
عامان على الإبادة وغزة محاصرة بالأمل والأعداء
يبدأ العامُ الثالثُ لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة مع متغير يلوح في الأفق، فالرئيس الأمريكي أعلن خطته لإيقاف الحرب؛ لكن لا خطةَ تبدو قادرة على محو عامين من المذابح.
الأرقام لا تكفي للتعبير عما جرى، فحصيلة الإبادة الجماعية المستمرة ليست فقط أعداد ضحايا وحجم تدمير، بل عالم كامل ابتلعته آلة القتل الإسرائيلية الرهيبة مخلّفةً وراءها إضافة إلى الجثث والدمار والمجاعة معاناةَ من نجوا من المذبحة، وأيضًا من راقبوها عاجزين؛ معاناة لم تظهر ملامحها الكاملة بعد.
سعى الزميل سالم الريس لرسم جانبٍ من هذه المعاناة تحت الحصار والقصف؛ والدته المرأة الستينية "وسام" تحتاج مثل مئات الفلسطينيين في غزة إلى جلسات غسيل الكلى، بينما تنهار المنظومة الصحية بالكامل ليصبح مصيرها مرهونًا بأجهزة الغسيل القليلة الباقية التي لم تعطل بعد، وموقعها من مناطق النزوح المتجددة.
ورغم دُربة إسرائيل في الإفلات من أي عقاب على جرائمها مختفيةً وراء الستار الأمريكي، فإنها تسقط أخيرًا من مقعد الضحية الذي تبوأته عقودًا ومارست من عليه أصناف الابتزاز لتحتل مقعدها الجدير بها في مقدمة القتلة ومجرمي الحرب والملاحقين، وقوائم الاتهام في المحاكم الدولية.
تحريك دعاوى قانونية ضد إسرائيل وقادتها أمام المحاكم الدولية، ومنها محكمة العدل الدولية، خطوة مهمة بين خطوات عدة نزعت القناع عن وجه إسرائيل، لتبدو سمات السفاح أكثر قبحًا.
حتى إذا لم تؤد تلك الخطوات لمعاقبة إسرائيل وقادتها، فإنها أثبتت وصمة العار على جبين كل من شارك في الإبادة أو دعمها.
أما فلسطين، فعادت من جديد لموقعها الأثير في ضمير العالم، تتحرك نحوها أساطيل القوارب الصغيرة، حاملةً المئات من المتضامنين في موجات متتالية لا تنتهي نحو شواطئ غزة غير عائبة بغشم الاحتلال وتهديداته.
المظاهرات الضخمة التي تحركت من أجل فيتنام وجنوب إفريقيا في أنحاء العالم من قبل، تتحرك اليوم في كل مكان من أجل فلسطين؛ عمال المواني عبر العالم يقاطعون السفن الإسرائيلية، ومتضامنون يقتحمون شركات السلاح رفضًا لتسليح إسرائيل، وطلاب يحتلون ساحات الجامعات ومحطات المترو.
أضحى التضامن مع فلسطين شعار الإنسانية في العالم، معه اضطرت الحكومات للتسابق نحو الاعتراف بدولة فلسطين انصياعًا لتضامن الشعوب.
ما لمْ يتغير وسط كل ذلك، هو المجتمع الإسرائيلي ذاته، فما يشهده الداخل الإسرائيلي من مظاهراتٍ مطالبة بإبرام صفقة مع حماس لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين لا يعكس التوجه الأكبر في الداخل وإنما بقيت بوصلة المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين وبتطرّف، إذ تكشف استطلاعات الرأي المتتالية انحيازات المجتمع الإسرائيلي، ودعمه قادته في الحرب ورفضه للحقوق الفلسطينية وحرصه فقط على إنقاذ الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة.
عامان من الإبادة أزاحا أي أوهام حول المعارضة الإسرائيلية واليسار الإسرائيلي، لتبقى حقيقة واحدة واضحة هي حقيقة الاستعمار الاستيطاني؛ أن المجتمع مجرد امتداد لجيش الاحتلال.
بين عملية طوفان الأقصى التي فاجأت المقاومةُ الفلسطينيةُ العالمَ بها، وخطةِ ترامب التي قد تُوقِف الحرب، عامان من القتل الممنهج. عامان لن يعود بعدهما شيء كما كان، ولن تعود القضية الفلسطينية إلى ما كانت عليه قبل طوفان الأقصى؛ وهذا ربح كبير رغم التكلفة غير المحتملة.
عنوان هذا المقال مقتبس من جملة للشاعر الفلسطيني محمود درويش "ولا بريد إلى غزة لأنها محاصرة بالأمل والأعداء".