هنا القاهرة.. غناء وسياسة وحشيش تحت حراسة الشرطة

منشور الثلاثاء 31 يوليو 2018

تدريجيًا؛ تتغير معالم القاهرة التي عرفناها، وتتحول ملامحها التي شكلت شخصيتها إلى ذكريات نبحث عنها في الصور الفوتوغرافية وأفلام السينما والروايات.

في منتصف يوليو/ تموز المنقضي، واصلت محافظة القاهرة بالتعاون مع وزارة النقل إزالة قضبان مترو مصر الجديدة، الذي كان معلمًا لهذا الحي منذ نشأته. 

يأتي هذا التحرك في ظل حركة واسعة ممتدة منذ سنوات، لهدم عقارات وفيلات قديمة في مختلف أحياء المدن المصرية العريقة كالقاهرة والأسكندية وبورسعيد والمنصورة، لتظهر بدلا منها أبراج شاهقة. وتدريجيًا؛ تتغير معالم القاهرة التي عرفناها، وتتحول ملامح المدينة التي شكلت شخصيتها إلى ذكريات نبحث عنها في الصور الفوتوغرافية وأفلام السينما والروايات.

 

ترام مصر الجديدة 

تمثل الأفلام والروايات المصرية مصدرًا هامًا للاحتفاظ بالذاكرة البصرية وطبيعة الحياة اليومية لأحياء القاهرة على مدار العقود المختلفة، فمن ينسي قاهرة الأربعينات والخمسينات التي قدمها نجيب محفوظ في روايات مثل "زقاق المدق" والتي يصف فيها محفوظ المقهي في الزقاق بقوله "حجرة مربعة الشكل في حكم البالية، ولكنها على عفائها تزدان جدرانها بالأرابيسك، فليس لها من مطارح المجد إلا تاريخها، وعدة أرائك تحيط بها، وعند مدخلها كان يكب عامل على تركيب مذياع نصف عمر بجدارها" في روايات محفوظ وصف للقاهرة العريقة بأزقتها ومساكنها ومقاهيها وناسها.

 ومن ينسى قاهرة الثمانينات والتسعينات التي وثَّقتها كادرات مخرجي الموجة الجديدة، كعاطف الطيب وخيري بشارة ورافت الميهي وأبرزهم محمد خان الذي احتلت القاهرة مركز البطولة في أغلب أفلامه منذ فيلمه الأول "ضربة شمس"، مرورًا بالحريف وأحلام هند وكاميليا وصولا إلى بنات وسط البلد وفي شقة مصر الجديدة.

في فيلمه ضربة شمس، قدم خان كادرات لميدان التحرير كما كان قديمًا، ومع التغير التام لشكل الميدان الآن، يبقى فيلم خان وثيقة بصرية لقطار القاهرة (قبل مترو الأنفاق) وشوارع وميادين وسهرات وسط البلد. وفي فيلم عاطف الطيب "سواق الأوتوبيس" ترى لقطات لشوارع القاهرة في السادسة صباحًا، موعد تحرك أول أوتوبيس لهيئة النقل العام بشكله القديم. وفي "الحب فوق هضبة الهرم" نرى مشاهد أحمد زكي وآثار الحكيم يتجولان في وسط المدينة في بداية الثمانينات. وخيري بشارة في "آيس كريم في جليم"  قدم لنا شوارع المعادي وجراجاتها ومحلاتها في أوائل التسعينات. هذه الأفلام ستظل سجلا بصريا للقاهرة وشوارعها وملابسها وأغانيها، ستظل مرجعا أساسيا لكل من يريد أن يسترجع المدينة خلال عقود مضت.

هنا القاهرة

في رواية الكاتب إبراهيم عبد المجيد "هنا القاهرة" الصادرة في 2014 ينتقل الكاتب من مدينته المفضلة والمحببة في رواياته (الأسكندرية) إلى القاهرة في رحلة بدأت في سبعينات القرن العشرين بعد إنهاءه للخدمة العسكرية.

في القاهرة يبدأ البطل عمله ومشواره الروائي ونشاهد عبر الرواية كيف كانت قاهرة السبعينات بأحيائها ووسائل مواصلاتها وثقافتها وسياستها وناسها ووسائل الترفيه فيها.

يبدو البطل "صابر سعيد" مقبلا علي الحياة في القاهرة 1974، عندما يبدأ عمله في هيئة الثقافة الجماهيرية "قصور الثقافة حاليًا" ويكتشف القاهرة التي  سوف يعيش فيها. يبدأ البطل جولته في وسط المدينة بالمسرح القومي الذي كان يعرض مسرحية "النسر الأحمر" لعبد الرحمن الشرقاوي من إخراج كرم مطاوع وبطولة سهير المرشدي وعبد الرحمن أبو زهرة وأمينة رزق وحمدي أحمد، ويكتشف بار متاتيا ومقاهي الحرية وإيزافيتش، في ميدان التحرير، الذي سيتحول بعد ذلك الي أحد المطاعم الأمريكية، ومقهي ريش الذي يجتمع به الكثير من المثقفين والمقهي النوبي ومقهي استرا. 

 

ويلتقي بأعضاء تنظيم شيوعي سري في إحدى الشقق بالقرب من شارع محمد محمود، ويزور سينما ريفولي التي كانت تقيم فيها أم كلثوم حفلاتها، ويلاحظ الباعة الجائلين الذين يبيعون الملابس المستوردة ويمر علي سينما "مترو" التي كانت تعرض فيلم "جاتسبي العظيم" وهو الفيلم المأخوذ عن الرواية التي قرأها البطل واستمتع بها، وسينما ميامي تعرض فيلم "أين عقلي" لسعاد حسني نجمة السبعينات في السينما المصرية وسينما راديو تعرض فيلم"بذور التمر هندي" لعمر الشريف. ويشاهد الحاج "مدبولي" صاحب فرشة الكتب الشهيرة القادر على إحضار الكتب الجديدة والممنوعة، ومحل "فلفلة" لسندوتشات الفول والفلافل ومحل عصير القصب الذي يبيع كوب العصير بقرش صاغ.

 

ملصق دعائي غير رسمي لفيلم أين عقلي

كذلك تبدو الشخصيات في الأماكن الحكومية ذات طابع خاص يختلف عن حاضرنا، فعمر إبراهيم المدير في الثقافة الجماهيرية يساري يكشف عن أفكاره للموظفين، ويعارض السادات بشكل واضح ولا يتقيد بالروتين والتقاليد، فلا يحب أن يقف الموظفون أمامه، ولا يقيد الموظفين بمواعيد الحضور والانصراف، فهو يعتبرهم مثقفين لا موظفين وكل ما يهمه هو عدم تعطيل العمل، وينصح بطل الرواية "صابر سعيد " بالنشر في مجلات اليسار مثل "الطليعة"و"الكاتب" لأن اليمين بدأ في السيطرة علي صفحات الثقافة. ويري أن الثقافة الجماهيرية يتم استهدافها حتي تكون في خدمة السادات وأمن الدولة. كذلك تظهر الموظفات والسكرتيرات العاملات في المكتب بشكل أنيق يتبع صيحات الموضة في الملابس والعطور لتصفهم الرواية بحسناوات هوليوود.

حشيش وشيخ

يمكن من خلال الرواية معرفة وسائل الترفيه والاستمتاع في السبعينات. فصابر سعيد يتلقى دعوة من المدير عمر إبراهيم لقضاء سهرة في غرزة حشيش حتي يخرجه من أحزانه. تبدأ السهرة علي مقهي الفيشاوي ثم يتجه الجميع إلى شارع الباطنية ليشاهدوا طابورًا طويلا من عشرين فرد أمام منضدة، يجلس خلفها رجل يرتدي بدلة زرقاء، يقوم بتقطيع الحشيش بسكين ليمنحه للواقفين في الطابور مقابل النقود التي يضعها في درج قريب. هذا الرجل هو أكبر تجار الحشيش في الباطنية. وعلي بعد مترين، يجلس ضابط شاب يضع ساقا فوق ساق، ليعلق زميل صابر بأن الحشيش في رعاية الرئيس المؤمن، ثم تتجه المجموعة إلى منطقة الحمزاوي حيث الغرزة التي تقوم بتحضير الجوزة للزبائن وفي الخلفية تغني أم كلثوم "شمس الأصيل".

كذلك يظهر الراديو وخاصة البرنامج الموسيقي الذي يستمر حتي الصباح وسيلة هامة للاستمتاع بالموسيقي فهو يقدم الأغاني العربية القديمة في ساعة للطرب العربي. إضافة إلى موسيقى الأفلام ومقطوعات من الموسيقي الكلاسيكية ليصبح ونيسا لمن يسهر أو يقرأ في الليل.

كذلك تعرض الرواية بدايات ظاهرة نشاط التيارات الإسلامية، وبداية ظهور الحجاب في شوارع مصر، وبزوغ نجم واحد من أشهر الشيوخ وهو الشيخ كشك، وخطبه التي كانت تنتشر علي شرائط الكاسيت، وتأثيره علي الطلبة الذين يسكنون في غرفة بجانب "صابر سعيد"، وطريقته في السخرية من الفنانين والتي كانت تثير الضحك، كأن يهاجم أم كلثوم قائلا "وكفاية أصحي علي ابتسامتك بتقول لي عيش. تنامي وتصحي يا مرضعة قلاوون ؟!".

 

الشيخ عبد الحميد كشك

بعد حرب أكتوبر 73 بدأت تظهر ملامح الحياة السياسية لنظام السادات الذي قام بإنشاء المنابر السياسية يمين ويسار ووسط، كما شجع التيارات الاسلامية لتقف في مواجهة الناصريين واليساريين المعارضين له. وكان السفر للدول النفطية بالتزامن مع سياسة الانفتاح الاقتصادي سببًا في ارتفاع مستوي معيشة قلة من الشعب، مقابل ارتفاع في الأسعار وصعوبة الحصول علي السلع الأساسية من الجمعيات التعاونية. 

مدرسة المشاغبين

لم تأت انتفاضة 17 و18 يناير 1977 من فراغ، إذ سبقتها مظاهرات متفرقة. في الرواية يرصد إبراهيم عبد المجيد مظاهرة لطلبة جامعة عين شمس في شارع الجلاء متجهة إلى ميدان التحرير  في ديسمبر/ كانون أول 1974، تنضم لها مظاهرات عمال المصانع الحربية، ويظهر الطابع اليساري لها في هتافات "إحنا الطلبة مع العمال ضد تحالف رأس المال" و"سيد مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقي بجنيه" ويتم فض هذه المظاهرة بالقنابل المسيلة للدموع. ولكن هذه المظاهرات كانت بمثابة بروفة لما سوف يحدث في يناير/ كانون ثان 77.

في السابع عشر من يناير 1977، كان القرار برفع أسعار أكثر من 150 سلعة، لتنام مصر في صمت؛ لكنها استيقظت اليوم التالي على مظاهرات حاشدة كانت بها هتافات "مش كفاية لبسنا الخيش جايين ياخدوا رغيف العيش"، "يا حكومة هز الوسط كيلو اللحمة بقي بالقسط" و لافتات تحمل صور لسيد مرعي رئيس مجلس الشعب وعبدالمنعم القيسوني صاحب اقتراحات زيادة الأسعار وعبد العزيز حجازي رئيس الوزراء، وصور للسادات مع علامات (X) على الوجوه، وفي إحدى اللافتات صورة لجيهان السادات في بدلة رقص.

يعود إبراهيم عبد المجيد في روايته لهذا المشهد ويصف اتجاه المسيرات نحو ميدان رمسيس ثم التحرير، ولكنها تواجه عند المستشفى القبطي بقوات الأمن التي تطلق قنابل الغاز المسيل للدموع المصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية. وتتفرق المسيرة في الشوارع الجانبية لتقوم النساء في الشرفات بإلقاء الماء الساخن على قوات البوليس. وعندما يصل صابر سعيد إلى "مقر الرفاق"، يشاهد في التليفزيون أحداث سرقة ونهب في شارع الهرم، وحرائق في مقاهي كورنيش الأسكندرية، ليفسر أحد الرفاق ذلك بكون الداخلية قد أخرجت المجرمين من أقسام البوليس لإلصاق تهم التخريب باليسار.

 وتستمر المظاهرات لمدة يومين وتتعامل معها قوات الأمن بعنف، ويرد المتظاهرون بإطلاق قنابل المولوتوف على الترام والأوتوبيس. وفجأة يهلل المتظاهرون لدي علمهم بإلغاء السادات للقرارات الاقتصادية ويبدأ الكثيرون في العودة للمنازل مع إعلان حظر التجول بدءًا من الرابعة مساء، ومعهم يعود صابر سعيد إلى منزله ليسمع من تليفزيون الجيران صوت عادل إمام وسعيد صالح من مسرحية مدرسة المشاغبين، التي أذاعها التليفزيون حتي يعود الناس الي البيوت.

في رواية "هنا القاهرة" لا تقتصر المتعة علي السرد والشخصيات والأحداث؛ لكنها تمتد لتأخذك إلى قاهرة السبعينات بكل تفاصيلها التي اختفى أغلبها، لتعيش زمنا مضى في مدينة تتغير ملامحها ولكنها لا تنسي ما كان.