
كنا نريدك معنا سيد شابلن
تجوّلت صحفية تحمل جهاز تسجيل بين الحاضرين في إحدى الفعاليات الأخيرة للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مدريد، لتأخذ من بعضهم تصريحات قصيرة من أجل بودكاست لإذاعة معروفة. اقتربتْ منّي وسألتني سؤالًا واحدًا "ماذا تقول لمن لم يحضروا الفعالية؟"، أجبتها بأن عليهم أن يخرجوا للتظاهر. عليهم أن يكونوا معنا. صحيحٌ أن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين في المحل الأول، لكنها أيضًا قضية كل أحرار العالم. وفي هذه اللحظة تزداد أهميتها، علينا أن نحمي حياتنا وعالمنا من الفاشية الجديدة عبر كل أشكال الاحتجاج من أجل فلسطين.
تركَتني وأكملت تجوالها، فيما كنت أفكر؛ يبدو أنني تحدثتُ بلسان شارلي شابلن، كأن هذه الجمل تحمل روحه. إنها تعبيرات لا تبتعد كثيرًا عن تلك التي فتحت عليه أبواب الملاحقة في الولايات المتحدة بعد فيلم الديكتاتور العظيم (1940)، وخُطَبه المناهضة للنازية مطلع أربعينيات القرن الماضي. هذه الخطب التي دفعت أصحاب السلطة والصحفيين التابعين لهم لتكرار السؤال الاتهامي "هل أنت شيوعي سيد شابلن؟"، ليترك شابلن الولايات المتحدة ساخطًا عليها دون أن يعود لزيارتها أبدًا، كما يحكي في مذكراته قصة حياتي.
لم يكن شابلن شيوعيًا. أكد ذلك مرات عديدة. لكنه كان منحازًا للعدالة والسلام والسعادة باعتباره مواطنًا عالميًا. لم يدافع عن نفسه خائفًا أو مضطربًا أو محاولًا نفي تهمة لم يكن يراها كذلك في الأصل، مؤكدًا بصبرٍ أنه ورغم عدم تبنِّيه الأفكار الشيوعية يرى السوفييت المواجهين للنازية رفاقه، وخاطبهم بتعبير "رفاق" لأنهم يحمون العالم الديمقراطي من الخطر النازي. لذلك دعا لدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، كي لا يسقط الاتحاد السوفيتي أمام هتلر.
https://youtu.be/k8bVG8XC-4I?si=Hw_IhPjhANnyAw2Wشابلن الجديد في كل مرة
شابلن من السينمائيين القلائل الذين نعود إليهم مرات عديدة خلال حياتنا. يبدو لي من خبرة ذاتية أن اكتشافه يحتاج لتمهل. إنه اكتشاف عبر الزمن لرقائق وطبقات جديدة من عمله وعالمه. ضحك أغلبنا أطفالًا على هذا الرجل القصير الطريف، الذي يسير بشكل غريب، ويتعرض لمقالب وأخطار ومواقف حرجة. أحببنا ابتسامته الطفولية وشعرنا بأن العالم رغم قسوته به دفءٌ وحمايةٌ من خلال تأملّه كأب يتبنى طفلًا متشردًا في فيلم الطفل (1921).
لكن هناك مراحل أخرى من رحلة اكتشاف شابلن؛ من بينها الشباب، بالذات إن كان المكتشفون ممن يبدؤون حياتهم المهنية في مجال السينما. في هذه المرحلة نضحك أقل مع شابلن. ليس لأنه فقد قدرته على إضحاكنا، فطرافته لا تنتهي. لكن الانتباه الأساسي في هذه المرحلة يوجه لعنصرين يجسدان عبقريته واستثنائيته كفنان سينمائي؛ لكيف يبني قصصه بهذه الرقة والرهافة الإنسانية، ويربط عناصر منها بطفولته شديدة التعاسة، ويوظف لحظات الألم في هذه الطفولة ليقدمها سينمائيًا كعناصر بهجة وحميمية بين جمهوره وشخصياته.
العنصر الثاني الذي يلفت انتباه السينمائيين في هذه المرحلة هي مهارته في بناء المشهد ومكوناته. الديكور والإكسسوار والبيئة المحيطة؛ عناصر تبدو غير مهمة، لكنها مع تطور الأحداث تكتسب وظيفتها. تتحول لعناصر أساسية تساهم في بناء المشهد كوحدة عضوية. وربما يكون هذا الجانب من أهم جوانب فهم شابلن للسينما؛ المشهد كوحدة درامية مكتملة بذاتها، تتضمن بداخلها قصةً، وكل العناصر الضرورية التي تسمح بتطورها ونضجها، واكتمالها كقصة.
المرحلة الثالثة في تقديري، هي المرحلة التي مررتُ بها خلال هذا الصيف؛ أن أعيد اكتشاف "شارلوت الصغير" بالتزامن مع إبادة الشعب الفلسطيني في غزة. عودة لمشاهدة أغلب أفلامه، وقراءة مذكراته، بعد أكثر من عقدين. وهنا الانتباه لشابلن يتجاوز انتباه الطفولة الطريف، وأبعد من انتباه دارسي السينما الباحثين عن الأدوات ليتعلموها. إنه انتباه لشابلن السياسي والفيلسوف المتمرد، ناقد الأغنياء والأقوياء، المنحاز دائمًا للأضعف، والرافض للعالم الرأسمالي المتوحش، والباحث عن عدالة وسعادة للجميع.
إنه شابلن الذي يصنع الأزمنة الحديثة (1936) لنتأمل توحش النظام الصناعي الرأسمالي الحديث. ويصنع "الديكتاتور العظيم" لينبهنا للخطر؛ لهذه الفاشية التي ستلتهم العالم إن لم ننتبه إليها، ونقضي عليها قبل أن تقضي هي على العالم.
شابلن في زمن الإبادة
يقول الحلاق اليهودي الهارب من خطر المحرقة، والمتنكر في هيئة هتلر، في خطابه الختامي في "الديكتاتور العظيم": لنناضل الآن لتحقيق كل هذه الآمال، لنناضل جميعًا لتحرير هذا العالم. نناضل لإسقاط الحدود الوطنية، لنقضي على الجشع والحقد والكره. لنناضل من أجل عالم يستند للعقل. عالم يقودنا فيه العلم والتقدم باتجاه السعادة لنا جميعًا. لنتوحد جميعًا باسم الديمقراطية.
حقق الفيلم النجاح الباهر، وواجه كذلك عواصف القلق والنقد، مثل أغلب أفلام شابلن السابقة واللاحقة. كان وقتها من أشهر وأنجح وأغنى السينمائيين في العالم. إنها اللحظة التي يستدعونه فيها، وبسبب شهرته العالمية الاستثنائية، وحب جمهوره الجارف له، ليتحدث في مؤتمرات سياسية بمناطق مختلفة من الولايات المتحدة. يلبي شابلن النداء، يصر على أن يقول كل ما يريد قوله دون خوف أو مهادنة. لتستمر هذه الموجة من التورط السياسي المباشر لشهور، حتى تدخل الولايات المتحدة الحرب، وحين تنتهي هذه الحرب تبدأ المضايقات والملاحقة.
يفسر شابلن تورطه الشديد هذا، ولماذا كان أكثر حدة ووضوحًا من أورسون ويلز حين تشاركا في أحد هذه المؤتمرات، بأن هناك على الأغلب جانبًا ذاتيًّا دفعه للمزيد من التورط؛ تلقي التصفيق والتقدير، وشعور يرضيه بأنه يلعب دورًا عالميًا. لكنه يؤكد على أن هناك عاملًا آخر؛ الاحتقار الشديد الذي تثيره بداخله النازية والعنصرية، وشعوره بالخطر، وبضرورة المواجهة أيًا كان الثمن.
إنها أحد جوانب عظمة شابلن، فنانًا وإنسانًا؛ وعيه بأن أفلامه وشهرته هما نتيجة أفكاره ومواقفه ورؤيته لمستقبل العالم. الرؤية التي تدفعه لدخول مغامرة تثير لدينا الحنين إليه اليوم، لدرجة أن نقول "كنا نريدك معنا الآن وهنا يا سيد شابلن، بأفلامك وشجاعتك ومكانتك الأخلاقية والقيمية".
كان شابلن واعيًا بأن النازية لا تَشبع، وأنها ستستمر في محاولة تدمير العالم كله. نبّه لخطورة أن يتصور بلد بعيد أنه بمنأى من هذا الوحش النازي/الفاشي. إنه الوعي الذي نستطيع الاستعانة به لفهم ومواجهة هذا الطمع المتزايد لدولة الاحتلال الإسرائيلي المماثلة للنموذج الفاشي. فبعد غزة، هناك كل فلسطين ومهمة تطهيرها بالكامل من الفلسطينيين. وهناك الحلم الذي لم يعد مجرد شريط حدودي محتل في لبنان أو سوريا، بل يتمثل اليوم في هذه المهمة الروحية التي تحدث عنها نتنياهو في تحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
إنه الوعي نفسه الذي نحتاجه اليوم في مواجهة آلة القتل وحلفائها من اليمين المتطرف والعنصري عالميًا. هذا اليمين المعادي في جوهره للسامية، وأدخل اليهود قبل عقود للمحرقة، لكنه معجب اليوم بنتنياهو، ويناصر إسرائيل لأنها تنفذ بالضبط ما يريد تحقيقه هو، وتمهد له الطريق؛ تحطيم السياسة، تدمير النموذج الديمقراطي المستقر، شطب كل الأعراف الدولية التي صاغتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية لحل النزاعات ورفض الاحتلال، وأن تكون الإبادة والتطهير العرقي من ضمن الأدوات المتاحة للاستخدام دون عقاب أو رادع. إنه اليمين الواعي بأن ما تفعله إسرائيل في غزة يخدمه، لأنه يدفع العالم للبربرية، ويعطي درسًا لكل شعوب الأرض، ويقدم الموديل الملائم للقوى الاستعمارية في عالم الغد.
لذلك، والآن على رصيف في ميناء برشلونة، يوم الأحد 31 أغسطس/آب، حيث يحتشد الآلاف لوداعنا نحن الصاعدين على متن قوارب أسطول الصمود العالمي باتجاه غزة، ربما يفكر البعض مثلما أفكر في هذا المكان: كنا نريدك معنا يا سيد شابلن. كنا نريد كلماتك لندرك جميعًا أن الخروج للشوارع أو للبحر من أجل فلسطين، وإيقاف الإبادة ومحاسبة القتلة، حمايةٌ لحياة البشر وأطفالهم في أي بقعة من العالم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.