سامح علاء يحمل السعفة الذهبية- الصورة: IMDB

فيلم "ستاشر": غربة وراء نقاب

منشور الأحد 15 نوفمبر 2020

في غضون شهر واحد، حاز الفيلم المصري القصير "ستاشر" على عدة جوائز عالمية؛ منها أفضل فيلم قصير بمهرجان موسكو السينمائي الدولي، وأفضل فيلم عربي بمهرجان الجونة السينمائي، لكن أهمهم، بالتأكيد، جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان كان السينمائي الدولي.

وأهمية جائزة كان لهذا الفيلم تحديدًا لها عدة جوانب؛ أولهم أنها السعفة الذهبية الأولى في تاريخ السينما المصرية، بمعنى أن فيلم "ستاشر" هو أول فيلم مصري يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان، الذي يعتبر أهم مهرجان في العالم، حيث إن الشخص المصري الوحيد الذي حاز على تلك الجائزة كان المخرج يوسف شاهين، ولكن كتكريم على مجمل أعماله لا على فيلم معين.

أيضا جاءت الجائزة لفيلم قصير لا طويل، وهو ما يسلط الضوء على أهمية ذلك النوع الذي يتجاهله الجميع، وصار عليهم الآن مسؤولون وصناع أن ينتبهوا أكثر إليه، فكثيرا ما شاركت أفلام مصرية طويلة في مسابقات مهرجان كان المختلفة، ولكنها لم تحصل أبدا على السعفة الذهبية.

وأخيرًا، وهو الأهم بالنسبة إلى السينما المصرية المعاصرة، أن فيلما مصريا مستقلا هو الذي حاز على تلك الجائزة، وحقق ذلك الإنجاز التاريخي؛ فيلم لا ينتمي إلى أفلام السوق والمنتجين الكبار، أو ينتمي إلى إنتاج الدولة عبر أجهزتها المختلفة، ولكنه إنتاج ذاتي أفرز منتجًا لا ينتمي إلى السوق التجاري، ندهت صناعه السينما فدخلوا من بابها المستقل، ليقدموا للسينما المصرية التي يزيد عمرها على المائة عام سعفتها الذهبية الوحيدة.

جاهز لكل تحد

 

"على أتم استعداد"، هكذا رد مخرج فيلم "ستاشر" سامح علاء، على سؤال المنصة حول التغير الذي قد يطرأ على مسيرته السينمائية بعد السعفة الذهبية،  قائلًا إنه على أتم استعداد لمواجهة التحديات الجديدة والمستمرة التي ينتظرها، مشيرًا إلى أنه يعتقد أن مشكلة تمويل فيلم جديد ستظل موجودة تشكل عائقًا عليه تخطيه من أجل إنجاز ه، في  ظل تصميمه على اختيار من سيعملون معه والكيفية التي سيعملون بها.

أخرج سامح علاء، الذي يعيش بين القاهرة وبروكسل، عدة أفلام قصيرة،  ولكنه لفت الانتباه إليه بعد فيلمه "خمستاشر"، الذي حصل على منحة لتطويره عبر مهرجان تورنتو السينمائي الدولي عام 2017. 

بعد دراسته للغة الألمانية بجامعة القاهرة سافر علاء إلى براغ، لدراسة الإخراج السينمائي في مدرسة السينما والتلفزيون، التابعة لأكاديمية الفنون المسرحية هناك، ثم حصل بعدها على الماجيستير في السينما من باريس، ليبدأ مشواره السينمائي كمساعد إخراج في عدة أفلام، أو كمخرج للإعلانات، وذلك قبل أن يبدأ مشروعه الأول القصير "خمستاشر"، الذي فتح له بوابة  المشاركة في  عدد من المهرجانات الدولية المرموقة، أهمها تورنتو السينمائي الدولي، والذي بدأ بعده عملًا استغرق سنتين لإنتاج فيلمه الأحدث "ستاشر".

الوداع الأخير

فيلم "ستاشر" من تمثيل سيف حميدة ونورهان أحمد، وسيناريو سامح علاء ومحمد فوزي، وتصوير جوريجوس فالساميس، ومونتاج ياسر عزمي، وإنتاج محمد تيمور ومارتين جيروم ومارك لطفي، وإخراج سامح علاء، ويحكي  عن شاب يبلغ من العمر ستة عشر سنة، تموت  حبيبته، فيقرر توديع جثتها بعد التخفي في رداء أنثى منقبة، ليتمكن من إلقاء نظرة الوداع الأخير على جثتها.

دار  فيلم علاء الأول "خمستاشر" حول مشكلة تتعلق أيضا بسن المراهقة، حيث كان بطله فتى في الخامسة عشر من عمره، وهو الاهتمام الذي يفسره بانجذابه إلى تلك الفئة العمرية "يشغلني في المراهقين عدم نضجهم وتعرضهم لمشاعر جديدة عليهم،  تخلق دراما قوية بالفيلم"، ولعله اهتمامًا نابعًا من تجربته الشخصية نفسها، حيث إن هوسه بالسينما والأفلام بدأ حينما كان في عمر السابعة عشر، بعد أن شاهد الفيلم الإيطالي الشهير La Strada، إخراج فريدريكو فيليني، حسب قوله.

لكن ذلك الشغف الذي يوليه علاء إلى فترة المراهقة، لم يشبعه فيلميه القصيرين، حيث تخطاهما إلى مشروعه الجديد، وهو  فيلم روائي طويل يدور أيضًا حول "مشكلات المراهقة" وإن كان "بوجهة نظر مختلفة تمامًا"، حسب قوله.

يملك فيلم "ستاشر" قصة غريبة ومتفردة، لكن جودة أي فيلم لا تتأتى فقط من  فرادة قصته، وإنما أيضًا من الأسلوب الذي أنجز به المخرج عمله، وهو ما يلمسه المشاهد من أسلوب يترجم رؤية الفيلم بعمق شديد، فالفتى ينتابه شعور الغربة والعزلة الذي يتميز به المراهقين، وهو شعور تعززه الصورة السينمائية، حين نسمع فقط صوت أهله لنعلم بوجودهم دون أن نراهم، وحينما تتبدى أمه للكاميرا كشخص دون ملامح (ترتدي النقاب)،  كما يكاد يخلو شريطه من الحوار، حيث إن الجملة الوحيدة التي يقولها البطل الشاب هي عتاب يوجهه لأهله بسبب انتهاك أحدهم لخصوصيته، ودخوله الحمام عليه، بينما كان يختلس مكالمة عاطفية مع حبيبته، يعبران فيها عن حبهما الجارف وشوقهما لبعضهما البعض.

 

I am afraid to forget your face / Teaser from Sameh Alaa on Vimeo.

بالإضافة إلى ذلك، يلعب التصوير والإضاءة دورا هاما في تأكيد شعور الغربة والعزلة، حيث نرى البطل عبر إضاءة ضعيفة كابية، وهو وحيد دائما، حتى وإن كان بين الناس فإنه معزول عنهم عبر النقاب الذي يرتديه، بل إن هذا الشعور الجارف بالحزن والكآبة، الذي يميز المراهقين في تلك المرحلة العمرية، وبخاصة عندما يمرون  بموقف مشابه مثل فقدان الحبيبة، يتجلى فيما يظهر على الشاشة من صورة كئيبة لمدينة القاهرة، بشوارعها وأزقتها وسمائها ومبانيها وسلالم تلك المباني، الذين يترجمون كلهم ما يمور به صدر البطل من شعور لا يظهر على وجهه الجامد سوى في نهاية الفيلم.

المدينة بعيون هذا المراهق الحزين، صامتة وممتلئة بالمباني التي تحاصر الشاب أينما سار؛ في طرقاتها أو على السطوح باحثا عن نقاب والدته، كي يرتديه ويستطيع منح حبيبته الوداع الأخير؛ مباني تشعر لوهلة أن نوافذها عيون تحدق فيه، وكأنها تراقبه وتريد أن تتدخل هي الأخرى في خصوصياته وتنتهكها،  هذا الإحساس يحاول البطل أن يختبئ منه عبر ارتداء النقاب، الذي يخفي هويته عن كل من حوله ويعطيه حرية أكبر بكثير، تجعله قادرًا على دخول غرفة نوم حبيبته، ولكن بعد فوات الأوان أي بعد موتها.

أقل القليل للتعبير عن الذات

 

ينتمي الفيلم إلى الشاعرية والتقليلية minimalism، حيث يتكون من 22 لقطة فقط، وأقل القليل من الأحداث والحوار، فمن خلال 15 دقيقة هي مدة الفيلم، نعيش مع البطل المراهق مشكلة التعبير عن الذات، حيث إن الشاب الذي يحب، وربما يكون أول حب له في حياته، يحاول أن يعبر عن مشاعره لحبيبته، ولكن أسرته تراقبه دائما حتى في أكثر مكان يختلي فيه المرء بنفسه وهو الحمام؛ يفتح أحد أفراد الأسرة بابه بدون استئذان ليتلصص عليه.

وصاية الكبار على الصغار تتجلي منذ أول مشهد، بينما يجد الشاب أن الطريقة الوحيدة للتعبير عن حبه وتوديع حبيبته، هي التخفي في زي النقاب، ذلك الزي الذي يعتبره البعض قيدا للمرأة، هو على النقيض تماما بالنسبة لبطل الفيلم، فالنقاب بالنسبة إليه حرية؛ التخفي هنا حرية، وهو نفسه ما يقوم به الشباب اليوم حين يستخدمون الإنترنت للتخفي خلف هويات مصطنعة، ليشعروا أنهم أكثر حرية مما هم عليه في بيوت أبائهم الذين يقيدونهم بالمراقبة المستمرة بدعوى المحافظة عليهم.

"الشباب في هذا السن مستعدون لتحقيق أهدافهم مهما كانت المخاطر"، يفسر المخرج سامح علاء تصرفات بطل فيلمه، حيث يُقدم البطل على القيام بفعل خطر جدا، بأن يرتدي النقاب ليذهب إلى بيت حبيبته، مستقلًا المواصلات العامة، وسائًرًا في الشوارع، ومارًا من بين الرجال والنساء، الذين من الممكن لهم أن يكتشفوا هويته الحقيقية في أي وقت، وحينها ستكون العواقب جد وخيمة، لكنه يقوم بكل هذا من أجل تحقيق هدفه وهو منح حبيبته الوداع الأخير.

غير أن بطل الفيلم ليس وحده الذي أقدم على المخاطرة؛ كذلك فعل سامح علاء، الذي اختار لدور البطولة في فيلمه شابًا لم يمثل من قبل، ليظهر بوجهه في شريطه لثوان معدودة، وهو ما يقتضى امتلاك مؤهلات تمثيلية عالية تمكنه من التعبير بجسمه وعينيه فقط، كما يتحدث الفيلم أيضًا عن قصة غريبة وكئيبة لا تستطيع جذب أغلبية المشاهدين، بالإضافة لذلك الأسلوب التقليلي minimal الذي يجعلنا لا نشاهد سوى ما يريدنا المخرج أن نشاهده فقط، فنحن نشاهد البطل في أغلب الوقت محاطًا بالظلال، أو الكاميرا القريبة من جسده، لدرجة تجعلنا لا نرى ما حوله من أشياء أو فراغات، بينما ينعكس هذا الأسلوب أيضا على ذلك العدد القليل جدا من اللقطات (22 لقطة فقط)، اللائي كونّ الفيلم، وبالتأكيد اختيار مدير التصوير والمخرج للكاميرا الثابتة، أو التي تسير وراء البطل ملتصقة به، فتجعل المشاهد نفسه ملتصقًا بالبطل في كل حركة من حركاته، وتجعله لا يرى أيضا شيئا في العالم سوى ذلك البطل تماما مثلما لا يرى البطل شيئا في العالم سوى هدفه وهو وداع الحبيبة مهما كانت عواقب هذا الفعل.

هذا الأسلوب الذي يميز  الفيلم، كان أحد العوامل الرئيسية التي جعلت لجان التحكيم المختلفة، فيما شارك فيه من مهرجانات دولية، تختاره ليكون أفضل فيلم، فعلى الرغم من خطورة هذا الأسلوب، الذي قد يتحول إلى كارثة إذا لم يقدم بطريقة صحيحة ودقيقة، نجح صناعه في التحضير له وتنفيذه، واختيار الأسلوب الذي توافق مع القصة وما تحتوي عليه من مشاعر وأحاسيس، الأمر الذي جعل من نصهم تعبيرًا شاعريًا وصادقًا عن الشباب المراهق في كل مكان وزمان.