
"ما بغيناش كاس العالم".. ربيع Gen Z في المغرب
"ما بغيناش كاس عالم.. الصحة أولًا"؛ يدوي هذا الهتاف من حناجر آلاف الشباب والمراهقين المغاربة في شارع محمد الخامس وسط العاصمة الرباط، غضبًا على وفاة ثماني نساء أثناء الولادة بمستشفى الحسن الثاني الحكومي بمدينة أغادير الساحلية (550 كيلومترًا إلى الغرب من الرباط).
في مواجهة سلطة لا تضع شعبها في صدارة الأولويات، ولا تولي الاهتمام بملف الصحة مثلًا اهتمامها بملف استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم في 2030، لم يجد آلاف الشباب المغارية إلا الشارع الذي سرعان ما اشتغل بالغضب يوم 27 سبتمبر/أيلول الماضي، عقب وفاة النسوة الثماني.
سرعان ما انتقلت الشرارة من أغادير إلى أكثر من 22 مدينة مغربية، وتطورت من اتهام المستشفى بالإهمال الطبي للهتاف بسقوط الفساد في المملكة المغاربية، لنكون بصدد الموجة الأكبر من المظاهرات منذ حركة 20 فبراير، التي قادت في 2011 إلى تعديلات دستورية حدّت من صلاحيات الملك ومنحت البرلمان والحكومة سلطات أوسع.
اللافت في هذه الموجة العاتية من المظاهرات كان أعمار منظّميها؛ فنحن أمام مئات الآلاف من الشباب من جيل z منظمين رقميًا عبر منصات مثل Discord الذي كان يُعرف سابقًا باعتباره تطبيقًا لعشاق الألعاب الإلكترونية، إضافة إلى TikTok وTwitch.
هؤلاء الشباب هم من ينظمون الصفوف ويقودون الحراك ويطلقون دعوات التظاهر ويحددون مواعيدها عبر وسم #GenZ212 في إشارة إلى 212+ رمز الهاتف الدولي للمغرب، لنكون إزاء صورة أوسع عن الجيل الذي سبق وحرّك الاحتجاجات في كل من مدغشقر وكينيا وبيرو ونيبال، في موجة عالمية يقودها هذا الجيل ضد اللامساواة وتدهور الخدمات العامة.
غضب الجيل المهمّش
رغم تنوّع خلفياتهم التعليمية والاجتماعية، يتفق ثلاثةٌ من الشباب المغاربة من مدينتي طنجة ومراكش، تواصلت المنصة معهم، حول الشعور المتزايد بالضيق من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها جيلهم.
يفرض الواقعُ الديموغرافيُّ في المغرب نفسه على الحراك، فأكثر من نصف السكان تحت 35 سنة، مع نسبة بطالة تصل إلى نحو 36% حسب بيانات رسمية، ويكشف استطلاع رأي حديث لمؤسسة أفروباروميتر، وهي شبكة أبحاث استقصائية إفريقية موثوقة، أن أكثر من نصف الشباب المغاربة يفكّرون في الهجرة بحثًا عن فرصة عمل.
28 ألف طبيب فقط يخدمون أكثر من 36 مليونًا بواقع 7.3 أطباء لكل 10 آلاف نسمة
يشير أريس(*)، الشاب الطنجي، البالغ من العمر 23 عامًا، إلى رد الفعل الحكومي على وفاة النساء الثماني ومدى استفزازه للشباب باعتباره المفجر الرئيس لموجة الغضب، لافتًا إلى تصريحات وزير الصحة أمين التهراوي، "الوزير زار المدينة، لكن رده على المحتجين كان متعجرفًا، قال في أحد مقاطع الفيديو إذا كنتم غاضبين، اذهبوا للتظاهر في العاصمة الرباط، رغم أنها تبعد مئات الكيلومترات عن أغادير، ومع ذلك ذهب الناس فعلًا للتظاهر هناك".
وفقًا لتقرير المغرب في أرقام، الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط، وهي مؤسسة حكومية مغربية، لا يتجاوز عدد الأطباء في البلاد 28 ألف طبيب، يخدمون أكثر من 36 مليون نسمة، أي بمعدل 7.3 طبيب لكل 10 آلاف، فيما يبلغ المعدل الموصى به من قبل منظمة الصحة العالمية 15.3 طبيب لكل 10 آلاف مواطن.
يرى أريس الشاب العاطل عن العمل وفاةَ النساء الثماني حلقة ضمن سلسلة طويلة من الأزمات التي يعاني منها المغاربة، كاشفًا عمق الفجوة بين الحكومة والمجتمع، ومذكرًا بتعامل الحكومة مع الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز في سبتمبر 2023 وفقد فيه آلاف الأشخاص منازلهم، مشيرًا إلى أنه حتى اليوم ما زالوا يعيشون في خيام، بينما جرى سجن بعض الناشطين الذين انتقدوا تعامل الحكومة مع الكارثة ووجهت لهم اتهامات عدة من بينها "التشهير بالمسؤولين".
أولويات كروية
وبينما يفترش سكان الحوز الشوارع منذ عامين وتجاهل الحكومة توفير مساكن بديلة لهم، احتفلت الحكومة نفسها ببناء ملعب مولاي عبد الله الجديد بالرباط، منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، بتكلفة تقدَّر بـ 75 مليون دولار، استعدادًا لاستضافة كأس الأمم الإفريقية في ديسمبر/كانون الأول المقبل، ومن بعدها كأس العالم 2030.
"الناس تسأل هل بناء ملعب أسهل من بناء بيوت بسيطة؟ كرة القدم أصبحت أولوية الدولة بعد إنجاز مونديال 2022، تُصرف المليارات على الملاعب، بينما التعليم العمومي متدهور، والمستشفيات تعاني"، يرصد أريس ملامح التفاوت الطبقي الواضحة أمام الجميع في المغرب، والتي تتجسد بشكل أكبر في مدينته الساحلية طنجة. "ترى سيارات فارهة وسياحًا أثرياء من كل مكان، بينما شباب المدينة عاطلون عن العمل. هذه الفوارق جعلت الغضب ينتشر، وأوصلتني شخصيًا إلى صفحات الاحتجاج على إنستجرام وتيك توك".
من طنجة إلى مراكش
لا يختلف الوضع في مراكش عن طنجة، فالرسام المستقل عماد زوكاني لم يتردد في المشاركة بالمظاهرات، مؤكدًا لـ المنصة أن نزوله الشارع جاء نتيجة تراكم طويل من الإحباطات "مدارس سيئة، مستشفيات يموت فيها الناس لأنهم لا يملكون المال، وساسة يبيعون الوعود ثم يختفون".
يحمّل زوكاني رئيس الحكومة عزيز أخنوش المسؤولية عن تدهور الأوضاع، فالرجل الذي يعد أحد أغنى رجال المغرب "جاء إلى السلطة واعدًا بالتغيير، لكنه أصبح رمزًا لكل ما هو خاطئ في المغرب، الفساد والانفصال عن الشعب".
ووجّه المتظاهرون انتقادات حادّة للحكومة الائتلافية التي يقودها أخنوش، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021، متهمين إياها بالفساد وسوء إدارة المال العام، إضافة إلى شبهات تضارب المصالح بين أنشطته التجارية ومشروعات الدولة كونه يرأس مجموعة أكوا بثروة تُقدَّر بنحو 1.6 مليار دولار.
السلطات حرصت على إخفاء الغضب من الشوارع منذ اليوم الأول
يعيش زوكاني في حي شعبي يعاني الإهمال، ويضار كل سكانه من الظلم الممنهج الذي تمارسه الحكومة الحالية، "فقدت إحدى قريباتي حياتها بعد انتظار طويل للعلاج من السرطان ماتت لأن الفقر في المغرب يمكن أن يقتل"، يقول الرسام الذي يرسم صورة قاتمة لواقعه الشخصي وواقع دائرته التي يعيش فيها.
لكن هذه الصورة البشعة لا يجب أن يراها السياح، ولا بد أن تبقى مراكش المدنية الجميلة في عيونهم، حسب زوكاني الذي يشير لمحاولات السلطات إخفاء الغضب من الشوارع منذ اليوم الأول، "شاهدت الشرطة تضرب المحتجين بعنف لمنعهم من التجمع، وفي اليوم الثاني حاصرت الساحات وأي مكان يمكن التجمع فيه، وأوقفونا لمجرد أننا نمر بجوارها وصادروا هواتفنا وفتشوا في رسائلنا".
لكن السلطة فشلت في التعامل مع موجات المتظاهرين ليتسع الغضب مع اتساع رقعة المظاهرات، وسُجّلت اشتباكات متفرقة بين المتظاهرين وقوات الأمن، وقال مسؤولون إن غالبية المشاركين من القاصرين، بينما وثّقت منظمات حقوقية اعتقال عدد من الأطفال دون سن الثامنة عشرة.
وفي الثاني من أكتوبر/تشرين الأول فتحت قوات الأمن النار على متظاهرين في بلدة القليعة الصغيرة قرب مدينة أغادير الساحلية، ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص، وقالت وزارة الداخلية إن الضحايا قُتلوا أثناء "محاولتهم الاستيلاء على أسلحة رجال الشرطة" وهي الرواية التي لم يتمكّن شهود العيان من تأكيدها.
ووفقًا للوزارة، أُصيب 354 شخصًا بجروح، معظمهم من عناصر الأمن، وتضررت مئات السيارات إلى جانب عدد من البنوك والمتاجر والمباني العامة في 23 إقليمًا على الأقل. كما قدّرت السلطات أن نحو 70% من المتظاهرين هم من القصّر، في إشارة إلى الحضور اللافت للفتيان والفتيات دون الثامنة عشرة في مقدمة المسيرات.
وقالت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إن السلطات ألقت القبض على أكثر من ألف شخص، بينهم قصّر، مشيرةً إلى أن بعض عمليات الاعتقال جرت أمام الكاميرات المحلية، فيما أوقف ضباط بملابس مدنية متظاهرين أثناء مقابلات تلفزيونية مباشرة.
موجة جديدة
لا يمكن فصل الاحتجاجات الأخيرة عن الاحتجاجات التي شهدتها المملكة سابقًا. بحسب سارة(*) طالبة الماجستير في العلوم السياسية، فموجة المظاهرات الأخيرة ليست حدثًا منفصلًا، وهي امتداد لحركات سابقة شهدها الشارع منذ عام 2011، مرورًا باحتجاجات 2014 و2017، وجميعها رفعت شعارًا واحدًا؛ الحرية، الكرامة، والعدالة الاجتماعية.
ترى سارة البالغة من العمر 23 سنة والمقيمة في مدينة مراكش أن التغييرات الدستورية التي تلت احتجاجات 2011 لم تُحدث تحولًا حقيقيًا في توازن السلطة أو في السياسات العامة.
وتؤكد لـ المنصة أن الحكومة الحالية تتكون من رجال أعمال منفصلين تمامًا عن الشارع ومشكلاته، "فالوزراء يتحدثون بلهجة مستفزة عن مشروعاتهم، ويعلمون أبناءهم في الخارج بينما الناس يموتون في المستشفيات الحكومية. وزير العدل تفاخر بقدرته على تمويل دراسة ابنه في كندا، بينما لا يحصل الناس على علاج ينقذ حياتهم".
محاولة للاحتواء
بعدما دعت السلطات حركة GenZ212لتوضيح موقفها، نشرت الحركة يوم الخميس 9 أكتوبر رسالة موجهة إلى الملك محمد السادس، تطلب فيها إقالة الحكومة والأحزاب السياسية المتهمة بالفساد، وإطلاق سراح المعتقلين، وعقد منتدى وطني لمحاسبة المسؤولين.
تحوّلت المطالب من شعارات عامة حول "الكرامة" و"العدالة الاجتماعية" إلى قائمة سياسية واضحة، تعكس شعورًا متزايدًا بأن المغرب لم يحقق تقدمًا ملموسًا في معالجة ما وصفه الملك سابقًا بـ"مفارقات التنمية"، خلال احتجاجات عام 2017، حين أقرّ بأن ثمار التنمية لم تصل إلى جميع المناطق بعد.
ورغم أن الملك يُعدّ السلطة العليا في البلاد، فإن المتظاهرين لم يوجّهوا غضبهم نحوه، بل ناشدوه التدخل شخصيًا للإشراف على الإصلاحات، مرددين في الشوارع الشعب يريد تدخل الملك في إشارة إلى الصورة التي يحتفظ بها بين كثير من المغاربة ـضامنًا للاستقرار.
بدورها حاولت الحكومة احتواء التحركات بكل ما تستطيع وتعهدت ببذل جهود جديدة لإنهاء الأزمة بعد يوم واحد من إعلان السلطات أن مجموعات من الشبان الغاضبين اقتحموا مباني عامة، وأن الاحتجاجات المناهضة للحكومة لا تُظهر أي مؤشرات على التراجع.
و في ظل محاولات التهدئة وتعهدات الحكومة وانتظارًا لتدخلات الملك، أعلنت GenZ212، يوم الثلاثاء 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تعليق تظاهراتها مؤقتًا حتى الخميس؛ قبل يومٍ واحد من خطاب الملك في افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة في الرباط، وهو أول خطاب يتزامن مع احتجاجات "جيل زد".
ورغم ترقّب الأوساط السياسية والشارع لأي إشارة مباشرة إلى الحراك أو مطالبه، خلا الخطاب المكلي من أيّ ذكرٍ له، مكتفيًا بالتأكيد على أهمية تحسين الخدمات الأساسية وتعزيز العدالة الاجتماعية.
عقب الخطاب، منحت حركة GenZ212 نفسها فرصةً إضافيةً وأعلنت تعليق التظاهرات خلال يومي السبت والأحد 11و12 أكتوبر، موضحة أن الخطوة "ليست تراجعًا عن الحراك"، بل تهدف إلى "إعادة التنظيم والاستعداد لمرحلة أكثر فعالية"، مؤكدة أنها ماضية في مطالبها بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد.
وأمس وفي تطور جديد أعلنت الحركة استئناف تظاهراتها يوم السبت المقبل 18 أكتوبر في عموم أنحاء المملكة للمطالبة بتحسين خدمات الصحة والتعليم وإطلاق سراح "معتقلي الرأي".
مع اقتراب الانتخابات العامة المقررة في سبتمبر/ أيلول 2026، يرى محللون أن انتفاضة جيل Z ستعيد صياغة النقاش العام في المغرب، وستجبر الحكومة على إعادة ترتيب أولوياتها، لأن جيلًا كاملًا يشعر بأنه خارج المعادلة.
وفي ظل ضعف الأحزاب وتراجع المعارضة، كما تقول سارة، فإن الشارع بات هو المنفذ الوحيد للتعبير، فهل تحقق حركة GenZ212 أهدافها؛ هل تنذر مظاهرات السبت بموجات أوسع تتلاقى مع المظاهرات الحاشدة التي شهدتها مدغشقر ونبيبال، تتحق فيها مطالبهم بإسقاط الحكومة، أم نكون أم مجرد ارتدادات تظاهرية تبقى تحت السيطرة؟
(*) تحفَّظ المصدر على ذكر الاسم كاملًا.