- احكِ لي يا جدي، كيف صمد زواجك من جدتي الجميلة طوال هذه السنوات؟
= يا ابني إحنا مسيحيين.
دعابة صغيرة لخصت أزمتي وأزمة الكثيرين مع الزواج المسيحي الأبدي المقدَّس، التي لا تسمح لأي مجال للتفكير في الانفصال مهما صارت الحياة جحيمًا بسببه.
دعابة أرسلها لي صديقي المسلم "الرخم"، الذي كان، قبل زواجي، يقتنص كل فرصة ليذكرني ويرثيني بأنني على شفا جرف الزواج، لأني مسيحي والطلاق أو الانفصال في المسيحية يشبه العنقاء والخل الوفي.
كان دائمًا يقول لي عند المقارنة "يا ابني إحنا عندنا مثنى وثلاث ورباع، وطلاق وخلع وملك يمين، وزواج متعة، وكل ده مش مكفينا". يؤمن صديقي بالتعدد والتنوع وبكل ما يؤمّن له متعته الخالصة دون أدنى ارتباطات تدوم. لكني في النهاية أعلم وهو يعلم أنني لست مثله، ولا أرفض الزواج مثله، كل ما في الأمر أنني كنت أحاول تأجيل وقوعه، حتى لو كان زواجًا مسيحيًا، وكنت أتمناه أن يكون زواجًا مدنيًا، لكن هذه مجرد أحلام تقدمية في خيالي أنا وصديقي. فيما يعقد المسيحيون في مصر آمالهم على قانون الأحوال الشخصية الجديد للمسيحيين، الذي ينتظرونه منذ عقود، لوضع ضوابط وتنظيم قضايا الطلاق والانفصال والزواج الثاني للمسيحين في مصر.
أخيرًا انتصرت أمي والمجتمع والناس في معركة عزوبيتي مقابل زواجي، التي استمرت أكثر من خمس عشرة سنة، تخللتها أكثر من هدنة، تخفت قليلًا، ثم تشتعل الحرب مجددًا مع مواسم التزاوج في الأعياد، أو في أفراح العائلة، تشير أمي إلى إحداهن في فرح ابن خالي، وتقول لي "هيه إيه رأيك نخطبها لك؟". تنسى شهورًا، وتعود، ليصبح زواجي الذي تأخر حديث الساعة، وأنا أستمر في المراوغة كل مرة.
وهناك تحالفات الأصدقاء المتزوجين لتشجيعي على الزواج، ويعددون أمامي فوائده وحلاوته، يحدثوني عن الاستقرار وجماله، والأطفال أحباب الله ولطفهم، و"الونس يا جدع". كنت أشعر دائمًا أن كلامهم محض كمين خطير. أسخر منهم، وأفضح مؤامراتهم، وأنهم يحسدونني على حريتي ويريدون سلبها مني عن طريق زواجي. أتندر عليهم عندما يضطرون للعودة إلى البيت قبل أن تبدأ سهرة الشلة التي تعودوا عليها. والآن جاء دورهم ليردوا لي كل ما فعلته بهم بعد أن قررت أن أفعلها وأتزوج أخيرًا على مشارف الأربعين، لأني بالفعل لم أكن أفكر في الرهبنة ولا وشي وش رهبنة، على رأي أمي.
أن تعيش في قرية يعني أن حياتك الشخصية ليست ملكًا لك وحدك، فهي ملك لأهلك وأقاربك ومعارفك و"اللي يتشدد لك". كنت نسيت هذه التفاصيل طوال غربتي في القاهرة لعشرين عامًا مضت. ومنذ عدت للعيشة في القرية أحاول أن أتحاشى العلاقات والدخول في تفاصيل تؤدي إلى تطفل "الحشريين". لكن ذلك لم يدم طويلًا بعد أن قاربت على ست سنوات هنا في المنيا، وزواجي، وتشعب المعارف وتقاطع العلاقات والمشاوير، فلا حرج في القرية أن يسألك أحدهم، أي أحدهم "رايح فين؟" و"جاي منين؟" و"مربي دقنك ليه؟" و"اشمعنى بتشرب تبغ مش سجاير؟".
وكانت فرحتي عظيمة عندما تخلصت أخيرًا من السؤال اللعين "مش ناوي تفرحنا قريب؟"، حتى لو كانوا هم من انتصروا في النهاية وحققت لهم رغبتهم. وكأن فرحة العالم كله وقفت على زواجي، طيب يا سيدي على الله تكون فرحت.
في الصعيد عندنا يتحول السؤال إلى صيغة أخرى لها علاقة بمن سيستفيد منه المتحدث من زواجي، وهو الأكل، فأصبح التعليق: "عايزين ناكل لحمة قريب"، تحورت مع الوقت إلى "عايزين ندوق لحمك". وبعدما انتهى الفرح وأكل الجميع لحمي وأرزي وفاصوليتي، وفرحوا ورقصوا وانفض المولد، والعروسة للعريس. اعتقدت أني سأرتاح، بعدما أرحتهم جميعًا، وسيتركونني في حالي، كنت أظن ذلك، لكن هيهات صدقني، فكل من دفعوك للزواج ومن يعرفهم ، سيتدخلون في شؤونك ولن يتركوك حتى يطمئنوا عليك وتستقر وتكوِّن أسرة لطيفة مثل أسرهم المثالية جميعًا.
من بين كل الأساطير المصرية، ومعالجات الأدب والسينما، لمسألة تأخر الإنجاب أو العقم، لاسيما في الصعيد، لم تأسرني حالة فعل بطل رواية دوائر عدم الإمكان لبلدياتي الأديب الكبير مجيد طوبيا في وصف الفلاح المنياوي الفقير المتزوج من أجمل امرأة في القرية، ولم ينجب منها طوال خمس عشرة سنة، فيصير مجذوبًا يرشق القمر بالحجارة ويسبه لأنه ذات ليلة رأى ثدي حبيبته عندما صعدت فوق سطح دارهم في ليلة البدر، وحلبت ثديها للقمر المكتمل لكي تحبل، كما أخبرتها نساء القرية.
قالت لي أمي أن إحداهن حبلت بعد أن اغتسلت بلبن حمارة حديثة الولادة، لا يتخالف تدين أمي الشديد مع إيمانها أيضًا بالخرافات والأساطير.
لم يكد يمر شهر على زواجي ووجدت العيون تتربص بي وبزوجتي، "ها اتنفخت؟" وكأننا سننفخ بلالين مثلًا. تراقب الجارات زوجتي إن كانت تمشي بسرعة أم ببطء لمعرفة إن كانت حامل أم لا، تبادر إحداهن "على مهلك يا بنتي ما تخطيش"، لتتبين ردة فعلها إن كانت ستهتم بالنصيحة أم لا، يراقبن الشنط السوداء التي أدخل بها، ويخمّن هل أحمل الـ "أولويز" أم لا؟ يسأل الجميع "ها مافيش حاجة جاية في السكة"، الرجال يسألونني والسيدات يسألن زوجتي وأمي، إحنا عندنا عادات وتقاليد في التطفل لا يجوز تخطيها.
بدأ القلق يتصاعد حول تأخر انجابنا بعد شهرين بالضبط. ستون يومًا فقط كانت كافية لتأكد الجميع أن هناك مشكلة يجب حلها. فالمعروف والطبيعي أن المرأة تحمل من أول ليلة، وتلد بعد تسعة أشهر. لكن شهرين بحالهما دون حمل لا يمكن أن نسكت. وبدأت فقرة النصائح لي ولزوجتي. أصبح مشوارها لزيارة "بيت أبوها" عبئًا عليها، من كثرة الأسئلة ودعوات جيران "بيت أبيها"، الآن علمت لماذا كانت لا تذهب العروس إلى بيت أبيها زمان في قريتنا إلا وهي تحمل على كتفها طفلها الأول، هكذا فعلت أمي.
بدأ القلق والشك في أن نكون أنا وزوجتي اتفقنا على تأجيل الخلفة زي بتوع مصر، خصوصًا عندما يسمعون ردنا المعتاد "لسه بدري". لسه بدري إزاي يعني؟ أنتوا مفكرين نفسكم صغيرين؟
"أكيد السجاير والقهوة هي السبب"، قالها حماي بعد أن فكر كثيرًا في المسألة. حاولت إقناعه أنه لو كانت السجاير والقهوة تعيق الإنجاب كنا انقرضنا من مائة سنة على الأقل. لكنه أصرّ على ضرورة تقليلي للقهوة السجائر، فوعدته كاذبًا بأن أفعل. فيما تبرع البعض بعدة نصائح، منها أنه يجب أن أُكثر من تناول الشطة، أو تأكل زوجتي كبدة نيئة. وتطور الأمر بعدها لسؤالي وزوجتي عن مواعيد دورتها الشهرية وإن كانت تأتي بانتظام؟ وأوشك الأمر على الدخول في تفاصيل أكثر سخافة وقلة أدب. الغريب أن كل من يسأل ويحشر أنفه وعينه ودماغه كلها في حياتك لا يرى عيبًا في ذلك، ويسألونك بدهشة "إنت زعلت؟" ويستنكرون زعلك لو قلت "آه".
وفي مسلك آخر للسعي للهدف المنشود، أشار علينا البعض بزيارة دير الأنبا كاراس في ديروط، حيث "سره باتع"، وأعطى قس القرية لأمي صورة للقديس الطفل "زكريا"، شفيع العواقر، وأوصاها أن أضعها تحت المخدة.
بينما أصرت حماتي أن "مراتك مشوهرة". "يا وقعة مربربة، يعني باظت خلاص أرجعها ولا إيه؟". أفهمتني أمي أن "مشوهرة" تعني أن هناك امرأة لا تنجب أو لا يكتمل حملها، دخلت على زوجتي وقت حيضها، حتى تحمل هي، ولذلك لم تحمل زوجتي حتى الآن. خطة في منتهى الخرافة، لا يمكنني أن أجادل كل نساء العائلة اللاتي انضم لهن الرجال أيضًا وأولهم والدي، الذي عندما سمع سيرة "المشوهرة" قال جملته الخالدة "أنا قولتها".
طيب والحل يا جماعة؟ هل سنترك المشوهرة اللعينة تعترض طريقنا، بالطبع لا، فإذا كان من بدأ المأساة ينهيها، كذلك فمن وضع المشوهرة جاء لها بالعلاج، وبأكثر من طريقة، أصعبها أن نأتي ببول المرأة التي فعلت جريمة المشوهرة، وأن تعبر فوقه زوجتي سبع مرات. وبالطبع مستحيل معرفة من هي هذه المرأة، شكت أمي في فلانة، وأختي في علانة، وحماتي في ترتانة، لكن لم تثبت الجريمة على أي منهن. وحتى لو عرفناها، كيف سنقنعها بمنحنا البول إلا لو ذهبنا بها إلى معمل تحاليل؟
لا هذا الحل قطعًا مستحيل، ليس أمامنا سوى حلين آخرين، إما أن "نخُض" زوجتي، واقترحت والدتها أن نضعها على قضبان قطار ليعبر فوقها لتأتي الخضة بنتيجة كما فعل رجل بامرأته، مثلما سمعت وهي طفلة. الحمد لله أن أمها هي من تقترح ذلك الاقتراح وليست أمي، كانت العواقب لتكون أخطر. وفي النهاية جاءت أمي بالحل الثالث اللي يقضي مصلحة، وأحضرت طلع نخل "لقاح النخيل" ووضعته على الأرض وطلبت من زوجتي العبور من فوقه سبع مرات. وهنا قررنا "لأ إحنا نروح لدكتور أحسن يا إخوانا".
كل ذلك كنت أتحمله وأسخر منه أنا وزوجتي، ودائما ما كنت أرد على من يسألني عن "مافيش حاجة جاية في السكة" بقصة جدي الذي عاش أكثر من مائة سنة؟ هل تعرف لماذا؟ لأنه كان في حاله ولا يتدخل فيما لا يعنيه. لكن ما كان يثير غيظي فعلًا وأبدًا ولم أكن أعمل له حساب، هو لقب "أبو غايب" الذي حصلت عليه من يوم الصباحية.
و"أبو غايب" هو الرجل المتزوج الذي لم يرزق بالأولاد بعد، وعندما ينجب يصبح أبو فلان، ولابد أن يكون المولود ذكرًا ليرفع عنك عار لقب أبو غايب، فلو كانت بنتًا يا حلو فستظل أبو غايب، وهكذا أيضًا الزوجة، فهي "أم الولد الغايب" حتى يثبت العكس.
لو صح أن الأطباء في مصر يكسبون أموالًا أفضل من باقي المهن، فأطباء النساء والولادة تحديدًا هم الأكثر ثراء بين كل تخصصات الطب، ربما أكثر من دكاترة الجراحة، الذين يعيشون ضغوطات أكبر، مقارنة بأطباء النساء المرتاحون جدًا على مكاتبهم، وتمتلئ عياداتهم طوال العام بالنساء الحوامل أو الراغبات في الحمل، ولا يوجد محل قدم في كل عيادات أطباء وطبيبات النساء التي زرتها طوال حياتي مع شقيقاتي الحوامل أو زوجات أخوتي، وحتى زياراتي المتكررة مع زوجتي طوال عام والذين جميعهم تقريبًا يتعاملون مع طبيب واحد في مدينة ملوي، لثقتهم به.
عرفت عالم عيادات أطباء النساء عن قرب هذه المرة، ساعات انتظار الدور قضيتها في مراقبة "الزبائن"، بالإضافة إلى حكايات زوجتي لي بعد عودتنا عن فلانة وعلانة التي كانت بجوارها تنتظر وتحكي معها عن قصتها مع تأخر الإنجاب أو عن خبرتها في الحمل والولادة بعدة "بطون".
عرفت طرق بعض الأطباء في كتابة عقاقير للنساء تفجر أكثر من بويضة في الشهر، وهي العقاقير التي تؤثر على صحة النساء والجنين، وبيزنس الولادة القيصرية في مصر، ولم يدهشني كون مصر الأعلى عالميًا في نسبة الولادة القيصرية. لاسيما وأنا لاحظت انقراض مهنة الداية أساسًا في قريتي.
لكني وزوجتي اتفقنا أن تلد بطريقة طبيعية، وواظبت على ممارسة تمارين رياضية للحوامل تساعدها على ذلك، رغم خوفها قليلًا من آلام الولادة الطبيعية، لكننا حاولنا جميعًا طمأنتها، خصوصًا حماتي التي تطمئن ابنتها ساعات بخفة دمها المعهودة بقولها "دي الخنفسة بتولد أنتي مش ها تعرفي؟".
لم أنخدع بالمباركة والتهنئة بعد انتشار الخبر في قريتنا كانتشار حفنة ملح في حلة مياه ساخنة، لأني أصبحت خبرة الآن وأعلم أن بعد التهاني تأتي التسالي "ها مراتك فيها إيه؟"، "ليه معقولة لسه ماعرفتيش لغاية دلوقتي؟"، "هاتجيبي واد وتجبيلي جلابية جديدة"، "ما هو لازم تجيبي واد". الجميع يترقبون يتلهفون يتشوقون لمعرفة نوع الجنين ما يكون.
منذ أيام الخطوبة، وأنا وزوجتي تمنينا أن يرزقنا الله ببنت جميلة نسميها "ضي". وبالنسبة لأمي فأنا أعتبرها أول "فيمنيست" عرفتها في التاريخ، فهي تحب البنات حقًا، ولا تفرق بين بنت أو ولد في أولادها أو أحفادها، وترى أن بناتها بدستة رجال. فلم يفرق معها إن كانت زوجتي حامل في ولد أم بنت، كله عندها نعمة من عند ربنا، طالما ربنا فتح رحم زوجتي فـ"اللي تجيب البنت تجيب الولد".
لكن كل من فرح للخبر منذ شهور قليلة، كان يصاب بحزن غريب عندما يعلم أن زوجتي حاملًا في بنت، خصوصا النساء، وهو أمر يدعو للدهشة، ترد الواحدة منهن على الخبر بـ "معلهش" أو "زي بعضه"، يبدو أن الأمر ليس على هواهن ولا يفضلن زيادة بنت أخرى في هذا العالم الظالم لهن. ربما لأنهن يعرفن أكثر من غيرهن أن حظ الإناث أقل وقد جربن ذلك. لذلك يقولون للرجل عندما ينجب بنتًا "ربنا يعوضك" أو "عقبال عوضك"، وكأن العوض عن إنجاب البنت هو أن ينجب ولدًا. فالبنت مهما عظم شأنها وأصبحت حتى وزيرة، فهي لن تكون بمثابة الذكر، السند ومن يحمل اسم أبيه، ويساعده في الكبر، رغم أن الحقيقة هي أن البنات هن من يساعدن أهلهن عندما يكبرن، حتى لو تزوجن بعيدًا، لا تنسى الأم أبدًا أمها وأبيها، بينما الرجال يفعلون.
لكن لابد من إنجاب الولد، والمحاولة باستماته لتحقيق ذلك، حتى لو بعد 10 بنات، تقضي المرأة عمرها في الحمل والولادة فقط لتنجب الذكر ويقال لها "أم فلان"، ولا تخلو قرية في بلادنا من شارع فيه هذا النموذج للرجل الذي ينجب خمس أو ست بنات ويصر على إنجاب الولد.
لذلك صدم الجميع، وبدأت معركة جديدة عندما سمعوني أردد أنه كفاية طفل واحد أعرف أربيه، وتخوفوا من أن أفعل مثل قريبي الدكتور الذي لم ينجب سوى ابنة وحيدة واكتفى بها، رغم أنه مرتاح ومعاه يصرف على طفل وعشرة كما يفكرون، فأنا لابد أن أنجب ولدا بعد البنت، ومن بعدها ندخل على ليفل "لازم تخاوي الواد".