تصميم: أحمد بلال- المنصة

الليل المصري الطويل

منشور الثلاثاء 11 أكتوبر 2022

تصل الأم بعد سفرٍ إلى مدخل معسكرٍ للجيش، تُسلِّم بطاقتها للجندي المسؤول عن البوابة، وتسأل عن ابنها، توضح له "أخبروني في المحكمة أنه قد يكون هنا". تنتظر بالخارج وقتًا طويلًا، يحل الليل، تقف هناك تحت المطر، مبتلة، ومحتفظة باستقامة ظهرها. إلى أن يستدعيها الجندي.

- سيدتي.. ابنك ليس متاحًا.

= أليس مسجونًا هنا؟

- لا أملك أي معلومة بخصوص ذلك.

= أين هو إذًا؟

- لا أملك أي معلومة بخصوص ذلك. أملك ما أخبرتك به وفقط.

- وما هي المعلومة التي أخبرتني بها؟

- أنني لا أملك أي معلومة بخصوص ذلك.

المشهد الأخير من الفيلم الإسباني/ الأورجوياني "ليل الاثنى عشر عامًا" (2018)، للمخرج ألبارو بريشنر.


السيدة في ذلك المشهد هي أم الرهينة خوسيه موخيكا، المختفي قسريًا لأكثر من 12 سنة لدى السلطات العسكرية، بداية من 1973 وصولًا لعام 1985. ولكنه في 2010، سيصبح رئيس الأوروجواي.

لا يملك كثير من المصريين أمام ذلك المشهد، سوى أن تستدعي أذهانهم صورة ليلي سويف، جالسة على الرصيف خارج السجن تستنشق التراب في الحر والبرد وهي تنتظر خطابًا من علاء عبد الفتاح.

تستدعي أذهاننا أيضًا، ولو بشكل ضبابي، صور آلاف الأمهات الأخريات. ربما لم نرَ صورهن أثناء الانتظار الطويل أمام بوابات السجون، لكننا نعرف أنهن هناك.

***

تجدد الحديث بيننا قبل أيام قليلة عما نسميه أحيانًا بـ"منطق القمع"، وذلك بعد إعادة حبس شريف الروبي المفرج عنه قبل شهور قليلة، بالاتهام المصمت نفسه، المفتقد للمعنى مثل كلمات الجندي للأم "إشاعة أخبار كاذبة، والانضمام لجماعة إرهابية".

نشعر بغياب منطقٍ للقمع، وبالذات في ظل مؤشرات متضاربة؛ زيارة الرئيس لقطر التي تم تصويرها خلال السنوات الماضية باعتبارها أهم عدو لمصر، الإفراج عن صحفيي الجزيرة، لجنة للعفو الرئاسي ووعود بالانفتاح، تنكيل بعلاء عبد الفتاح ورفض الاعتراف بإضرابه عن الطعام، إفراجات عن البعض، واعتقالات للبعض الآخر، ومؤتمر للحوار الوطني يضم معارضين خرج بعضهم من السجن قبل شهور. الإفراج عن بعض من ضمتهم القضية المعروفة باسم قضية الأمل، واستمرار اعتقال زياد العليمي المنتمي للقضية ذاتها. منع أشخاص من السفر، والقبض على آخرين عند عودتهم من السفر، وآخرون، معارضون بدورهم، لا يتعرضون لأية مضايقات.

نتساءل عن منطق القمع، المنطق الذي يحرك السلطة في ممارسته، لأننا لا نعرفه، فهو غائب، لا مؤشرات عليه سوى تعميم الخوف، والاحتفاظ بـ "رهائن"؛ يزداد عددهم أو ينقص، تبعًا للظروف والتوقيت، ليس مهمًا من سيخرج من السجن أو من سيدخله، طالما أنَّ بداخله كثيرون، فوجودهم ضروري لاستمرار الرعب، وكعبرةٍ للآخرين.

***

لم أتعامل بجدية أبدًا مع التحليلات التي انتشرت في سنتي الثورة، بداية من يناير/ كانون الثاني 2011، واعتمدتْ في تحليل وفهم الثورة على مقارنتها بثورات وعمليات تغيير أخرى، وكأنها متطابقة. تحليلات تحاول بث الأمل، وكأن التاريخ والمستقبل يعملان بآلية، وسننتصر حتمًا. كانت الثورة الفرنسية النموذج المستعاد أحيانًا، وأحيانًا أخرى حركات التغيير في أوروبا الشرقية نهايات الثمانينيات، وأحيانًا ثالثة استدعاء لنماذج من تشيلي أو الأرجنتين أو جنوب إفريقيا، أو غيرهم. وكان التعسف هو سمة أغلب تلك التحليلات.

لكنني لا أنكر أن هناك مشاهد ثبتت في ذهني كأحد من عاشوا أحداث تلك الفترة، تعود وتختفي، وتستدعي في كل مرة مشاهد أخرى لم نعشها. فسيرة مذبحة الألتراس في استاد بورسعيد يوم 1 فبراير/ شباط 2012 مثلًا، تستدعي عندي دائمًا، وبشكل أقرب للميكانيكية، مشاهد الاستاد الرياضي في مدينة سانتياجو دي تشيلي، الذي تحول لمعسكر للاعتقال والتعذيب والقتل بعد انقلاب بينوتشيه 11 سبتمبر 1973.

يحدث أيضًا العكس؛ فلا يمكن أن تأتي سيرة الاستاد التشيلي في فيلم أو رواية أو حوار دون أن يستدعي ذهني مباشرة الاستاد البورسعيدي. الشكل الدائري مشترك، لعبة الكرة مشتركة، المصيدة مشتركة، ومالكو السلطة يرتدون الزي الرسمي نفسه، والقتل والدم في مكان له رمزية تاريخية لتمجيد الرياضة والمتعة، أيضًا عامل مشترك.

تُستدعى لديَّ حالة الرهينة، أيًا كانت هويتها وسبب تحولها لرهينة، الآلاف من المصريين الرهائن في السجون بدورهم، حتى وإن اختلف الإطار القانوني ودرجة تمتعه ببعض المكياج والتجميل.

اتحدت مجموعة من المنظمات اليسارية والأفراد لتشكل في بدايات الستينيات حركة توباماروس (حركة التحرير الوطني في الأوروجواي)، وأعلنت الحركة عن نفسها رسميًا في منتصف الستينيات. بعد هذا الإعلان بشهور، ومع تصاعد موجة من الاحتجاجات العمالية، يقوم رئيس الجمهورية بانقلاب معادٍ للديمقراطية التي كانت شبه مستقرة خلال العقود السابقة. فتقرر الحركة الدخول في حرب عصابات مدينية، تستمر لعدة سنوات حتى هزيمتها النهائية في عام 1972.

بعد هزيمة الحركة، واعتقال أغلب المنتمين إليها وقتل الآخرين وفرار القليلين، وتحديدًا في 1973، يختار الحكم الديكتاتوري العسكري من بين قيادات المنظمة المعتقلين تسعة أشخاص، يعزلهم، ويتم الإعلان عنهم باعتبارهم رهائن، للضغط على بواقي المنظمة خارج السجون وفي المنفى، فإن قاموا بأي عملية مسلحة سيتم إعدام هؤلاء التسعة المخفيين في معسكرات للجيش، وأماكن اعتقال سرية، في حبس انفرادي طيلة 12 سنة، مع تعذيب نفسي وجسدي مستمر.

***

فيلم "ليل الاثنى عشر عامًا" ليس الأول عن معتقلي ورهائن حركة "توباماروس". هناك عدد من الأفلام السابقة، والكثير من الحكايات المعروفة، كالمعتقلة التي تزوجت لاحقًا الضابط الذي عذبها واغتصبها، والرهينة الذي كاد أن يُجن، واستكمل دراسته للطب خارج الأوروجواي، وأصبح أحد أهم المتخصصين في العالم في مرض الزهايمر، وفاز بجائزة نوبل، والمخرج السينمائي الذي تمكن من الهرب، ومازال يعيش بذنب أنه لم يُعذب مثل زملائه، وغيرهم.

شاهدت "ليل الاثنى عشر عامًا"، عن قصة ثلاثة من هؤلاء الرهائن التسعة، قبل سنوات، حين عرض في قاعات العرض في مدريد. وأعدت مشاهدته قبل أسابيع بالصدفة، في نفس يوم إعادة اعتقال شريف الروبي. ترد في مطلع الفيلم جملة مأخوذة من أحد أعمال كافكا: نظر الرجل إلى المحكوم عليه وسأل الضابط "هل يعرف السجين بماذا حكم عليه؟". أجابه الضابط "لا، سيعرف الحكم عبر جسده".

لم أنسَ جملة كافكا منذ مشاهدة الفيلم للمرة الأولى. ولأنني مصري، لاحظت تلك المقاربة في الحالتين؛ الهزيمة الكاملة لحركة "توباماروس" قبل اتخاذ القرار بإخفاء الرهائن، وهزيمة الثورة المصرية الكاملة قبل حملات الاعتقال والتنكيل الموسعة. ولم أنس أيضًا احتفاء المصريين بالفيلم حين عرض في مهرجان القاهرة السينمائي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، وفوزه بجائزتين. كان اهتمامًا ملفتًا للانتباه، أن يُعبِّر فيلم يتناول لحظة تاريخية لبلد بعيد في أمريكا اللاتينية، لا يعلم أغلبنا عنه شيئًا، عن واقعنا نحن، وأن نشعر وكأنه يتحدث عنا، وعن القمع والتنكيل والقتل والديكتاتورية العسكرية في بلدنا، وعن هذا الليل الداكن الطويل.

أشار بعض مشاهدي الفيلم على وسائل التواصل الاجتماعي إلى صدفة أن يخرجوا من قاعة السينما، ليجدوا بجوارها عربات للأمن المركزي. تساءل الباحث عمرو عزت يومها في بوست قصير على فيسبوك إن كانوا يتوقعون مثلًا أن نتظاهر غضبًا بعد مشاهدة الفيلم؟ وطَرَح السؤال الذي لا ننساه ولو للحظة واحدة؛ إن كانت ليلتنا المظلمة ستطول اثني عشر عامًا.

تجاوزت ليلتنا الأكثر إظلامًا في تاريخنا الحديث سنتها التاسعة، ولم نعرف بعد إجابة السؤال، ولا توجد حاليًا أية مؤشرات على ضوء الفجر، أي فجر. لكن السؤال عن متى يخرج هؤلاء، ومتى يظهر الغائبون والرهائن، سائرين على طريق طويل، عائدين لبيوتهم وعائلاتهم، يتجدد مع كل لحظة. ويتجدد قبولنا الاضطراري للنسيان المستقبلي، ولأن نسامح، وأن نراهم كعائدين وكأنَّ شيئًا لم يكن، وكأنها كانت مجرد ليلة واحدة مظلمة وانتهت، ليبدأوا حياتهم من جديد.

في يوم الإفراج عن الرهائن والمعتقلين في الفيلم، لم يتحرك أحد الذين سيفرج عنه من مطبخ السجن الكبير، بل استمر يغسل أدوات المطبخ ويدعكها. يستعجله زملاؤه، لكنه يواصل ما يفعله. يسأله السجان "لماذا تستمر في الغسل وأنت راحل الآن؟". فيجيبه "أغسلها كي تكون نظيفة لمن سيأتون لاحقًا".

كتب أحد المجهولين، الخارجين من الاعتقال المصري الطويل، عن زميله الذي كان يفعل  الشيء نفسه في السجن المصري وليس الأورجوياني، أن يغسل الأطباق من أجل القادمين.