تصميم: يوسف أيمن، المنصة
حبس الأطفال

العيال كبرت.. في السجن

منشور الثلاثاء 30 كانون الأول/ديسمبر 2025

أصدرت المحكمة حُكمها بمعاقبة المُتَّهمَيْن الاثنين بالسجن عشر سنوات. النيابة اتهمت الأول بتأسيس وتولِّي قيادة جماعة إرهابية، واتهمت الثاني بالانضمام للجماعة، واتهمتهما معًا بتمويل هذه الجماعة الإرهابية والاشتراك في اتفاق جنائي لارتكاب جريمة إرهابية.

اتهامات معتادة وقضية متكررة، لكنَّ اللافت هذه المرة أن الشخصين اللذين واجها هذه الاتهامات طفلان لم يبلغا الثمانية عشرة، ورغم ذلك ألقي القبض عليهما ولم يتمكن المحامون والأسرتان من التعرف على مكان احتجازهما لأيام، ثم وقفا أمام نيابة أمن الدولة العليا لا نيابة مختصة بقضايا الطفل، وبقيا رهن الحبس الاحتياطي أكثر من عام، قبل أن يصدر الحكم بسجنهما 10 سنوات.

حتى الآن لا يعرف الطفلان ولا أُسرتاهما ولا المحامون بوضوح ماهية الجماعة الإرهابية أو النشاط الإرهابي المنسوب لهما ارتكابه. فقط يقول الأهل إن الولدين انضما إلى مجموعة على تليجرام وهما يلعبان PUBG. لا نقطع بالبراءة، ولا نستبعد الإدانة، فقط نستغرب التجاهل الدائم للقوانين المصرية التي حددت آليةً واضحةً للتعامل مع الأطفال المتهمين في قضايا جنائية.

في مصر، كما في العالم كله، هناك مسار منفصل لمحاكمة الأطفال والتحقيق معهم، وفي أغلب الأوقات يتعيَّن التعامل معهم كضحايا يحتاجون للحماية لا مجرمين مستحقين للعقاب. حتى الدول التي تتيح قوانينها حبس الأطفال دون الثامنة عشرة احتياطيًا مثل فرنسا، تشترط فعل ذلك "عند الضرورة القصوى مع تفضيل بدائل الاحتجاز"، وفي كل الأحوال يُحبسون في سجون مخصصة للأحداث، يُمكَّنون فيها من الدراسة ولقاء الأهل.

هنا على أرض الواقع، يُحبَس الأطفال احتياطيًا دون مبرر واضح، يُخفون قسرًا لأيام دون إعلام ذويهم بمكانهم، يُحقق معهم أمام نيابات غير مخصصة لهم، يُحبسون مع بالغين في الزنازين نفسها، يُستجوبون لساعات داخل المقرات الأمنية دون مراعاة لخصوصيتهم. وكلها مخالفات ليس فقط للقوانين الدولية بل حتى للقانون المصري نفسه.

الأزمة أن هذا كله يحدث بشكل دوري ونمط متكرر وجماعي، والأزمة تصبح أكبر عندما يكون الطفل مجرد رقم داخل قضية كبيرة تضم مئات المتهمين، القضية رقم 165 لسنة 2024 مثلًا كانت تضم سبعة أطفال ضمن 24 متهمًا.

الحبس للجميع

يكافح المحامون والحقوقيون طوال العقد الأخير لإقناع الدولة بالكف عن استخدام الحبس الاحتياطي عقوبةً في قضايا البالغين والبحث عن بدائل أخرى، فإذا به يُستخدم ضد أطفالٍ لم يبلغوا بعد السن القانونية.

قضى "م.س" 10 شهور كاملة في الحبس الاحتياطي عندما كان عمره 16 عامًا، ساءت خلالها حالته الصحية وبات مهددًا بفقدان بصره نتيجة لحاجته إلى جراحة عاجلة رفضت السلطات إجراءها ولو على نفقة أسرته الخاصة.

أُلقي القبض على "م.س" في 24 مايو/أيار 2023 ووُجهت إليه قائمة الاتهامات نفسها، على رأسها الانضمام لجماعة إرهابية وخضع للحبس الاحتياطي، وفي 19 يوليو/تموز من العام نفسه قررت المحكمة إخلاء سبيله بضمان محل إقامته مراعاة لوضعه الصحي شديد الخطورة.

لكن الداخلية امتنعت عن تنفيذ القرار وأعادت عرضه على النيابة بعدها بيومين على ذمة قضية أخرى وبلائحة الاتهامات ذاتها ليتم حبسه احتياطيًا مرة أخرى على ذمة القضية الجديدة، وبعد كثير من المناشدات للنائب العام والسلطات القضائية من أسرة الطفل ومحاميه والمنظمات الحقوقية صدر قرار بإخلاء سبيله على ذمة القضية.

يقول دوستويفسكي إن الدرجة الحقيقية لتحضر أي مجتمع تُقاس بكيفية تعامله مع أضعف أفراده، لذلك لا نفهم لماذا تتعنت مؤسسة كبيرة مع طفل لهذا الحد؟ ولماذا يصدر قرارٌ بحبس طفل احتياطيًا بناء على محضر تحريات ودون دليل واحد؟ وما الذي ستخسره منظومة العدالة إذا خرج الطفل وتواصلت محاكمته دون حبس احتياطي؟

من أهم واجبات الدولة ألَّا أن تكون هي أداة ظلم الأطراف الأضعف واستغلال ضعفهم، حتى أولئك الأطفال الذين ارتكبوا جرائمَ ثابتةً نتيجة تربية خاطئة أو بيئة مسمومة، هم ضحايا واجب على الجميع العمل على تقويمهم وإعادتهم إلى المجتمع أعضاء صالحين، ما بالك بطفلٍ سار في مظاهرة أو انجرَّ خلف لعبة إلكترونية أو نشر فيديو على تيك توك!

عاهة مستديمة

توثِّق منظمة هيومن رايتس ووتش عام 2020 حالة كريم حميدة، الذي كان عمره أقل من 17 عامًا وقت القبض عليه، وقتها حُكم عليه بالإعدام رغم أن الاتهامات الموجهة إليه لم تتضمن قتلًا أو إصابات، ورغم أن القانونين الدولي والمصري يمنعان الحكم بالإعدام على من هم دون الثامنة عشرة.

لاحقًا وبالتزامن مع ضغوط حقوقية خُفِّف الحكم إلى السجن عشر سنوات، رغم أن أن هيومن رايتس تحدثت عن إخفائه أسابيع منذ القبض عليه وحتى تقديمه للنيابة، وأنه تعرض للتعذيب وسوء المعاملة لانتزاع الاعترافات التي اعتمدت عليها المحكمة، ولذلك اعتبرت المنظمة أن هذه القضية تحديدًا كاشفة للنمط المقلق لمحاكمة الأطفال أمام محاكم استثنائية واستخدام الاعترافات القسرية في انتهاك صارخ للقوانين الدولية واتفاقيات حقوق الطفل.

ليست مجرد أيامٍ ضاعت من عمره، ولا دروسٍ غابت عن دفاتره، فالطفل الذي يُنتزع من سرير إلى زنزانة، ومن لعبة إلى قيد، لن يخرج من التجربة كما دخل، وحين يكون الحبس أول لقاءٍ مع الدولة فإننا نخاطر بإنتاج جيل يحمل في داخله شعورًا دائمًا بالمرارة والخذلان.

الخبر الجيد أن تجنب هذا المسار ليس صعبًا، فقط يبدأ بإدراك حقيقة أن الطفل مشروع إنسان وليس ملفًا أمنيًا، وبأن الجور في استخدام السلطة إن كان سيئًا في المطلق، فهو أبشع بكثير عندما يكون الضحية طفلًا.

يحمل القانون المصري ضمانات عديدة وخطوات واضحة للتعامل مع قضايا الأطفال، ليست كافيةً وليست مثاليةً، لكن على الأقل يجب احترامها والسير وفقًا لأحكامها، كما يحمل القانون المصري هامشًا واسعًا من التسامح ومخارجَ عديدةً للتخفيف والعفو استُخدمت سابقًا مع هشام طلعت مصطفى وصبري نخنوخ المتهمَيْن بالقتل وحيازة السلاح، ولم تُستخدم مع الذي قُبِضْ عليه من مظاهرة عام 2013 وهو في التاسعة عشرة من عمره، وأمضى عشرينياته كاملة في السجن، وأكمل قبل شهر عامه الثاني والثلاثين.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.