زراعة الأرز

"الرز" والفلاح.. حكاية على وشك الغياب

منشور الخميس 3 مايو 2018

 زمان قلت إني عايز اشتري فدان أرض. عمي وإخواتي رفضوا تماما، وقالوا الأرض كلها هتبور قريب، اشتري محل ولا افتح أي سبوبة.. الأرض خلاص كلها سنتين تلاتة وتبقي ملهاش قيمة ولا تمن.

بما إني فلاح متربي في أرض الرز وزراعته خدت من جتتي راقات، عاوز أحكيلكم عن زراعة الرز من منظور الفلاح اللي الرز بالنسباله مش مجرد طبق بياكله؛ الرز للفلاح ياسادة بمثابة حياة كاملة متكاملة، وبنعتبروه ستر لنا طول السنة.

عاوزين تسمعوا الحكاية؟

حتي لو لا هقولها

الرز من الزراعات الصيفية اللي طول فترة ما هو موجود في الأرض بتكون الأرض مليانة مية طول فترة الزراعة، مش مشكلتنا إن الدولة الفاشلة ما خصبتش نوعيات فعالة منتجة لا تحتاج إلى ماء طول فترة الزراعة. وعاملين مراكز بحوث للبذور قال! بتبدأ زراعة الرز في أي وقت بين مايو ويوليو، بإننا نجيب شوالين تلاتة بذرة، نحطهم زي ما هُمّ في الترعة يومين تلاته علشان البذرة تنبِّت، وبعدين نعمل قيراطين في ديل الأرض كدة، ونملاهم ميه ونبدر فيهم شوالين الرز. القيراطين دول بيبقي اسمهم "ترقيدة". مدة الترقيدة دي بتبقي من 20 لـ 35 يوم تقريبًا.

زراعة الأرز

 

بينبِّت الرز ويبقي طول النبته من 20 لـ25 سم. بعد كدة نجهز الأرض نحرتها (الحرث)، ونكَشِّفْها (نساويها) بإننا نملاها ميه ونجيب لوح خشب نربطه في بقرتين أو عجل جاموس أو حصان، ونمشيهم في الأرض كلها يسحبوا الأرض يساووها يعني، وبعدين يجوا الفلاحين يملخوا الترقيدة (يخلخلوها من الأرض) ويحملوها علي خشبه زي المركبة ويفردوها. 

 

مرحلة التفريد- قناة مصر الزراعية 

بعد التفريد ييجي الأنفار ستات ورجالة عشان مرحلة الشتلة، والغالب إن شغل المِلاخ والتفريد بيكون رجالة، وشغل الشتلة بيكون ستات يمشوا بشكل منتظم يزرعوا الشتلات اللي اتفردت في الأرض. موسم عمالة ضخم والكل بيُرزَق فيه. تعالى بقى شوف الخير من أوله.. بتلاقي كل فلاحة جابتلها 15 لـ20 بطة صغيرة وتطلقهم في أرضهم بتاعة الرز يتغذوا على الطحالب اللي بتطلع نتيجة بقاء المية في الأرض. دول بعد شهرين بيبقوا ما شاء الله، وبتلاقي السمك طالع في المصارف وكل الشباب بيصطادوا وكله بيطلع له رزقه.

 

البط في أرض الرز

بتلاقي الفلاح بينقي من الرز حشائش بتطلع تلقائي اسمها "الدنيبة"، دي نبات شبه أعواد الأرز كدة بيغذي عليه البهايم بتاعته، والبهايم بتحبه جدا زي الخس عند الانسان كدة، بس حامي، كان بيقطع رقبتي لما بنقيه.

خير خير مالوش آخر طول فترة الزراعة.

تعالى بقى لما المحصول يستوي بعد ست شهور، وأحيانًا بعد تلات أو أربع شهور لو زارعين صنف مبيقعدش في الأرض كتير. كان الأول الحصاد بيتم يدوي؛ بيبقي اسمه "ضم الرز". ساعتها بنتزامل، يعني إنت تيجي تضم معايا يوم وأنا لما تيجي تضم أرد لك الزِمال. بينضم الرز وبعد يومين نيجي نربَّطه وننقله للجرن، كان الأول النقل على الجمل وبعدين اتطورنا بقينا ننقله على الجرار.

ضم الرز - قناة مصر الزراعية

بعد كدة نرص الرز في الجرن، والجرار يلف عليه، ونجيب الأنفار ننفيه عن القش، وندريه في مكنة الدراوة عشان نخلصه من أي شوائب، ونخزنه في أوضة الرز .. ياااه هتختفي أوضة الرز.

أوضة الرز دي بقي بتحط فيها المحصول ويتسحب منه كل شهر شوالين يروحوا مكنة الطحين، يتقشروا وناكلوا منهم طول الشهر. ولما الفلاح يتزنق في دخلة عيد ولا مدارس يبيعله شوالين، الست راحة السوق ومفيش فلوس تاخد نص شكارة تبيعها وتقضي سوقها. حتي الحلاق كنا بنحلق بالرز، بتدفع للحلاق شيكارة رز آخر السنة وخلاص. اللي بيجهز بنته واللي بيجوز ابنه.. البيت بيتخرب ياولاد.

المُحزن إن نبات الرز ملهوش أي مخلفات تضر البيئه زي ما بيقنعوكم من سنين. دا النبات الوحيد اللي بيتم الاستفادة الكاملة بيه من جذوره لحد شوشته. الجذور سماد طبيعي ببلاش للأرض، والعود بيتصنع منه الورق وأعلاف المواشي والأسقف، غير إنه بيكون وقود للفرن البلدي. الثمرة يأكلها الإنسان وقشرها يأكله الحيوان والطيور.

اقرأ أيضًا: السد والأرز والدولة.. العنصرية البيئية تجاه فلاحي الدلتا

مهما وصفت واتكلمت مش هعرف أعبرلكم عن النار اللي في قلوبنا وعن الخير اللي بيتدمر. إحنا الفلاحين طيبين قوي يا بيه، طيبين وبنسمع الكلام وبنحب مصر، وبنهلل لأي حاجة ملهاش لازمة بتعملوها، آه والله بنهلل، يوم جون مجدي عبد الغني طلعنا التلفزيون قدام الدار والعزبة كلها هللت ولسه بنهلل وبنصدقكم.

إحنا متعودين إن صوتنا ما يوصلش، خيرنا بس اللي بيوصل. صوتنا مش بيوصل غير في الانتخابات، بنروح طوابير ننتخبكم عن اقتناع تام. فكنا عاوزين نعرف بس ليه عاوزين تخربوا بيتنا. إنت عارف يعني إيه مفيش أوضة رز في بيت الفلاح؟ يعني بتسحب ستره وغطاه وبتعريه.

التشتيل 

أثناء الحصاد كان بييجي ناس من الصعيد تبيع عسل إسود بمقابل الرز برضو. وناس من البرلس تجيب الكراسي والترابيزات الجريد والغَلَق والقُفّة الخوص والبلح الرُطب، يقايضوه بالرز ويرجعوا بيه لبلدهم. ويجي رجالة اسمهم القبالوة يشتغلوا باليومية معانا في الحصاد.. رزق وخير للكل. وأكتر حاجة بقى محزنة إن مع القرار ده هيندفن جزء من ذكرياتنا وحياتنا، زي بالظبط لما ردموا الترعة وحطوا مكانها مواسير، دفنوا مع المواسير دي جزء من حياتنا. كنا وإحنا صغيرين نفضل نلعب علي قش الرز ده لنص الليل، نجري ونتنطط ونرميه علي بعض ونندفس تحته. كان دفا والله :(

المصيبة الأخرى من منع زراعة الأرز هي في الأرض نفسها، الأرض الطينية عندنا محتاجة زراعة الأرز بالميه بتاعته دي كلها لأنه بيحافظ علي خصوبتها وقشرتها متماسكة عن أي محصول تاني. لما يتمنع؛ الأرض قشرتها هتفرول وخصوبتها هتقل وإنتاجها من المحاصيل التانية هينقص، يعني موت وخراب ديار. مش هطوِّل عليكم علشان ما أبقاش رخم. زمان قلت على تويتر إني عايز أشتري فدان أرض بيتباع جنب أرضنا. عمي وإخواتي رفضوا تماما، وقالوا الأرض كلها هتبور قريب، اشتري محل ولا افتح أي سبوبة بعيد عن الأرض. الأرض خلاص كلها سنتين تلاتة وتبقي ملهاش قيمة ولا تمن.

الأرض بتبور، بتبور يا ولاد.