، قبل أن يعلق على صفحته خلال هذه الجولة قائلًا "الليبرالية تنتصر في إمبابة".
في الجولة الملغاة ظهر مرشح حزب المحافظين إيهاب الخولي أمام لجان الانتخاب وخلفه الدعاية الانتخابية لحزب مستقبل وطن وحوله بعض أنصار الحزب الذين يرتدون "فيست" عليه شعار مستقبل وطن، بخلاف أوراق الدعاية التي حملها في الصور عدد من الناخبين أمام اللجان بالمخالفة لقرارات الهيئة الوطنية للانتخابات.
جاءت نتائج الحصر العددي لهذه الجولة كاشفة عن إعادة على المقعدين بين أربعة مرشحين، وليد المليجي عن مستقبل وطن، وإيهاب الخولي، بأرقام متقاربة تتجاوز 20 ألف صوت، بخلاف المرشحين المستقلين أحمد العجوز الذي حصل على نحو 25 ألف صوت، ومرشح الجيل الديمقراطي أحمد عبد القادر.
مع إلغاء النتائج، تبدلت الأحوال وتغيرت قواعد اللعبة، تخلى حزب مستقبل وطن عن تحالفه مع مرشح حزب المحافظين، تراجعت الدعاية للمرشحين أمام اللجان، استمرت عمليات شراء الأصوات بعيدًا عن مقار التصويت في الشوارع الجانبية، التي عادةً ما تكون من خلال جمعيات أهلية بالمخالفة للقانون.
ومع إعلان اللجنة العامة نتائج الفرز، بلغت نسبة الأصوات الصحيحة 24 ألفًا و503 أصوات. صعد أحمد العجوز إلى المركز الأول ولكن بنصف عدد الأصوات تقريبًا (12 ألفًا و715 صوتًا)، وتخوض الديب التي حصلت على 9937 صوتًا مع المليجي الذي لم يحصد سوى 9529 صوتًا، بعد أن كان بحوزته أكثر من 28 ألف صوت قبل الإلغاء.
أما الخولي الذي تجاوزت أصواته قبل الإلغاء 22 ألف صوت، فلم يحصل بعده إلا على 1311 صوتًا فقط، ليكون أقل عدد أصوات في هذه الدائرة، بل أقل من المرشح سعيد عبد الواحد الذي توفي فجر اليوم التالي للانتخاب، بعد أن حصل على أكثر من ثلاثة آلاف صوت.
أين الأصوات؟
يفسر رئيس لجنة الانتخابات بحزب المحافظين عمرو الشريف لـ المنصة الهزيمة القاسية التي تلقاها مرشح الحزب في إمبابة، إيهاب الخولي، وتبخر الأصوات التي حصل عليها قبل الإلغاء "مرشحنا حصل على 1311 صوتًا، كان بالنسبة لنا رقمًا عجيبًا جدًا، لكنه ليس غريبًا إذا قارناه بنتائج الدوائر الملغاة في المرحلة الأولى. هنلاقي نفس الموقف بيتكرر في دوائر أخرى".
"كان فيه تحالف والأصوات متقاربة جدًا"، يقر الشريف بوجود تحالف انتخابي بين الخولي ومرشح مستقبل وطن في الجولة التي جرت قبل الإلغاء "لكن المرة دي ماكانش فيه، وإحنا ضد أي تحالف مع أحزاب الموالاة. التحالف اللي حصل كان بين المرشح وحملته على الأرض، مش بين الحزبين".
ونفى الشريف وجود أي تنسيق حزبي يتعلق بالخولي أو بمرشح الحزب إسلام قرطام الذي فاز في دائرة البساتين ودار السلام.
في المقابل، قال مصدر في حزب مستقبل وطن لـ المنصة إن الحزب "ركّز في المعركة على إنقاذ مرشحيه فقط بعيدًا عن التحالفات، لأن الدوائر الملغاة كانت تحت الضوء"، واتفق مع الشريف في أن عزوف الناخبين كان عنصرًا مؤثرًا في النتائج.
ينضم لظاهرة تبخر الأصوات سناء برغش مرشحة حزب مستقبل وطن في دائرة دمنهور بمحافظة البحيرة، التي كانت حسمت المقعد المرة الأولى باكتساح بعد حصولها على أكثر من 74 ألف صوت، لكنها الآن ستخوض جولة إعادة بعدما حصلت على 31 ألفًا و305 أصوات.
مرشح مستقبل وطن حصل على 1545 صوتًا مقابل 5185 في الجولة الأولى
ومن البحيرة شمالًا إلى نجع حمادي في الجنوب، حيث فقدَ مرشح حزب الجبهة الوطنية معتز محمود مقعده البرلماني الذي احتفظ به دورتين متتاليتين، بعد حصوله على 12 ألفًا و750 صوتًا أخرجوه من السباق الانتخابي، وكان لديه قبل الإلغاء 65 ألفًا و478 صوتًا.
وفي نجع حمادي أيضًا كان اللواء خالد خلف الله عضو المجلس الحالي عن مستقبل وطن حسم مقعده بعد حصوله على 78 ألفًا و271 صوتًا في الجولة الملغاة، ولكنه حصل بعد إعادتها على 28 ألفًا و721 صوتًا ليخوض الإعادة.
وفي دائرة الرمل في الإسكندرية حصل مرشح مستقبل وطن أحمد عبد المجيد على 51 ألفًا و857 صوتًا قبل الإلغاء، وبعده على 15 ألفًا و457، وهو ما تكرر مع عمر الغنيمي مرشح مستقبل وطن في نفس الدائرة، فحصل قبل الإلغاء على 50 ألفًا و312 صوتًا، وبعده على 19 ألفًا و680 صوتًا، وأيضًا مرشح حماة الوطن حازم الريان، الذي حصل قبل الإلغاء على 48 ألفًا و837 صوتًا، وبعده على 14 ألفًا و561 صوتًا.
كيف تبخرت؟
لا تبدو ظاهرة "تبخر الأصوات" مرتبطة بعامل واحد، بل هي نتاج تداخل معقّد بين عدة عوامل، ليس من بينها بالتأكيد تغيّر مزاج الناخبين خلال ثلاثة أسابيع فقط.
في إعادة الجولة الملغاة، تراجعت نسب التصويت في جميع الدوائر، لكن إلى جانب هذه الأصوات التي تبخّرت؛ تباين بشدّة توزيع الأصوات التي حضرت على المرشحين، فأصبح الخاسر في الجولة الأولى فائزًا في الإعادة، والناجح باكتساح متراجعًا إلى إعادة أو خارج السباق بالكامل.
لم تكن نسب المشاركة الهزيلة هي المفارقة الوحيدة للمشهد الأخير في هذه الانتخابات؛ فهناك أيضًا تأثير الفيتو الرئاسي الذي أعاد ضبط حدود التدخلات وشبكات الحشد، لينعكس فورًا على ترتيب المرشحين ومسار الجولة المعادة.
في الجولة الأولى تشكلت تحالفات بين أحزاب الموالاة وبعضها البعض، وبين مرشحين مستقلين وحزبيين، ونجحت هذه التحالفات في حشد شبكات الدعم والسيطرة على مسارات التصويت، ومع حضور واسع للرشاوى الانتخابية في عدد من الدوائر، صبّت الأصوات في كثير من الأحيان لصالح هذه الترتيبات، وهو ما لم يحدث في المشهد الجديد.
ورغم استمرار شراء الأصوات؛ تراجع الإقبال في الجولة المعادة، وتكبدت الأحزاب الكبرى خسائر لصالح المستقلين الذين صعدوا مدعومين بشبكات اجتماعية أكثر ثباتًا وأقل تأثرًا بتقلبات المشهد. وبحسب المصدر في مستقبل وطن، قد يعود ذلك إلى أزمة "الهندسة السياسية منذ البداية"، وقال "أعتقد أن الاختيارات لم تكن موفقة في عدد من الدوائر بدليل إن عدد من المستقلين الفائزين هم في الأصل من حزب مستقبل وطن".
تُظهر إعادة الانتخابات أن فقدان الثقة في العملية الانتخابية، حوَّل الانتخابات إلى ساحة مصالح وتحالفات لحظية، بعيدًا عن إرادة المواطنين الحقيقية، مما يجعل استعادة الثقة وإعادة السياسة إلى صلب العملية الانتخابية هو التحدي الأكبر خلال السنوات المقبلة لعدم تكرار هذا المشهد مرة أخرى.

