تصوير إبراهيم محمود حجاج، بإذن للمنصة، 10 يناير 2024
كاميرا الزميلة مريم أبو دقة

يوميات صحفي في غزة| بين الريحان والنعنع بكيتُ زملائي وسألت عن الجدوى

منشور الاثنين 1 أيلول/سبتمبر 2025

مساء الاثنين 25 أغسطس/آب الماضي، جلستُ بين الريحان والنعنع في حديقة المنزل الصغيرة. أطفأتُ الأنوارَ. وعلى ضوء القمر بدأتُ مطالعة الأخبار من موبايلي لأصادِف مشاهدَ انتشرت لأصدقاء وزملاء صحفيين فقدناهم صباح ذات اليوم. خمسةٌ من الأصدقاء والرفاق قتلتهم إسرائيل في استهدافين لمجمع ناصر الطبي، وسادس برصاص طاله وهو داخل خيمته في خانيونس جنوب قطاع غزة.

أسندت رأسي إلى الجدار وفكرتُ في جدوى عملنا الصحفي، بعد أن أصبحنا نحن الخبر بدلًا من أن نكون ناقليه. وفكرت، هل التوقف عن توثيق الجرائم الإسرائيلية سيمنع تعرضي للخطر؟ فكرتُ فيما سيلاقيه أطفالي في غربتهم بمصر، أو لزوجتي نور هنا وحدها، إذا أُصِبتُ أو قُتِلتُ، وتخيلتُ نفسي رقمًا يُضاف لمن سبقوني من الزميلات والزملاء، مع مشاهد سابقة لي وكلمات عزاء من الأصدقاء والمحبين، وبيانات منظمات دولية تندد بقتل الصحفيين.

وبينما شردتُ فيما سيُكتبُ على منصات الأخبار وصفحات السوشيال ميديا؛ سمعتُ صوت إطلاق نارٍ آتيًا من مُسيرة أو آلية إسرائيلية في منطقة قريبة شرق مدينة دير البلح حيث أنزح.

أصابتْ إحدى الرصاصات جدار المنزل، واستقرت بجواري مباشرة.

الخطر قريب جدًا

تجمدت مكاني لحظات، لا أدري من الصدمة أم المفاجأة؟ هل كانت لحظة حيرة وتفكير، أم رهبة وخوف من رصاصات تالية؟ التقطت الرصاصة بين أصابعي. كانت ساخنةً جدًا، ألقيت بها ودخلت المنزل لأنام هربًا من التفكير غير المجدي، وفي الصباح اكتشفت رصاصة ثانية أصابت سيارتي أمام باب المنزل، وهشّمت زجاجها الخلفي.

صورة الرصاصة التي اخترقت جدار منزل سالم الريس

من أول أيام الإبادة، حملتُ معدات العمل والحماية الصحفية من درع وخوذة وأمتعة شخصية، وقررت الخروج إلى الميدان على ألا أعود حتى تنتهي الحرب التي طالت لنحو عامين، تنقلت خلالهما بين المدن والمخيمات والأحياء والمستشفيات بطول القطاع، مع رفاق الميدان من الزميلات والزملاء.

تشاركنا ما توفر من أطعمة، واشتركنا في التغطيات والنقاشات وحتى البكاء على رفاقنا الذين فقدناهم في الحرب، وبلغ عددهم 246 ضحية، إضافة لآخرين مفقودين منذ اليوم الأول ما بين أسير ومفقود دون معلومات عنهم.

أكلت الحرب أول ما أكلت صديقينا نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد وهما يغطيان ساعاتها الأولى. صدمة لم نخرج منها، نحن الصحفيين، حتى اليوم، لأننا لم نعرف مصيريهما بعد. مفقودان لأكثر من 700 يوم. تلى اختفاءهما بيومين فقدانُ ثلاثة أصدقاء ورفاق في قصف إسرائيلي غرب مدينة غزة، ثالث أيام الحرب.

رحيلٌ دون وداع

في اليوم الثاني للحرب، وصلتْ تهديداتٌ لمربع سكني واسع مجاور كان منزلنا خارجه، فقررت العودة والمبيت في المنزل مع زوجتي وأطفالي وعائلتي ونازحين من أقاربنا اضطروا للخروج من منازلهم. وخلال متابعة قصف غرب المدينة فجرًا، شاهدت المصور الصحفي الصديق محمد قنديل يمشي أمام كاميرا قناة إخبارية كانت عدساتها عيني داخل مجمع الشفاء الطبي، فاتصلت ومازحته.

أنا: وين يا محترم؟ بَشْوفك بتتمشى قدام الكاميرات؟

قنديل: الشباب راحت!

أنا: نعم!! مين راح؟!

قنديل: هشام وسعيد ومحمد راحوا

أنا: وين راحوا يعني مش فاهم؟

قنديل: استشهدوا بالقصف قبل شوي وهَيْ (الآن) جابوهم

ثم بكى بكاءً مرًا دون أن ينطق بحرف أو أرد عليه بشيء، امتد صمتنا دقائق ثم أنهيت الاتصال. تصدر عناوينَ الأخبار خبرُ مقتلهم في قصف استهدف منزلًا  كانوا يقفون بالقرب منه وهم يرتدون الدروع والخوذات الصحفية ويحملون كاميراتهم، ولم يحمِهم كل هذا من خطر الموت والاستهداف.

انتظرت بزوغ النهار بفارغ الصبر مع استمرار القصف الإسرائيلي على منطقتنا ومناطق أخرى، وحضَّرت نفسي وخرجت من المنزل لأشاهد دمارًا محيطًا بمنزلنا لم أر مثله من قبل؛ عشرات المباني والمنازل السكنية، التي حفظتُ تفاصيلها مع مروري اليومي بها، أصبحت كومات ركام، حتى الشوارع استهدفت وغطّتها الكتل الأسمنتية المتفتتة، ثم وصلت إلى مجمع الشفاء، حيث خرجت جنازات الرفاق دون أن أتمكن من وداعهم.

لا وقت للبكاء

الصحفي الفلسطيني يوسف النخالة، أرشيفية

لم يمنحني تصاعدُ القصف فرصةً للتفكير، ولا متسعًا من الوقت للحزن، تنقلت وزملائي من مكان لآخر، ومن مجزرة لأخرى، وثّقنا دمار المباني والمنازل ليل نهار بالقلم والصورة، ووثّقنا ضحايا الحرب من كل الفئات، وثّقنا مجازر مسحت عائلات بأكملها من السجل المدني، ووثقنا تكدس الجرحى في أروقة الاستقبال والطوارئ بالمستشفيات، ثم وثقنا النزوح الجماعي الكبير من شمال القطاع إلى جنوبه وبقيت هناك نازحًا.

بعد أيام من النزوح، وزيارات شبه يومية إلى مسقط رأسي في مدينة غزة، أغلق جيش الاحتلال الطريق، وفصل شمال القطاع عن جنوبه، لأبقى نازحًا على أمل العودة، لكن لم أتوقف حتى لمجرد التفكير. كنت متيقنًا من أنّ أي توقف سيصبح ضعفًا واستسلامًا ثم اكتئابًا قد يقتلني من الداخل.

بكيت منعزلًا على أصدقاء وزملاء فارقونا تاركين عائلاتهم ثكلى

كان عليَّ شَغْل وقتي، فأكملت العمل مع الرفاق متنقلين نحو عامٍ ونصف العام من منطقة لأخرى، ما بين دير البلح وخانيونس ورفح، فقدت خلالها عشرات الزملاء الذين استهدفتهم إسرائيل مباشرةً بقذائفها وصواريخها، أو وهم بصحبة عائلاتهم، أو لوجودهم ولو مرورًا في مناطق القصف.

عندما لم أتمكن من وداع الزملاء الذين فُقدوا في أيام الإبادة الأولى، قررت ألَّا أشارك في وداع أيٍّ من الأصدقاء الصحفيين. شعرت أني أريد الإبقاء على صورتهم الأخيرة في ذهني وهم مبتسمون لا بوجوه صامتة دون ملامح أو مشوهة نتيجة القصف.

بكيتُ منعزلًا على أصدقاء فارقونا، تاركين عائلاتهم ثكلى، فيما علينا نحن، زملاءهم، العمل ونقل الوقائع من أرض الميدان بأدق تفاصيله؛ من ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين، أو انعكاس الحرب والقرارات الإسرائيلية على حياتهم من مأكلٍ ومشربٍ ومنعٍ من السفر وفرضِ الحصار والتجويع وقتل المرضى والجرحى، مباشرةً، أو لعدم تمكينهم من العلاج المناسب.

لأجل الصغار

رغم ثقل الخروج للميدان وفقدان الرفاق، كان قراري الخروج للعمل منذ اليوم الأول للحرب تهربًا من أعين زوجتي وأطفالي. تحججت برغبتي التركيز على العمل لتجنب نظرات الخوف في أعينهم كلما حدث شيء ما، ليقتصر الأمر على زياراتهم بشكل شبه يومي.

لكن بعد نزوحنا إلى جنوب القطاع، منذ الأسابيع الأولى للحرب، مرت العديد من الأيام وأحيانًا الأسابيع دون رؤيتي لهم، مع خطورة التنقل وشح الوقود وارتفاع سعره، ما أعاق تنقلنا كصحفيين، واضطررنا لتقنين الحركة إلا للضرورة.

لن أنسى الرسائل الصوتية بنبرات الحزن والخوف والأصواتهم المكتومة، التي كان يرسلها ابنيّ جمال أو ابنتي علياء طول ساعات اليوم عبر محادثاتنا على واتساب، للسؤال عن أحوالي، لأكتشف بعدها أنهما رغم صغر سنهما كانا يتابعان مجريات الحرب من خلال مجموعات إخبارية، ويريدان معرفة ما إذا كنتُ موجودًا في مناطق قريبة من القصف أو أصابني مكروه. استمر الحال حتى سفرهما في مايو/أيار 2024، لتصبح شاشات الهواتف هي ملتقانا الوحيد دون أي لقاء فعلي.

بعد سفر الطفلين، عدت لمواجهة زوجتي نور مجددًا، مكثنا سويًا في خيمة وجمعنا الميدان والعمل الصحفي كذلك. هنا تغير الحال وتبدّل، وبت أقضي الكثير من الأوقات في التفكير والقلق، ليس على نفسي أو حالي، بل على نور وعملها وتنقلاتها ونظرات خوفها اليومية مما وصل به الحال بنا.

الحرب تُغيِّر 

أعتقد أني أصبحت فيما بعد أقل مغامرةً وأكثر جُبنًا، خاصة مع تكثيف الاحتلال استهدافه المتعمّد للصحفيين دون رادع وممارساته المتكررة، التي كان آخرها قتل زملائنا مريم أبو دقة ومحمد سلامة وحسام المصري ومعاذ أبو طه في قصف استهدفهم على الهواء مباشرة بمجمع ناصر الطبي، تلاه قتل الدكتور الصحفي حسن دوحان بداخل خيمة نزوحه.

سيارة سالم الريس بعد تهشم زجاجها الخلفي

كما فقدت خلال الأسابيع الأخيرة أصدقاء صحفيين، منهم حسن إصليح الذي قضينا سويًا 5 أشهر من الحرب نازحيَن في رفح. تشاركنا الخيمة الواحدة مع رفاق آخرين، نأكل سويًا ونتنقل أحيانًا معًا خلال التغطيات، وأحمد سعد الرفيق الذي بقي صامدًا في غزة وكنا على تواصل تليفوني دائمًا وكان أول من التقيته بعد عودتنا في فبراير/شباط الماضي.

كذلك إسماعيل أبو حطب، الذي رافقته لفترة طويلة وكنا على موعد للقاء يوم استهداف كافتيريا الباقة على شاطئ بحر مدينة غزة في 30 يونيو/حزيران الماضي. مع كلِّ فقد لرفيق منهم كنت أتوقفُ أيامًا عن العمل. الوحيد الذي شاركت في وداعه ودفنه أبو حطب، لا أعلم لماذا. لكني ندمت.

ندمت على مشاهدة رأسه مفرغًا من الداخل. ندمت على لمس جسده البارد. ندمت على طبع صورته صامتًا دون حركة في ذهني. كدت أستسلم بعدها وأمتنع عن العمل بعد تأزمي نفسيًا، ربما كان عليَّ التحدث لطبيب، لكني امتنعت معتقدًا أن الحديث بدون فائدة، فلن يعيد الأموات ولن يحميني من نفسي.

فضّلتُ الانعزال لأيام أفعل لا شئ. أقتل الوقت على الموبايل. أشاهد كل شيء عدا الأخبار وما يتعلق بالحرب. أظن أنني كدتُ أدخلُ في اكتئاب، وأظن أنني أنقذت نفسي وقررت العودة والانشغال في العمل. العمل فقط.

لأكن واضحًا، أنا لا أخاف لحظة الموت، قناعتي تقول إن الميت لا يتألم. من يتألم هم الأحياء. لكني أخشى إصابة أعمق من الموت، أفكر في زملاء فقدوا أطرافهم أو أحدها مثل المصور الصحفي سامي شحادة وآخرين، أفكر في المصور الصحفي فادي الوحيد وإصابته بشلل نصفي، ومثله المصور محمد أبو مصطفى الذي أُصيب في نخاعه الشوكي خلال استهداف الزملاء الأخير بمجمع ناصر الطبي.

هذا ما أهابه ويقتلني مجرد التفكير فيه، الإصابة بعاهة مستديمة في الجسد، وتلقي العلاج في هذه الظروف في غزة.

كثيرًا ما سألت نفسي، ولا أزال، عن جدوى الاستمرار. لماذا لم توقفُ كل المجازر التي وثقناها هذه الحرب؟ لماذا يُقتل الآلاف عمدًا؟ لماذا نخسر العشرات من زملائنا، ويصاب آخرون بعاهات جسدية مستدامة؟ لا أجد جوابًا سوى أنه لا خيار أمامنا، علّنا نكون يومًا سببًا في محاسبة المجرم وتحقيق ولو جزء بسيط من العدالة الإنسانية المُغيبة.

أتحدث مع ذاتي: هل سأستمر؟

وأجيب: نعم، أنا باقٍ هنا، ومستمر حتى وقف الحرب أو أن..

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.