
أنس أو خوسيه.. أو أيًا كان اسمك
في يوم 8 أبريل/نيسان 2003، تقدمت القوات الأمريكية لاحتلال قلب بغداد. أثناء عبور رتل من الدبابات جسرًا على نهر دجلة، وجهت إحداها مدفعها نحو فندق فلسطين، حيث تقيم فرق الصحفيين الأجانب، وأطلقت قذيفتها باتجاه الطابق الخامس عشر الذي كانت فيه مجموعة من صحفيي وكالة رويترز، فقتلت أحدهم على الفور. في شرفة الطابق الأسفل مباشرة، كان المصور الصحفي الإسباني خوسيه كوسو، مراسل القناة الخامسة الإسبانية، يغطي اللحظة التاريخية لاحتلال عاصمة عربية، فأصيب بدوره، ومات بعد ساعات قليلة.
قبل اغتيال أنس الشريف وفريق الجزيرة في غزة بأيام قليلة، تحديدًا يوم السابع من أغسطس/آب الجاري، توفيت ماريبل برموي، أمُّ خوسيه كوسو، التي ظلت، وطيلة 22 عامًا، رمزًا للنضال من أجل العدالة لابنها ومحاكمة وعقاب الجنود الذين قتلوه والقادة الذين أصدروا لهم الأمر بضرب الفندق. بل تحولت رمزًا للمدافعين عن حرية الصحافة، ولقيمة الذاكرة، ورفض الصمت أمام غطرسة القوى الاستعمارية الكبرى.
منذ ذلك اليوم من شهر أبريل البعيد، أصبحت ماريبل برموي الوجه الأبرز في حركة واسعة تشكلت للمطالبة بحق خوسيه وكل الصحفيين الذين يحاولون نشر الحقيقة. حركة أجبرت الحكومات الإسبانية المتعاقبة على التحرك دبلوماسيًا وسياسيًا وقضائيًا، بل والسماح بمحاكمات غيابية للجنود والضباط الأمريكيين، وإصدار أوامر قضائية دولية بالقبض عليهم، لم تُنفذ بالطبع. وإن لم تحقق هذه الحركة هدفها الأساسي؛ فإنها استمرت، ولا تزال، تناضل من أجل حق الناس في المعرفة، وحق الصحفيين في الحماية، لأنهم عيون الناس في الحروب والمجازر وعمليات الإبادة والتطهير العرقي.
حين قُتل كوسو، ارتدت الصحفيات الملابس السوداء، وارتدى الصحفيون ربطات العنق السوداء. وضعوا كاميراتهم بعدسات مغلقة على الأرض في مواجهة رئيس الوزراء. وثبتوا شارات سوداء على شاشة بعض القنوات. وصلت حالة الغضب والحداد لدرجة أن امتزجت قضية كوسو بحركة واسعة وعارمة لرفض الحرب والاحتلال والغطرسة الأمريكية، حركة منحازة للحق العربي تنبه إلى أن احتلال عاصمة عربية تدشينٌ لزمن بربري جديد.
أيام أغسطس الحارة
في يوم 4 أغسطس الحالي، وقبل الساعة الثانية ظهرًا، وفي عز موجة حارة وطويلة ضربت الأرقام القياسية في إسبانيا، وصل لأحد شواطئ غرناطة في الأندلس قارب صغير للمهاجرين، يحمل تسعة من العرب والأفارقة. المشهد المعتاد في هذه الحالات، الذي رأيناه عشرات المرات في نشرات الأخبار خلال السنوات الطويلة الماضية، ومن قبل وأثناء موجة الهجرة واللجوء الكثيفة بعد هزيمة الثورات العربية، هو مشهد الإغاثة.
إغاثة غير مشروطة بالظرف، أو باللحظة السياسية والاقتصادية، أو نوعية المهاجرين، أو نوعية الشاطئ الواصلين إليه، إن كان شاطئًا عامًا مزدحمًا بالبشر في وسط المدينة، أو شاطئًا منزويًا في مكان يصعب الوصول إليه مخصصًا للعراة. في كل الحالات، تمثل مشهد الإغاثة المتكرر في اندفاع المصطافين والمسترخين على الشاطئ لنجدة هؤلاء الذين على وشك الانهيار الكامل جسديًا ونفسيًا. في منحهم المياه والطعام، والملابس إن أمكن، وربما مجرد الطبطبة على الكتفين والظهر منحًا للأمان. وصل الأمر أحيانًا لدرجة المخاطرة بالحياة، قفزًا في المياه، لإنقاذهم من الغرق.
لكن في الرابع من أغسطس اختلف المشهد تمامًا، متحولًا للنقيض. نهض رجال ونساء يتمتعون بالصحة والقوة لمطاردة المهاجرين التسعة الواصلين توًّا من رحلة الموت، وطرحهم أرضًا على بطونهم، والسيطرة عليهم لحين حضور الشرطة. كان واحدًا من أكثر المشاهد قبحًاـ يُعبر أولًا عن انحطاط أخلاقي، وثانيًا عن تناقض "الهيئة"؛ عضلات الأوروبيين البيضاء وصحتهم الوافرة تسيطر على هذه الأجساد السمراء الهزيلة، التي اجتازت لتوِّها خرم إبرة الموت إلى حياةٍ جديدةٍ. مشهد معبر، بوضوح، عن طبيعة الزمن الذي نعيشه.
إنها لحظات كُبرى، تحمل معانيَ كُبرى، تعبُر أمامنا في مشاهد خاطفة، لكنها تتمدد مع الزمن لتكتسب معانيها المأساوية. قُتل خوسيه كوسو في لحظة لأنه قرر تصوير مشهد إخباري قصير من شرفة فندق، للمفارقة اسمه فندق فلسطين. ليتمدد إلى زمن أطول تنتج عنه حملات للتضامن ورفض الاحتلال، وصلت لانسحاب إسبانيا من الحلف الأمريكي البريطاني لاحتلال وتدمير العراق، و238 لحظة خاطفة لقتل 238 صحفيًا وصحفيةً في غزة، تتمدد لزمن لا ينتهي، لسنتين كاملتين، دون أن تثير قلقًا أو غضبًا معادلًا للحظة قتل كوسو.
إن كانت المقاومة قد أخطأت في حسبة ما فهي هذه الحسبة تحديدًا التي أخطأنا فيها جميعًا
الآلاف من اللحظات الخاطفة لغرق الآلاف من قوارب الهجرة واللجوء حوّلت البحر المتوسط لمقبرة عشرات الآلاف من الفقراء والهاربين من الحروب، تتمدد، تدفع المواطنين الأوروبيين للنهوض من شواطئهم، ومن كَنَبِ بيوتهم المريحة، للتضامن والمساعدة، رافعين لافتات الترحيب باللاجئين في عشرات المدن الأوروبية. لكنها تتمدد أكثر فأكثر لتصل لمشهد هؤلاء المصطافين المتطوعين لملاحقة الأضعف، تقييده، وإذلاله.
وعلى عكس ما حدث مع خوسيه كوسو، مرت أخبار الاغتيال المتعمد لأنس الشريف، المعروف جيدًا كونه مراسل الجزيرة، في نشرات الأخبار التليفزيونية الأوروبية بعادية؛ خبر جديد من غزة المنكوبة، دون لون الحداد. عرفنا عن أنس لأنه كان مراسل الجزيرة، لكن هناك غيره كثيرون، 236 أنس الشريف وولاء الجعبري الآخرون، الذين لا نعرف ولو أسماءهم.
أيام الزمن الخطأ
تفسير ملامح زمن الإبادة لا يكمن في أن البشر أصبحوا أكثر سوءًا، أو تحولوا لحيوانات، أو في أن الإنسانية انحدرت. جوهر التفسير يكمن في منطقة السياسة والأزمات المجتمعية. في أننا نعيش زمن صعود الفاشية واليمين المتطرف العالمي، واكتسابه مساحات جديدة من التأييد والتعاطف، وقدرته على أن يكون جاذبًا لقطاعات واسعة من شباب العالم الغاضبين، غير الراضين عن ظروف حياتهم، والمستسلمين للخطابات الشعبوية المعتمدة على الأكاذيب والشائعات. إنهم من انتخبوا حاكم المجر، وهم من انتخبوا المتطرفين الألمان، وترامب، وميلوني، وخافيير ميلاي ومن قبلهم بولسونارو وأمثاله. وهم أيضًا المهللون لبوتين، والمعجبون بدموية نتنياهو وأعضاء حكومته.
إنها منطقة السياسة والأزمات المجتمعية نفسها الصالحة لتفسير ولو مجرد جانب واحد من لغز استمرار أبشع عملية إبادة وتطهير عرقي منظمة وممنهجة منذ الحرب العالمية الثانية، لمدة تقارب السنتين، وأمام الكاميرات، فلا يستطيع أحد أن يدعي أنه لم يكن يعلم. ولا يستطيع أحدٌ أن يدعي أنه توقع هذه القدرة الإسرائيلية/الأمريكية على ارتكاب كل هذه الجرائم ضد الإنسانية، وعلى أن تمر، وتستمر، وأن يبدعوا وسائل جديدة لإبادة الشعب الفلسطيني وتدميره.
لا يتوقف أنصار الأنظمة الاستبدادية العربية، واليمين المتطرف، والمعجبون بإسرائيل في كل أنحاء العالم، عن التلويح بحسبة المقاومة الخائبة، وكيف انتحرت ودمرت معها شعبها، وكيف وضع يحيى السنوار نقطة الختام لقضية شعبه يوم 7 أكتوبر 2023. وكأنه، أو كأن أي شخص آخر، كان يتصور قدرة ماكينة القتل والتجويع والتهجير والتدمير الإسرائيلية الأمريكية على الاستمرار كل هذا الوقت من دون أي رادع أو عقاب، من دون أن تتسبب في انفجار انتفاضة غضب عالمية ضد الاحتلال والإمبريالية والعسكرة والفاشية.
إن كانت المقاومة قد أخطأت في حسبة ما، فهي هذه الحسبة تحديدًا التي أخطأنا فيها جميعًا. لا أحد كان بمقدرته تخيل درجة البربرية والتوحش التي تدفع الفاشية واليمين المتطرف العالم للوصول إليها وتقبلها. مثلما لم يتخيل أحد أن العالم العربي سيظل في مقاعد المتفرجين أمام هذا المشهد. مثلما لم يتخيل أحد أن دم الفلسطينيين، والمهاجرين، واللاجئين، والشعوب الفقيرة أصبح بهذا القدر من الرخص في نظر العالم.
يقبع هناك، في أسفل سلم التراتب والقيمة، الفلسطينيون، من اسمهم أنس، أو أحمد، أو ولاء، أو فاطمة. وإن كان الفقير، الضعيف، الراغب في حياة أفضل اسمه خوسيه - ليس خوسيه كوسو هذه المرة - بل خوسيه المهاجر اللاتيني المجهول للولايات المتحدة، الذي رضي بالعنصرية، وبوضعية مواطن الدرجة الثانية أو الثالثة، وأن يتلقى مقابل عمله أقل من نظرائه البيض، فمكانه أيضًا في أسفل السلم، وإن كان بارتفاع درجة واحدة عن ولاء وأنس. يصطادونه الآن من مواقع العمل، والمطاعم، والشوارع. يصطاد الجيش الأمريكي أبناءه من المدارس، لتدهسه أحذية الفاشية الثقيلة، بعد أن مرت فوق أجساد من هم في درجة السلم الأولى.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.