مكافحة الشائعات أم إغلاق الهامش المستقطع؟
لم تكن الإجراءات الرادعة التي تعتزم الحكومة اتخاذها ضد من "يتعمد اختلاق وقائع كاذبة أو نشر أخبار مغلوطة" سوى صافرة النهاية للوقت المستقطع الذي شهد تغييرًا جزئيًا في قواعد المباراة التي وُضعت قبل نحو عقد.
في السنوات الأخيرة، انفرج هامش حرية التعبير قليلًا بما سمح لبعض المنصات الصحفية وصفحات السوشيال ميديا بانتقاد الحكومة ووضع قراراتها وسياساتها على ميزان التحليل. واتسع هذا الهامش بشكل أكبر بعد بيان رئيس الجمهورية الذي تحدث فيه عن تجاوزات المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، الأمر الذي شجع البعض على الذهاب إلى ما هو أبعد؛ إلى نقد عملية الهندسة الانتخابية، والطعن في شرعية البرلمان المقبل الذي هو الضلع الثالث في مثلث سلطات الدولة الدستورية.
شعرت السلطة، حسب أحد المقربين من دائرة صنع القرار، أن هذا الهامش المتسع قد تنتج عنه حالةٌ من الفوضى لا يمكن السيطرة عليها، فالحرية مغرية، ونقد وتقييم الأداء الحكومي مُعديان، وقد تجرأ على هذا النقد بعض المحسوبين على النظام نفسه، ما دقَّ جرس إنذار بأن ما بدأ يتشكل يصعب احتواؤه إن تمدد إلى ما هو أبعد من ذلك.
لذا، فتناوُل رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، خلال اجتماعين عُقِدا في أسبوع واحد، قضية "مكافحة الشائعات والأخبار الزائفة التي تهدف لإحداث بلبلة في المجتمع"، لم يكن خطوةً لحماية الاقتصاد الوطني، كما جاء في البيان الرسمي، بل إعلان صريح بانتهاء المرحلة الاستثنائية، وغلق الباب الموارب، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه. فالمعلومة التي ستُنشر خارج حدود البيانات الرسمية، أو الإدلاء برأي أو وجهة نظر تمس عصب السلطة، ستكون أشبه بمن قبض بيديه على سلك كهرباء عارٍ.
ما لم يأتِ في بيان الحكومة أفصح عنه المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء المستشار محمد الحمصاني، عندما صرح بأن القوانين القائمة تحتوي على العديد من العقوبات الكفيلة بمواجهة "جرائم نشر أخبار كاذبة" من شأنها "إلحاق الضرر بالمجتمع، أو بالمصلحة العامة للدولة، وهو ما يحقق الردع المطلوب"، وهنا اكتملت الرسالة.
أما إعادة تدوير الحديث عن ضرورة إصدار مشروع قانون لتنظيم تداول البيانات والمعلومات الرسمية فليس إلا ذرًّا للرماد في العيون؛ إذ كُلَّما طُرِح المقترح في العقد الأخير مقرونًا بالحديث عن "مكافحة الشائعات"، ينتهى الأمر بتمرير تعديلات تشريعية جديدة تُغلظ العقوبات على "جرائم النشر" وتحدُّ من الوصول إلى المعلومة وتقنن الحجب والمنع وتحاصر حرية الرأي والتعبير، كما جرى عندما صدرت قوانين مكافحة الإرهاب ومكافحة جرائم تقنية المعلومات وتنظيم الإعلام، وما طرأ على قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية من تعديلات.
كما صدرت تلك القوانين والتعديلات متصادمة مع نصوص الدستور التي تحظر الرقابة والعقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر والعلانية، تجاهلت الحكومات المتعاقبة أيضًا إصدار قانون لحرية تداول المعلومات، مخالفةً بذلك الإلزام الدستوري الواضح الذي اعتبر "البيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية مُلكًا للشعب"، وفرض على الدولة إصدار قانون ينظم إتاحتها، ويعاقب على حجبها أو تقديم معلومات مغلوطة عمدًا.
في عام 2017، أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمًا كاشفًا، قالت فيه إن كلَّ تقييدٍ لحق المواطنين ووسائل الإعلام في الوصول إلى المعلومات والأخبار الصحيحة دون سند هو "إهدار للحقوق التي صانها الدستور"، وشدد على أن حجب الحقائق يملأ الفراغ بـ"الأكاذيب والأضاليل".
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وبما أننا نعاني من حالة عزوف عامة عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية، فإن حكم المحكمة أكد على أن "مشاركة المواطنين في كل أمور الشأن العام بشكل فعال لن تتحق إلا إذا كانوا على بصيرة من الحقائق عما يحدث في وطنهم".
لم يكن ذلك الحكم استثناءً، فأحكام القضاء الإداري والمحكمة الدستورية العليا تواترت على تكريس حق المواطن في المعرفة، باعتباره من الحقوق الأساسية التي تقوم عليها الرقابة الشعبية ومبدأ المحاسبة.
في الدول الديمقراطية التي تحترم حق شعوبها في المعرفة وتؤمن بأن الصحافة هي وكيل المواطن الذي ينوب عنه في مراقبة السلطة، حين تُثار قضية ما، تسارع الجهة الرسمية بإصدار بيان تفصيلي يوضح كل ما جرى، حمايةً للرأي العام من الشائعات. أما في بلادنا، فتكتُّم الحكومات على المعلومة هو الأصل، والمنع هو القاعدة، والتشريعات تُسَنُّ لمعاقبة من يتجرأ ويجتهد في كشف الحقيقة.
إن فرض القيود على مصادر المعلومات، وتشديد الرقابة على الإعلام، يحرم الشعب من حقه في مساءلة سلطاته، ويمس الثقة العامة في أداء الدولة، لأنه يقصي المواطن من معادلة الحكم شريكًا ومراقبًا ومحاسبًا.
إذا أرادت الدولة الحفاظَ على اقتصادها حقًا، فعليها أن تحترم مبادئ الشفافية والمحاسبة، وأن تُخضِع مؤسساتها لرقابة الرأي العام بما يُمكِّن الصحافة من ممارسة حقها في النيابة عن الشعب.
إصدار قانون يضمن حرية تداول المعلومات خطوةٌ أساسيةٌ للحد من انتشار الشائعات والأخبار المضللة، لكنَّ هناك خطوات أخرى لا تقل أهمية؛ لأن رفع القيود عن وسائل الإعلام وإعادة النظر في التشريعات القائمة التي تحاصر العمل الصحفي لن يُسهم فقط في دعم الاقتصاد الوطني، إنما في الحفاظ على الأمن القومي وعلى تماسك الجبهة الداخلية للبلاد.
أخيرًا؛ لقد أعدَّت نقابة الصحفيين، بمشاركة متخصصين، في مؤتمرها العام السادس، مشروع قانون متكامل لحرية تداول المعلومات، كما طرحت للنقاش كلَّ التشريعات المقيدة للعمل الصحفي ولحرية الرأي والتعبير، وأرسلت كل أوراق المؤتمر إلى الجهات المعنية، وهي جاهزة لمناقشته الآن عبر أي مسار ومع أي جهة ترغب في إنهاء مرحلة الحظر والمنع، وتدشين مرحلة جديدة قائمة على الإتاحة والشفافية.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.