من جروب حكايتنا مع الطرب- فيسبوك
شريفة فاضل

شريفة فاضل: سلطانة الليل

منشور الخميس 15 سبتمبر 2022

في حي جاردن سيتي العريق الذي تتجاور فيه الأشجار العتيقة مع فروع البنوك الحديثة وبعض السفارات، وبداخل عمارة بلمونت الشاهقة، الأعلى في القاهرة خلال الخمسينيات، والتي سميت نسبة لإعلان سجائر وضع على جدرانها، تسكن سلطانة الليل الذي منحها الانتصارات والانكسارات، شريفة فاضل، في عزلة اختيارية تكاد لا تغادر شقتها.

تغير الزمن ولم تعد الشقة تجاور منزل محمد فوزي وزوجته مديحة يسري، ولم تظل أيضًا ملتقى الفنانين والصحفيين، ولم تعد شريفة سيدة كازينو الليل الذي أسسته كمشروع تجاري من جهة، ومساهمة في اكتشاف عدد من الفنانين من جهة أخرى، بوصف الكازينو ملتقىً لأهل الفن يغني فيه أحمد عدوية ويأتي إليه مستمعًا موسيقار اﻷجيال محمد عبد الوهاب، أو على حد وصفها "كنت عاملاه للعائلات".

مؤكد أن دوام الحال من المحال، لكنّ حال شريفة تغيّر بإردتها وبقرارها. لم تكن عزلتها اعتزالًا لسبب ديني، الظاهرة التي ضربت اﻷوساط الفنية أواخر السبعينيات واستمرت بقوة في الثمانينيات والتسعينيات. في عزلتها تعود بذاكرتها إلى فوقية ندا حفيدة المقرئ أحمد ندا، التي ورثت عنه الصوت الجميل، والمولودة في 15 سبتمبر/ أيلول 1938، قبل أن يختار لها الشاعر صالح جودت اسمًا فنيًا؛ شريفة فاضل.

أفيش فيلم اﻷب 1947

كانت موهبتها لافتة منذ صغرها، فشاركت في فيلم "الأب" 1947 مع محمود المليجي وزكي رستم وهي لا تزال في التاسعة من عمرها، وكُتب اسمها على أفيش الفيلم بجوار الكبيرين.

في الخمسينيات شاركت في مسلسل "ليلة رهيبة" للكاتب والمخرج والزوج سيد بدير، ولاقى العمل نجاحًا كبيرًا أدى لتحوله لفيلم سينمائي، قدمت فيه شريفة أول أغانيها العاطفية الناجحة "أمانة ما تسهرني يا بكرة" للملحن الشاب وقتها محمد الموجي ومن كلمات إسماعيل الحبروك.

ليل خالٍ من الربع تون

كان الزواج من السيد بدير خطوة مهمة ومفيدة في مشوار شريفة الفني، وعلى الرغم من إنجابها لسامي وسيد السيد بدير، فإن الزواج كان يحمل بذور نهايته منذ البداية، لفارق السن والغيرة الزائدة التي طالت بدير، وبعد أن كان يشجعها طلب منها الاعتزال، وهو ما رفضته واصفة نفسها بالسمكة في بحر الفن في برنامج "ساعة صفا".

"ورحت لبنان علشان أغني، طبعًا النجاح خدني هناك مش عايزة أرجع، وبعدين كلمني في التليفون قالي يا ترجعي يا مفتاح بيتك هاكون سايبهولك، أنا ما صدقت كنت عايزة الموضوع ده علشان أنا عايزة أغني"، قالت شريفة، فكانت ليالي لبنان هي القشة التي قسمت ظهر العلاقة الزوجية بعد شائعات عدّة، منها وجود علاقة عاطفية مع المغني كارم محمود.

ولنجاح شريفة في البداية سببان، الأول السيد بدير، والثاني منير مراد، الذي تذكره دائمًا بحب وتقدير، فهو ملحن أنجح أغنياتها "حارة السقايين"، و"لما راح الصبر منه"، و"فلاح".

وسبب تميز ألحان مراد، تقديمه الأغنيات الشعبية بروح مصرية وشكل لحني جديد متطور، اختلف في تلحينه عن الشكل التقليدي في الاستعانة بالمقامات الشرقية الصميمة، ليقدم موسيقاه في مقامات مثل الكرد والنهاوند التي لا تحتوي على نغمة الربع تون المعتادة في الأغنيات الشعبية، وهي المقامات التي اعتمدت عليها أغنيات الجيل التالي في الثمانينيات والتسعينيات.

"الليل.. الله جاب الله خد"

وعلى الرغم من تنوع أغنيات شريفة بين الدينية والعاطفية، خاصة أعمالها مع الشاعر عبد الفتاح مصطفى والملحن رياض السنباطي، فإن نجاحها الأكبر وأغانيها الأشهر تنتمي للأغنية الشعبية، يأتي ذلك في زمن نجاح مغنيات شعبيات مثل عايدة الشاعر وليلى نظمي، وإن تميزت شريفة عنهما بالاستمرار .

شريفة فاضل والسيد بدير في منزلهما

ففي الوقت الذي ابتعدت فيه الشاعر عن الأضواء لفترة رغم ما حققته من نجاح، واتجاهها فيما بعد ﻷغاني اﻷطفال في الثمانينيات، كانت فاضل تستثمر ما تكسبه من الفن في إنتاج أفلام غنائية مثل "سلطانة الطرب".

كذلك وضعت أموالها في كازينو الليل الشهير في شارع الهرم. الكازينو نفسه الذي شهد رحيل الفنان محمود المليجي، خلال تصوير فيلم أيوب مع عمر الشريف، حسبما يروي المخرج هاني لاشين "وإحنا قاعدين نحكي، لقيته بيقول الحياة غريبة قوي.. الإنسان بينام ويصحي وينام، وفوجئنا وإحنا قاعدين بسكوته ووفاته وهو قاعد معانا".

مع اجتياح النظرة السلبية لبعض كازينوهات شارع الهرم، خاصة منذ مطلع السبعينيات، تعمل شريفة على تحدي ذلك الازدراء. ورغم تأثير الملاهي الليلية على اسم الفنان، "آه طبعا اذا كان ملهى كده ولا كده.. كازينو الليل أصلًا مش ملهى اسمه مسرح ومطعم منوعات.. أنا فايف ستارز".

وتضيف "كان عبد الوهاب بييجي يسمع عدوية"، وأصبح "الليل" نقطة انطلاق عدد من النجوم مثل عدوية الذي قدّم للوسط الفني خلال عيد ميلاد شريفة، ومن بعده عمرو دياب الذي كان يغني في الكازينو مع بداياته الفنية في الثمانينيات.

لكن كما منح "الليل" فقد أخذ، إذ حلت مشكلات المستأجرين الذين استولوا على الكازينو، الذين اتهموها بتحويل مسكنها لصالة قمار، واتهمت الشرطة بالتورط معهم في تلفيق ذلك الاتهام، وتزامن ذلك مع حاجة زوجها الثاني الذي أصيب بالشلل للرعاية الصحية، فتبيع الكازينو وتبتعد عن الأضواء وتتفرغ لظروفها العائلية.

الليل في بلاط الرؤساء

بعد أن خطت شريفة أولى خطوات النجاح، ليلة رهيبة، كانت على موعد مع خطوة نجاح أخرى، أغنية "مبروك عليك يا معجباني" للملحن سيد مكاوي، التي يمكن اعتبارها جواز مرور للغناء في أفراح أبناء وبنات اﻷكابر.

ولم يتوقف غناؤها على أفراح أكابر المال أو المجتمع العاديين، إذ قادتها اﻷغنية ﻷن تحيي في بداية مشوارها الفني فرح هدى ابنة الرئيس جمال عبد الناصر، "كنت أنا والمخرج محمد سالم، كان عايز يخرج الفرح، فرُحنا بدري الضهر كده، بصيت لقيت الرئيس وقف بالعربية وفجأة لقيت جمال عبد الناصر قدامي، اتخضيت حقيقي كانت مفاجأة حلوة بالنسبالي".

شريفة فاضل

كذلك التقت بأنور السادات  في فرح صهره، المهندس إسماعيل عبد الغفار من عائلة عبد الغفار بالمنوفية، وغنت أغنية "أسمر يا سمارة يا أبو دم خفيف"، التي أُشيع أنها كانت تغنيها خصيصًا للسادات نفسه.

وفي الوقت الذي اقتربت فيه شريفة من الرئيسين ناصر والسادات، جاء عصر حسني مبارك على النقيض، إذ كان حافلًا بالمشكلات والمصاعب، كالخسائر المادية بسبب أعمال العنف في أحداث الأمن المركزي عام 1986 التي أدت لتخريب كازينو الليل في شارع الهرم، ثم تجاهل الإذاعة والتليفزيون للتعامل مع فاضل أو أغنياتها.

"قرفانة من المعاملة بتاعة التليفزيون المصري"، تصف شريفة قرار رئيسة التليفزيون وقتها سامية الصادق بعدم التعامل معها، وهو القرار الذي اعتمده وزير الإعلام" الذي لم تذكر اسمه.

وبعد الانفصال عن السيد بدير كان الزواج الثاني من اللواء طيار علي زكي أكثر استقرارًا، وانطلقت فنيًا لكن حياتها لم تخل من مفاجآت غير مستحبة، فيروي الشاعر والإذاعي عمر بطيشة الذي كان يسهر يوميًا مع جمع من الصحفيين والفنانين والسياسيين في شقة "بلمونت"، عن شكوى شريفة من تعرضها للضغوط والتحرش من مراكز القوى، وأنها أخبرت زوجها عن مطاردة الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية.

ويضيف بطيشة عن اعتقال اللواء علي زكي بسبب الشك في كونه عضوًا في تنظيم سري داخل الجيش يعمل على انقلاب عسكري ضد الرئيس السادات، لصالح الفريق محمد صادق رئيس الأركان الذي أقيل، وهو ما ثبت عدم صحته ليفرج عن زكي بعد يومين من القبض عليه.

الليل موال العشاق

"الليل موال العشاق"، لكنّه ليس هكذا دائمًا مع شريفة، سلطانة الليل وصاحبة كازينه، تدرك أن الشكوى "عيبة"، فتأتي عليها الحوادث متباينة، ليل سهران مليء بالونس، وآخر مظلم لا يحمل سوى السواد.

يأتي الليل قبيل حرب أكتوبر 1973، بنبأ وفاة الابن سيد السيد بدير، أثناء تدريبات القوات المسلحة لتتوقف السلطانة عن الغناء حتى اندلاع الحرب وعبور الجيش المصري الممر الملاحي، فتقرر أن تغني للجنود ولابنها بالطبع.

كانت الشاعرة نبيلة قنديل، مؤلفة أغنية أهو جه يا ولاد، متزوجة من الملحن والموزع علي إسماعيل، حينها التقت شريفة، ويرتبون ﻷغنية ستمنح السلطانة لقبًا جديدًا، سيطغى على مشوارها وألقابها جميعًا "أم البطل".

 

وحققت اﻷغنية نجاحًا كبيرًا ولا تزال جزءًا من إحياء وسائل الإعلام لذكرى الحرب، وجراء هذا النجاح أشاع الشاعر محمد حمزة أن شقيقة شريفة، ثناء ندا، ستسجل أغنية باسم "خالة البطل".

تأسطرت اﻷغنية بفضل استشهاد الابن، وكثرت الحكايات حولها، ووصل ببعضهم إلى القول بانفجار شرايين يدها! لكن ما ترويه شريفة أنها كانت متأثرة وشعرت بصعوبة في تسجيل الأغنية، في وجود فايزة أحمد التي أبلغتها "طالما مش قادرة تغنيها بلاش"، وإن أوحت كلمات فايزة بتعاطف فإن شريفة تضيف في حوار لها كلمة "بشماتة"، لتكتسب جملة فايزة بعدًا آخر.

تمر الليالي بتقلبات جذرية ولا تنتهي، فتختار السلطانة أن تبتعد عن الأجواء الفنية وترتاح، ويقتصر ظهورها الإعلامي على إطلالات قليلة كان آخرها مداخلة تليفونية قصيرة مع أحد البرامج التليفزيونية، وحاولنا في المنصة التواصل معها عن طريق نجل شقيقها، الذي قال "كان نفسي أحقق طلبك لكن حقيقي صعب جدًا"، وتستمر الفنانة في عزلتها الاختيارية ولياليها الهادئة.