تصميم أحمد بلال- المنصة
صناديق انتخابية

برلمان مُكللٌ بالبطلان

منشور السبت 13 كانون الأول/ديسمبر 2025

في الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية اِضطُّرت الهيئة الوطنية للانتخابات إلى إعادة التصويت على المقاعد الفردية في 19 دائرة إثر الاحتجاج والغضب والطعون وتدخل رئيس الجمهورية، وها هي المحكمة الإدارية العليا تزيد العدد، وتبطل 28 دائرة أخرى من دوائر الفردي في الجولة الأولى، بعد ثبوت مخالفات جوهرية أثرت على عملية الاقتراع، ثم تحجز 257 طعنًا على نتائج الجولة الثانية.

كان البطلان ليطول دوائر أكثر لو تمكن المرشحون المعترضون والجمهور العام الممتعض مما يجري من توثيق أدلة أعمق. فإن أضفنا إلى هذا ما ينسحب على المشكلات المشابهة والمطابقة للقائمة المطلقة المغلقة التي تمرر نصف أعضاء البرلمان تقريبًا وتريد السلطة الإبقاء عليها كأنها لم تمس، لأدركنا حجم ما يواجهه البرلمان الحالي.

ألاعيب قديمة

حتى مع إعادة الانتخابات في بعض الدوائر خلال المرحلة الأولى، واحتمال إعادتها في دوائر بالمرحلة الثانية، فإن البطلان يكلل البرلمان، كما أن أركانه اهتزت في عيون المصريين الذين لن يُجبرهم أحد على التعامل بجدية مع مجلس ولد سفاحًا، ولا احترام ما يصدر عنه لاحقًا من قوانين أو قرارات أو اقتراحات.

رغم تدخل رئيس الجمهورية في محاولة للتصحيح، لم يتغير شيء في الانتخابات البرلمانية. الانتهاكات والخروقات والألاعيب القديمة نفسها، كما بيَّن كثير من المرشحين المعارضين والمستقلين، وأكدته لقطات مصورة وتعليقات من أمام اللجان الانتخابية جرى تداولها على السوشيال ميديا.

هذا البرلمان لا يمكن لعاقل أو وطني أو راغب في استقرار البلاد أو مدافع عن نزاهة وحرية أن يقبل به، وأتعجب ممن سيعولون عليه لإخراج ما يريدونه مستقبلًا، فبشكل عام أسفرت الانتخابات عن نتائج يبدو أن تأثيرها سيمتد معنا في قابل السنوات.

يبدو من الشكل الذي خرجت به الانتخابات عدم استعداد السلطة الحالية لإجراء إصلاح سياسي حقيقي تذهب به إلى مستويات عميقة يريدها الناس في سبيل استقامة الأمور، فالحديث عن إصلاح المسار الانتخابي بعد ما جرى من فضائح في الجولة الأولى كان مجرد تمرير لأزمة، أو تسوية عابرة ومؤقتة لتنافس شديد بين القائمين على أحزاب الموالاة، أكثر من كونه اتجاهًا مختلفًا أو عودةً إلى جادة ما يتطلبه الظرف السياسي الذي تمر به مصر حاليًا.

وبدلًا من تدارك الأمر بالذهاب إلى إصلاح جذري ولو تدريجيًا، تستعمل السلطة الترقيع طريقة لعلاج المشكلة. تطبق الطريقة نفسها التي استعملتها مع الديون فأدت إلى زيادتها حتى كادت تبتلع الدخل القومي، وها هي تزيد الانتخابات البرلمانية بطلانًا.

يبدو أن جماعة التحريف والتزييف والتزوير لها الغلبة على الأرض، وأنها وصلت إلى حدٍّ من القوة لا يُمكِّن أحدًا من صدها أو ردها.

لم تفرز الانتخابات هذه المرة فقط ما يبرهن على الاستهانة بالإرادة الشعبية، عبر تزوير أو تزييف أو مال سياسي مفرط ودعاية زاعقة فضلًا عن تقدم من لا يطمئن الناس إلى حملهم قضاياه وشكاياه، ويعملون على حل مشكلاته، فغياب التمثيل وتزييف الإرادة الشعبية ليسا جديدين، خصوصًا في العقد الأخير. فأهم ما أفرزته هذه الانتخابات، أنها أظهرت أن هناك "مراكز قوى" تنمو تباعًا، وتستعصي على أن تواجهها مؤسسات الدولة، وإن تُرك لها الباب ستسيطر على المجال والمال العام، وتتحكم في رقاب الشعب، فيزداد الوضع سوءًا.

رسالة إلى من يهمه الأمر

يولد مجلس النواب مبتسرًا على قارعة طريق مظلمة وعرة، ومن ثَمَّ سيطارده البطلان طوال الوقت، ولو جعلوه مستمرًا فإن هذا لا يمكن أن يكون إلا عنوة، وهو وضع يجعل الشعب يشكُّ في كل ما سيخرج عنه من تشريعات واقتراحات وإجراءات ستكون عرضة للطعن والتفنيد والاستهزاء والتبديد.

حتى لو فُرض كل ما يخرج عن هذا المجلس بالقوة والجبر والإكراه، فإن هذا من شأنه إزاحة شرعية النظام السياسي كله إلى حافة، ووضع الدولة في خطر. نعم، في وجود برلمان على هذا النحو، تُلقى الشرعية في وحلٍ غزيرٍ، أو في بحر رمال متحرك، بما قد يسهم في فتح الباب أمام تفكك الدولة، قطعة قطعة، بينما هناك من يزعمون أنهم يعملون جاهدين على تثبيت أركانها، والحفاظ عليها.

إن انصراف الناس عن الانتخابات رسالة كبرى تبحث عمن يلتقطها. والخطر أن المصريين تعدوا مجرد المشاركة السلبية بإبطال الأصوات والامتناع عن الذهاب إلى لجان الانتخابات إلى حالة من اللامبالاة التامة بما يجري، أو تجاهله بالكلية.

سندفع جميعًا ثمن إفساد الحياة السياسية على هذا النحو، سواء بدفع منحرفين ليتصدروا واجهتها، أو جعل قطاع عريض من الناس يعتقدون أن المشاركة السياسة لها سوق، فيها بيع وشراء وسماسرة ووسطاء.

هذا جزء من التدمير المنظم لمجتمعنا، ولا أعرف أين أولئك الذين قالوا لنا إنهم ساهرون على حماية الوطن، وعلموا جيلنا وأجيالًا سبقتنا، في المدارس وعبر الإعلام، هذا الأمر، باعتباره مبدأ لا تنازل عنه ومهمة مقدسة لا يمكن التفريط فيها.

المطلوب إصلاح حقيقي

إن الاستهانة بتمثيل الشعب المصري، وعدم الإنصات إلى صوته حين يضج بالشكوى ويعلن عن المطالب ويعبر عن المطامح، ليس من السياسة ولا الكياسة في شيء.

إنتاج برلمان لكبار المنتفعين -وهذا تعبير مهذب جدًا في وصف الأغلبية الكاسحة منهم- يستبعد الناس من المشهد، ويضرب همزات الوصل بين السلطة التنفيذية والشعب في مقتل، لا سيما مع تقييد يد الصحافة في عرض المشكلات، وملاحقة كل من يعرضها على السوشيال ميديا.

إن كل هذا يحول السلطة إلى "حكم جبري"، وهذا كان يمر في القرون الغابرة، أما اليوم فلا مجال له، ولو افترضنا مروره فهو ليس في صالح "الدولة المصرية" إن كان هناك من يهتم بصالحها، أو يُخلص لـ"ثتبيت أركانها" كما قيل.

نحن اليوم أمام ما أصاب الانتخابات البرلمانية في مقتل، وما يجعل كل ما تفرزه يطارده البطلان. فهل ينتهز "نظام الحكم" الفرصة لإجراء إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي مطلوب جدًا لتفادي حدوث انفجار أو اضطراب اجتماعي، أم أن القوة التي تدفعه في الاتجاه السائر فيه منذ سنوات عشر أكبر من قدرته على تعديل دفة الأمور؟

لا شيء ينفع سوى إعادة الانتخابات برمتها مع تمكين الشعب من إنفاذ إرادته، بقانون يتيح قوائم نسبية، وامتناع الإدارة عن التدخل بأي شكل من الأشكال، والضرب بيد من حديد على أصحاب المال السياسي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.