تصميم: يوسف أيمن

أم كلثوم.. ثمرة الحيوية النخبوية

منشور الأحد 2 فبراير 2025

مع حلول الذكرى الخمسين لرحيل الست أم كلثوم، تتكاثر الجهود المكتوبة والمرئية لفهم وتحليل الظاهرة الفنية والاجتماعية التي احتفظت بمكانتها المتصدرة لما يزيد عن قرن من الزمان، سواء في القيمة الأيقونية والرمزية، أو على مستوى الإنتاج الفني، الذي تجاوز كونه فهرسًا غنائيًا من القطع المنفصلة، نحو تكوينه نسيجًا سمعيًا يحيط جماعات سكانية ملايينية، في أجيالها المتوالية، متداخلًا في تشكيل أصوات بيئاتها الجغرافية.

كما يتدخل في تنظيم إيقاع مزاجيتها، طبيعة استئناسها، صبرها أو ركودها، ويتمادى حتى يصبح من أهم معرّفات معاني الابتهاج والمرارة والكبرياء والمواساة والتأسّي، ويكاد في لحظته الحالية، بينما يبتعد تدريجيًا عن أسماع أجيال شابة، أن يكون أبقى الآثار الطقوسية الإجماعية حضورًا.  

الصنم الأسطوري المحبوب

بين هذه الأوصاف ينشطر حضور أم كلثوم الفريد والممتد على وجهين؛ أحدهما متقدم على لحظته يصنع أسطورة عصره، وثانيهما "تصنيمي" يحافظ لهذا الحضور على أسطوريته فوق اعتبارات أنسنته.

في الخوف من أنسنة الأسطورة تتبدى معانٍ اجتماعية بالأساس. إذ بينما تحلِّق الأسطورة فوق واقعها وتجتمع فيها مصادر إلهامه وخلاصات من خيالاته ورؤاه، خصوصًا لو اكتسبت صورًا أمومية أو أبوية جامعة، تغيب تدريجيًا ملامح من مشوارها وفنونها، وحقيقة كفاحها وصراعاتها، وتبهت صورة العالم الثقافي الذي عاشت فيه وتحققت من خلاله.

صارت أم كلثوم ابنة الروح المتوثبة لنخب الإصلاح، المستعدة للصدام مع الاعتياد ولو خالف تقاليد الأغلبية

وفي أحد أوجه تصنيم أم كلثوم، تَظهر صورة مكرَّسة عن الموهبة ونبوغها المتحد بذاته، والمتعالي على واقعه، والقادر على إحراز أهدافه متجاوزًا القوانين الموضوعية. لكن الحقيقة أنَّ ثمة مفارقة غائبة في حالة إدراك أسطورة أم كلثوم، التي أصبحت "ست الأغلبية"، أي سيدة على وجدانها وفنها، وهي أنها في أطوار صعودها الأولى كانت تعبيرًا عن طموح "أقلية نخبوية"، امتدت يدها وإمكانياتها وتصوراتها الثقافية لتأخذ بيد الموهوبة الفريدة التي امتلكت استعدادات صوتية وذهنية ونفسية فائقة للتطور والتعلّم، ثم تعيد تشكيل صوتها وصورتها معًا، مستعينة بمعارف ومظاهر وأساليب لا يمكن بحال، وصفها في عصرها بأنها نهج للأغلبية.

نخبة من الصفوة 

أم كلثوم من إحدى حفلاتها

النخبة التي أحاطت بأم كلثوم كانت حديقة غنية بالمتطلعين من الأعيان والمتعلمين المصريين، المحسوبين على حزبي الأمة ثم الوفد في مجمل اتجاهاتهم. وهم على المستوى الفكري من الموصوفين باتجاههم الإصلاحي التدريجي، في قضية الاستقلال بعد ثورة 1919 وفي غيرها من القضايا الاجتماعية والثقافية والدينية.

هذا النهج "الإصلاحي" يكتسب في عصرنا دلالة المهادنة أكثر ما يشير لفكرة الإصلاح نفسها، بما تعنيه من إعادة تشكيل وتغيير لأسس أو مفاهيم أو ترتيبات، تصطدم في أحيان كثيرة بالاعتقاد أو النظام السائد، والعرف المتّبَع والمهضوم من الأغلبية.

فالنخبة الإصلاحية المقصودة رجّحت أسبقية جهود التغيير الاجتماعي على راديكالية التصورات الشعبوية عن الاستقلال، وتلك الأخيرة في عصرها كانت صاحبة الصوت والانتشار الأغلبوي، خصوصًا بعد ثورة 1919.

في مجمل أفكارها التأسيسية، ارتأت النخبة الإصلاحية أن الاستقلال نتيجة سوف تتبع ما يسبقها من نهوض مجتمعي، واستعدادًا لاستحقاقات الإدارة والحكم، ومنها إعادة تشكيل المجال الثقافي والفني ذاته.

فنرى الشيخ الأزهري الكبير مصطفى عبد الرازق، تلميذ الإمام محمد عبده، في طليعة داعمي أم كلثوم الصاعدة، وفي زمرة رجال تدخلوا لتخفيف قيود والدها المنشد المحافظ على ما تلبسه أو تغنيه، ومن ثم دعمها في اختيار الأغاني العاطفية إلى جانب ما بدأت به من غناء ديني، رغبةً من هؤلاء في إفساح المجال للموهبة الكبيرة لمنافسة نديّة مع معاصراتها من المطربات، اللاتي سبقنها نحو تحرير جزئي لصوت المغنية وملابسها، وظهورها العام لتقديم فنها على المسارح وتسجيله على الاسطوانات.

بتقاربها مع نساء أسرة مصطفى عبد الرازق تختلط أم كلثوم بسيدات طبقات الأعيان، تتغير هيئتها ملبسًا وذوقًا، تتعلم الفرنسية وآداب الحديث والمعاملة على نمط "متفرنج"، وتمضي بثقة أكبر في اختيار تجاربها الفنية الجديدة وملامح ظهورها السينمائي.

ميلاد جديد لكوكب الشرق

في صياغة مشروعها الغنائي كانت أم كلثوم أيضًا رافعة تفكير أقلوي، بين أحمد رامي الذي يعيد صياغة العامية الغنائية على غير أسلوب معاصريه، وبين أحمد صبري النجريدي ثم محمد القصبجي الذي عدّد تجاربه في مقاربة أساليب التأليف الغربية قفزًا على نمطيات سائدة ومستحبة، فلا وقفت أساليبه عند الاقتباس المباشر ولا صارت صورة من ماضٍ.

بهذا المعنى كان صوت أم كلثوم يُخلق جديدًا، ويتدرب على أنماط للجمل الموسيقية متنقلة بين الأبعاد النغمية المفاجئة للأذن، بصورة مغايرة عن ملاحقة متواليات لحنية مألوفة، ويوظّف عُربَ واهتزازات الصوت في مناطق محددة مبتكرة، ما عرّضها لأساليب مختلفة في الأداء وتدريب الصوت وتنظيم مخارج النفس بما يحتاج لمرونة وكفاءة مذهلة، لخدمة ألحان القصبجي المتطلبة، والمتنقلة بين التقنيات الشرقية والغربية بشكل لم يسبقه ولا تلاه مثال.

لا يستطيع المستمع الحالي تخيّل جدّة الانتقال الذي أحدثته هذه التركيبة كلامًا ولحنًا وغناءً في سياقها الزمني، وبالتالي وقعها على المستمعين من جمهور أم كلثوم الذي تابعها لسنوات، ولكنها بسطوة سحرها لم تتوقف عند ما يُطرب هؤلاء واعتادوه، ولو توقفت لظلت نجمة أثيرة.

لكن أم كلثوم صارت ابنة تلك الروح المتوثبة لنخب الإصلاح، المستعدة للصدام مع الاعتياد ولو خالف تقاليد الأغلبية، وكانت مدفوعة بطموحات محيطها الذي يفتح لها آفاقًا ويوسّع حدود مشروعها، وبذلك كانت على استعداد لمفاجأة جمهورها حتى يعتاد المستجد، واستعداد آخر لتجويد وترقية المستجد حتى تحقق "الملاءمة والمجانسة بين الأشكال بصورة تقع من المستمع موقع الألفة والجدّة معًا، فيستطيبها ويتعلق بها" على قول الكاتب عبد العزيز البشري.

كانت صناعة الذوق الأغلبوي، المتسيّد في ما بعد، صناعة نخبوية إذن، مرتبطة بإقبال تلك النخبة على مصادمة مناطق النفوذ والسلطة كما مصادمة "الذوق العام"؛ اعتياداته ومعتقداته.

الفن أداة للتمرد

يحيى شاهين وأم كلثوم من فيلم سلامة

في المشهد الفني الذي أصبحت أم كلثوم في طليعته كانت أفلامها صورة أخرى عن رغبة الأعيان المصريين في توطين الصناعة السينمائية الحديثة، عبر تأسيس طلعت حرب لشركة مصر للتمثيل والسينما (ستوديو مصر).

وكانت أم كلثوم عبر تلك الأفلام تخوض في الوقت نفسه عدة مغامرات على التوازي، فتقدم صورة بطلة مكافحة في إطار ميلودرامي، تظلله أبويات اجتماعية تعوق سعي البطلة نحو الارتباط بمن تحب، أو احتراف مهنة الغناء، أو إثبات بنوة طفلها من زواج تهرّب منه الزوج، وفي اصطدامها بتلك المنظومات الأبوية كانت البطلة، والسينمائيون من خلفها، تبحث عن مواءمة زاوجت بين احترام التقاليد المقدّسة، خصوصًا في ما يتعلق بمركزية الشرف الأنثوي، وبين تمكين المرأة من دخول مساحات عامة جديدة بالتفاوض مع المحافظة الاجتماعية وشراستها في نفي النساء عن المجال العام باستعمال الوصم الجنسي بالأساس.

لا يبدو ذلك التفاوض غريبًا عن المناخ الثقافي للأقلية النخبوية نفسها التي بادر الكاتب قاسم أمين، من بين صفوفها، لإصدار كتابه تحرير المرأة 1899 ثم المرأة الجديدة 1901، الذي أهداه لصديقه سعد زغلول في ذلك الوقت.

كان قاسم أمين يعبُر في الكتابين من عالمه الفكري المنغلق، الذي تتجلى آثاره في كتابه المصريون 1894، المتخذ صبغة هوياتية دفاعية، نحو أفق جديد من التفاوض والصدمة الثقافية. وفي العقد نفسه، الأول من القرن العشرين، بدأت هدى شعراوي ونساء جيلها نشاطهن النسوي والخيري والاجتماعي، والمعروف أن علاقة وثيقة ربطتها بأم كلثوم.

تشويه متعمد للإصلاحيين

هذه الآثار النخبوية، في الثقافة والموسيقى وخروج النساء للمجال العام، باتت من المقبول لنا بدرجة توحي، لبعد المسافة الزمنية، بأنها معطى بديهي.

أجيالنا الحالية تتخيل ربما أن أم كلثوم طالما غنت بهذه الطريقة أو تلك، فلم تُغيّر أو تتغيّر، كما كانت الأغلبية تتقبل خروج النساء واختلاطهن بالرجال أو عملهن بالمجال الفني لمجرد أن صدرت قرارات علوية بذلك، أو أن ذلك الخروج كان بعيدًا عن كفاحات نخبوية نحو الإصلاح الديني، الذي كان الشيخان مصطفى وعلي عبد الرازق في طليعة المتصدّين له، أو أن التفاوض مع الشروط التقليدية ومصادمتها لم يكن جوهريًا في مسار أم كلثوم التي تقاسمت مع الشعب المصري في ما بعد خبزه اليومي ونهاراته ولياليه.

أم كلثوم وجمال عبد الناصر يتوسطان أنور السادات ومحمد الموجي

يعزز هذه النظرة لـ"البديهي" ما لحق بمفهوم "النخبة" و"الإصلاح" من تشوه وتشويه، إذ أن بعضه مرتبط بآراء متنوعة فيما يوصف بـ"خيانات النخب لدورها"، وبعضه الآخر ملحق بصعود المشاريع القومية ثم الإسلامية بطابعها الراديكالي منذ حركة 1952، إذ أُلحقت النخب الثقافية والفنية بالمشروع القومي الناصري بعد مصادرة التعددية السياسية، ثم استعمل الإسلاميون لاحقًا هذا التقارب النخبوي/السلطوي لتشويه مجمل إسهامات النخب الثقافية ومفهوم الإصلاح مع صعود الصحوة الإسلامية في السبعينيات.

والأساس في هذا النهج الإقصائي كان القضاء على المسافة التي تحافظ على هامش مستقل للممارسة الثقافية من ناحية، في الحالة الناصرية، وتقويض دعاوى الإصلاح الديني الذي اتخذ شكل التشويه الصريح لمصطلحي "العلمانية" و"التنوير" من ناحية أخرى، في الحالة الإسلامية.

اعتمد ذلك التشويه أساسًا على ربط النزوع الإصلاحي برغبات التقرّب من السلطة الحاكمة، ثم امتد في أطواره الشرسة لاستعمال أسلحة التكفير وصولًا للاستهداف القانوني والاغتيال.

ومن الطريف أن تحوَّل المصطلحان خلال عقود من التردي التعليمي والهيمنة الصحوية لمحفزات تهييجية مرتبطة شرطيًا بمصطلح "النخبة"، ليتكون مركّب جهول يعتمد أفكارًا غرائبية عن نخبة شريرة تغازل السلطات عن طريق حَرف الأغلبية عن اعتقادها الديني، وهي الخطة المؤامراتية التي تحقق بدورها مطامع شرير آخر، استعماري/غربي/صليبي، في تقويض الأمم المسلمة والهيمنة على مقدّراتها.

تلك الفكرة تجاوزت حدودها المؤامراتية لتصبغ نخبنا الثقافية بصبغتها، وتشيع فيها اتفاقًا على مغازلة الوعي الأغلبوي وتوسل إجماعاته، خصوصًا في عصر الميديا التواصلية وأدائية "المؤثرين" التي تقيسها أعداد اللايك والشير.

ربما يمكننا في أنسنة الأسطورة الكلثومية، وغيرها من الأساطير، استظهار معانٍ للإصلاحية النخبوية تختلف عمّا تسيّد لاحقًا؛ من شجاعة بعض المتعلمين والمثقفين في التداخل مع الحياة العامة، فنونًا وغناءً وقيمًا ولغةً وآدابًا ودينًا، صارمين في إيمانهم بجدوى الإصلاح إن تخلى عن نفاق الاعتياد الآمن، وجادين في مراجعة قناعاتهم الضميرية وعرضها على الجمهور العام وإن مثّلت رأيًا أقلويًا.

كما يجد لنا هذا المنحى مخرجًا من الآلية التشويهية ضد مركب (نخبة-علمانية-تنوير) في صيغته الشعبوية المختزلة، والتي يعاد تدويرها على الإنترنت لأغراض الشحن والتجييش العاطفي في أوضاع الاستقطاب الحالية.

استنبات مسيرة أم كلثوم في التربة الثقافية التي أحاطت بعملية صناعتها، يعيدنا لقراءتها تاريخيًا، ويُثري سردية صعودها بين نخبة إصلاحية، تفرعت عطاءاتها الضافية مثمرةً عن أسطورة حيّة في وعي ووجدان الأغلبية.