تصميم: سيف الدين أحمد، المنصة
مخاوف من استغلال المتبرعين في مشروع البلازما

"التبرع" بالبلازما.. بين رؤية السيسي والمخاطر المحتملة

تحذير ما قبل الكارثة

منشور الاثنين 30 يونيو 2025

في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي رؤيتَه لمشروع التبرع بالبلازما في مصر، مؤكدًا أهمية إشراك شركات دولية ذات خبرة بعد فشل محاولات سابقة، "ده يبقى شراكة والشراكة دي تحمل اسم الشركة العالمية، وهي تبقى معانا في كل الإجراءات عشان يبقى فيه المصداقية الكاملة للاسم اللي إحنا ها نتحرك فيه"، وهنا كان المقصود شركة جريفولز  الإسبانية شريكًا رئيسيًّا في المشروع، وسرعان ما تأسست جيرفولز مصر ثمرةً لهذه الشراكة.

خلال خطابه، دعا السيسي الشباب المصري إلى التبرع بالبلازما مرتين في الأسبوع مقابل "رقم معتبر" من المال يصل الآن إلى 733 جنيهًا عن جلسة التبرع الواحدة.

وأشار السيسي إلى أنه حال تحقق حلمه بتحول ملايين الشباب للتبرع، فإن ذلك سيولد "دخلًا" على المستوى القومي. حتى تاريخ نشر هذا المقال، تنتشر عشرة مراكز تابعة لجريفولز في 6 محافظات مصرية، مع نية للتوسع لتغطية جميع محافظات الجمهورية.

البلازما علاجًا سحريًّا

سائل أصفر شفاف يشكّل نحو 55% من حجم الدم، يحتوي على بروتينات حيوية مثل الإيمونوجلوبولين وعوامل التخثر. ظهرت أولى تطبيقاته العلاجية في أواخر القرن التاسع عشر في علاج الدفتيريا، ونمت أهميته خلال جائحة 1918 مع استخدامه لإنقاذ مصابي الإنفلونزا خلال الحرب العالمية الثانية، إذ أصبحت البلازما المجففة ركيزة أساسية في المستشفيات الميدانية.

جهاز فصل البلازما

التبرع بالبلازما أيضًا له قصة تطوّر مذهل. منذ خمسينات القرن الماضي، ولدت تقنيات الطرد المركزي وفصل البلازما، على يد الدكتور جريفولز-لوكاس ومن بعده ابنه جوزيه أنتونيو بهدف استخراج البلازما وإعادة الخلايا للمتبرع بأمان، والتي تسمح بإنتاج علاجات من البلازما مثل الألبومين وعوامل التخثر. طوَّرت هذه التقنية معايير الجودة، خصوصًا بعد أزمات مثل الإيدز في ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأت فحوص الدم الأمنية الصارمة واستخدام العزل الآمن.

 تُستخدم العلاجات المشتقة من البلازما في علاج أمراض نادرة ومزمنة، وأسهمت في إنقاذ أرواح مرضى الهيموفيليا ونقص المناعة والمضاعفات المرتبطة بالحروق، ويُعالج سنويًا أكثر من 16.5 مليون مريض حول العالم بمشتقات البلازما، فيما تستخدم أوروبا أكثر من 44% من البلازما المستخرجة سنويًا، لكنها تعتمد على واردات أمريكا التي تلبي أكثر من 40% من حاجة القارة. 

الولايات المتحدة وسوق البلازما العالمية

تقدم الولايات المتحدة نموذجًا مثيرًا للجدل؛ في المناطق الفقيرة من ولايات مثل أوهايو، تنتشر مراكز جمع البلازما في الأحياء الأكثر هشاشة. حسب وثائقي فرنسي، هذه المراكز خطوط إنتاج مستمرة تعمل 12 ساعة يوميًا، 7 أيام في الأسبوع! يعتمد عدد كبير من المتبرعين على هذه العملية مصدر دخل أساسي. البعض يتبرع مرتين أسبوعيًا، رغم وجود آثار جانبية كالتعب والدوار، وآخرون يبيعون بطاقات التبرع لتجار مخدرات مقابل المال أو المخدرات نفسها. هي دائرة استغلال اجتماعي وصحي معقدة. 

مركز للبلازما في أوهايو، الولايات المتحدة

تشهد سوق البلازما عالميًا ازدهارًا مطردًا؛ قُدّر حجمه بنحو 35 مليار دولار عام 2024، مع توقع وصوله إلى أكثر من 78 مليار دولار بحلول 2032، بمعدل نمو سنوي يتجاوز 10% مع نمو مستمر مدفوع بالطلب على علاجات الأمراض النادرة والمزمنة. يسيطر شمال أمريكا وحده على نحو 44% من السوق العالمية رغم أن سكانه يشكلون 5% فقط من سكان العالم ما يعكس تركُّزًا واضحًا للإنتاج والتعويض المدفوع هناك.

في الدول العربية، الوضع متفاوت؛ في السعودية والإمارات، يُشجَّع التبرع الطوعي بالبلازما دون مقابل مادي، وهناك حملات منتظمة للتوعية بأهمية التبرع كفعل إنساني. لا توجد حتى الآن تجارب واضحة في العالم العربي تدعم نموذج التبرع المدفوع على نطاق تجاري، ما يجعل النموذج المصري في شراكته مع شركة ربحية استثناءً مقلقًا.

رؤية السيسي وتنافسية الدم المصري

بالعودة إلى رؤية الرئيس السيسي، أصدر مجلس الوزراء قانونًا في 2021 يسمح بالتعويض المالي مقابل التبرع بالبلازما، مع حد أقصى يصل إلى 104 مرات سنويًا، وهو أكثر من ضعف الحد المسموح به في دول مثل النمسا. وعلى الرغم من أن قيمة التعويض للمتبرع المصري (مع تحفظي الكامل على ذلك التعبير) زادت في أبريل/نيسان 2024 إلى 733 جنيهًا مصريًا (نحو 13 يورو) فإنها لا تزال أقل بكثير من التعويض في النمسا الذي يصل إلى 30 يورو

من المهم للغاية ملاحظة أن أي مدفوعات نقدية إلى متبرعي البلازما في النمسا أو غيرها من الدول تُصنَّف على أنها "تعويضات" عن وقت التنقل أو أي خسارة مؤقتة في الإنتاجية وليس "مصدر دخل"، كما ورد في خطاب الرئيس المصري المتلفز، هذا في سياق بلد يعاني من الفقر المدقع والبطالة، هذا سببٌ كافٍ للقلق. باختصار، بالنسبة لشركة مثل جريفولز، مصر منجم للبلازما حيث يمكنهم حصاد المزيد بتكلفة أقل بكثير.

لماذا نقلق من وجود جريفولز في مصر؟

أولًا، شركة جريفولز نفسها لا تلتزم في بلدها الأم بنموذج التبرع المدفوع. بل يمنع القانون الإسباني التعويض المالي عن التبرع بالبلازما وتحدد التشريعات الإسبانية حدًا أقل بكثير لعدد مرات التبرع السنوي مقارنة بالقانون المصري، وإسبانيا عضو في التحالف الأوروبي للدم (EBA) الذي يفرض مبدأ التبرع الطوعي وغير المدفوع (VUD). 

ثانيًا، تثير شركة جريفولز جدلًا دوليًا، فقد واجهت انتقادات في كندا بسبب مخاوف من تصدير البلازما المتبرع بها إلى الخارج بهدف الربح، وتشير تقارير إلى أن الشركة تربح من هذه العمليات عبر تصدير البلازما إلى أوروبا لإنتاج أدوية باهظة الثمن دون الإفصاح عن مصدر المواد الحيوية. 

ثالثًا، وجود الجيش المصري شريكًا مباشرًا في تشغيل المراكز يثير أسئلة حول الشفافية والمحاسبة ومكانة حقوق الإنسان.

فمع تفاقم نقص البلازما في أوروبا، لا يمكن التغاضي عن تأسيس شركات أوروبية علاقات وشراكات مع دول تفتقر للشفافية والحقوق الأساسية مثل مصر، حيث تشير تقارير حقوق الإنسان إلى أوضاع مقلقة، ومن هنا يجب أن يُنظر لهذه الشراكة بعين الحذر والتدقيق لتفادي الاستغلال، في بلد يقبع 30% من سكانه تحت خط الفقر!

لا يفرض القانون الذي أصدره مجلس الوزراء المصري أي قيود على تصدير البلازما أو مشتقاتها

وتشعر الأوساط الصحية العالمية دومًا بالقلق عند رؤية شركات الأدوية العملاقة تتهافت على دول إفريقية أو أمريكية جنوبية تفتقر إلى التنظيم الكافي لإجراء تجاربها السريرية. فغياب الرقابة هو الإغراء الأساسي، لكن لا يمكن تجاهل انخفاض تكاليف التشغيل، وهو ما ينعكس مباشرة في زيادة الأرباح.

في المقابل، هناك غياب تام للشفافية في الشراكة بين الجيش المصري وشركة جريفولز، سواء فيما يتعلق بوجهة وتسويق البلازما المصرية، أو الأماكن التي تُباع فيها، أو الأسعار التي تُحدد لها. والأسوأ أن القانون الذي أصدره مجلس الوزراء المصري لا يفرض أي قيود على تصدير البلازما أو مشتقاتها. كما أننا لا نعلم شيئًا عن حصة الجيش المصري من هذه الصفقة، ما يضيف أسبابًا إضافية للريبة.

المخاطر الصحية والاجتماعية للتبرع المدفوع

تكمن الخطورة الأكبر للسياق المصري في فرط التبرع، خصوصًا عندما يتحول إلى مصدر رزق! أكثر ما أثار قلقي في خطاب السيسي هو تركيزه على الشباب، بمن فيهم طلاب الجامعات.

هنا يصبح الشباب المصري عرضةً لمجموعة من المخاطر الصحية لفرط التبرع، منها استنزاف البروتينات المناعية مما يُضعف المناعة، الدوخة والإرهاق المزمن نتيجة فقدان السوائل والمواد الحيوية، تشجيع الكذب أو إخفاء الحالات الصحية لتجنب الحرمان من التعويض، وجذب فئات هشة اجتماعيًا قد تكون معرضة لسوء التغذية أو المخدرات (كما هي الحال في الولايات المتحدة!). أضف أيضًا إلى هذه القائمة خطر السيطرة العسكرية على هذه العملية مما يزيد احتمالات العبث بالمعايير وغياب الشفافية.

إعادة تدوير الفشل الصحي: هل نتجه لكارثة جديدة؟

في تسعينيات القرن الماضي، شهدت الصين كارثة تُعرف بـفضيحة "اقتصاد البلازما"، حيث تم تحفيز المزارعين الفقراء على التبرع بالبلازما مقابل المال دون ضمان الشروط الصحية الأساسية؛ أعادوا استخدام الإبر، وخلطوا الدم، وعادوا بحقن خلايا الدم الحمراء في أجساد المتبرعين بعد استخلاص البلازما. أدّى ذلك إلى انتشار واسع لفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، حيث قُدّر أن بين 40 - 50% من المتبرعين أصيبوا في هذه العملية، مع أكثر من نصف مليون إلى 1.2 مليون إصابة في مقاطعة خنان منفردة. 

تدق هذه التجربة أجراسًا كثيرة في آذان العاملين بمجال الصحة العامة في مصر التي تحمل في سجلها الحديث تجربة أقل شهرة لكنها أخطر.

بين خمسينيات وثمانينيات القرن الماضي، نظّمت وزارة الصحة المصرية بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية حملات علاج للبلهارسيا باستخدام حقن غير معقمة، ما أدى إلى أكبر وباء طبي المنشأ (iatrogenic) لفيروس التهاب الكبد الوبائي سي في التاريخ الحديث.

وقد كشف الدكتور مصطفى كمال الدين محمد، الذي تتلمذت على يديه في جامعة عين شمس، ذلك بجلاء في ورقته المنشورة في دورية اللانسيت المرموقة التي أبرزت أن حملات علاج البلهارسيا كانت سببًا رئيسيًا لانتشار الكبد الوبائي c في مصر.

بشكل مؤلم، تكشف التجربتان عن المنطق نفسه: نوايا تنموية أو علاجية تتجاهل إطار سلامة صحي مناسب؛ في الصين كانت العملية تهدف لتوفير دخل سري للفلاحين ولشركات دوائية، أما في مصر فالمسار كان رسميًا وخاضعًا لتوصيات منظمة الصحة العالمية، لكنَّ النتيجة واحدة وباء صحي واسع انعكس على ملايين.

اليوم، مع مشروع التبرع بالبلازما المدفوع الأجر، يلوح في الأفق خطر إنتاج وباء جديد؛ هذه المرة لصالح سوق دوائية ربحية لا تتوقف أمام قضية كرامة المتبرع أو سلامته. هل نكرر الأخطاء نفسها؟ يجب الآن التحرك لضمان ألا تمتد هذه الفضيحة إلى الدم المصري مجددًا!

أدعو المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر والبرلمان الأوروبي لفتح تحقيق شامل وشفاف في هذه الشراكة المثيرة للجدل بين شركة جريفولز والجهات المصرية. على هاتين المؤسستين التدخل فورًا حمايةً لصحة وحقوق المواطنين المصريين وضمان احترام المعايير الأخلاقية والقانونية الدولية في عمليات التبرع بالبلازما، فتجاهل هذا الملف قد يؤدي إلى استغلال أكبر للأفراد وتحويل دماء المصريين إلى سلعة تجارية على حساب كرامتهم وسلامتهم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.