صورة متداولة من الفيلم
منى زكي وحسن الرداد من فيلم احكي يا شهرزاد

المرأة على الشاشة: تتوب أو يقتلها المجتمع

منشور الأحد 31 يناير 2021

ينظر المجتمع إلى المرأة الممثِلة عبر ثلاثة قوالب نمطية: الأم والبريئة والجريئة، ويقبلها في الحالات الثلاث كنماذج يحب رؤيتها على الشاشة، فالمرأة في طورها الطبيعي وفق منظوره إما بريئة حالمة أو أم رءوم أو جريئة/منحلة يجب أن تقتص منها الدرامًا بوصفها نموذجًا سلبيًا، وبالتالي فهو قد يقبل استتابة تلك الجريئة عبر تحولها للعب أي من أدوار النمطية الأخرى، فيما يرفض وبشدة أن تنتقل الفتاة البريئة والأم إلى الظهور في أي صور جريئة، إلى الحد الذي قد يدفعه لمقاطعتها بما يهدد مشوارها الفني.

تظهر تلك الفكرة بوضوح، عند النظر، مثلًا، إلى موقفين للجمهور نفسه بدا فيهما شديد التناقض تجاه الممثلة يسرا اللوزي، التي انتقلت في شهر واحد من الخانة الجريئة إلى الأم، وواجهت في المرتين نقد الجمهور ثم استحسانه وتشجيعه في ازدواجية لافتة.

عندما خضعت يسرا لجلسة تصوير لمجلة فوج أرابيا أثناء حملها، ظهرت فيها تحتضن بطنها العاري المنتفخ، قوبلت بانتقاد كبير من قبل الجمهور العربي الذي يرى في جسد المرأة عورة يجب إخفاءها أو الحفاظ عليه بعيدًا عن أعين "الأجانب" على أحسن تقدير، لكنها عادت وبعد أسابيع قليلة من نشر صور تلك الجلسة إلى صدارة اهتمام المتابعين، بعد ما أظهرته من شجاعة ضد تنمر أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي على ابنتها التي تعاني من الصمم، واصفًا إياها بمصطلح "طرشة"، وهي شجاعة قابلها الجمهور بتعاطف ودعم للفنانة الأم ظهرا وكأن لا حدود لهما.

ماذا نريد من الفنانات؟

في أدوارها القديمة، أدت يسرا اللوزي مشاهد جريئة تتضمن قبلات ساخنة بوصف "السينما النظيفة"، قبل أن تتحول في أعمالها التلفزيونية اللاحقة إلى صورة الفتاة البريئة التي يفضلها الجمهور المحافظ، في مسار يتشابه وما سلكته من قبل الفنانة هند صبري، التي تعرف عليها الجمهور المصري عبر مشاهدها الجريئة في صمت القصور ومواطن ومخبر وحرامي ومذكرات مراهقة، قبل أن تتحول إلى أدوارها "المحتشمة" في عايزة أتجوز والجزيرة والممر وزهرة حلب.

 

الأمر نفسه يظهر عند استعراض نماذج أقدم مثل هدى سلطان التي ظهرت في السينما في أدوار الغواية مثل امرأة على الطريق، لكنها تكرست بعد ذلك عبر صورة الأم مع تقدمها في السن في عودة الابن الضال ثم أرابيسك والوتد وغيرها، لكن عامل السن الذي غيَّر أدوار سلطان، ليس وحده الذي يدفع الممثلة إلى الابتعاد عن أدوار الإغراء وإنما أيضًا رغبة المجتمع في عدم عودتها إلى تلك النوعية الدرامية من الأدوار، ونلحظه مثلًا في مسار اللبنانية نيكول سابا التي تحولت من باحثة العلاقات الجنسية في التجربة الدنماركية إلى أم حقيقية كما ظهرت مؤخرًا على السوشيال ميديا من خلال علاقتها بأولادها، ثم ابتعدت تمامًا عن الأضواء ولم تظهر في أدوار جديدة رغم مرور فترة طويلة على أخر أفلامها السفاح.

وتغذي تلك الرغبة لدى المجتمع ما شهده من موجة ارتداء كثير من الفنانات للحجاب ثم اتجاههن للاعتزال، التي تخللت فترة الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، وما صاحبها من جدال حول حرمانية التمثيل، شجعه لعن أولئك التائبات لمشوارهن الفني وإعلانهن ندمهن عليه؛ هذه النظرة التي تعتبر التمثيل فعلًا من الشيطان، مدت فعل الاستتابة على اتساع الصور النمطية التي كرستها عن المرأة على الشاشة، ورأت أن في تحولها من البراءة للجرأة انحلالًا يجب عقابها عليه، فيما ارتضت بنموذج الفنانة الجريئة كدليل على فساد تلك المهنة لا أكثر.

لذلك نجد أن الجمهور قد يستهجن جرأة رانيا يوسف لكنه يقبلها في الوقت نفسه، كما يحب أن يرى فنانات أخريات مثل علا غانم أو غادة عبد الرازق تؤدين أدوارًا مغوية.

لكن، ماذا لو حدث العكس؟ أن تتحول فنانة اعتادت تقديم الأدوار البريئة إلى أدوار أكثر جرأة؟

شهرزاد السمراء

ليس هناك مثالا أكثر تراجيدية من منى زكي.

اختارت منى زكي ولفترة طويلة أن تقدم أدوار الفتاة البريئة أو المرأة الطموح التي لا تختلف كثيرًا عن هيئتها الضئيلة وصوتها الرقيق، لكنها عندما حاولت كسر تلك الصورة النمطية بتقديم دورها الجرئ في احكي يا شهرزاد أثارت ضجة كبيرة خيمت بظلالها على حياتها المهنية والشخصية بعد ذلك، حد أن زوجها الفنان أحمد حلمي صار يتقاسم معها السباب، لتركه إياها تقدم مثل ذلك الدور الذي تظهر فيه في حضن رجل آخر مثلما ظهرت في أحد مشاهد الفيلم.

ولكن ماذا لو اضطلعت ممثلة أخرى بدور البطولة في ذلك الفيلم، هل كانت ستتعرف منى زكي على طاقاتها التمثيلية بهذه الصورة؟ هل يتخيل أحد ما كان ليحدث في تاريخ السينما لو بقيت شادية تقدم أدوار الفتاة الجميلة ابنة الجيران ورفضت أدوراها في الطريق وزقاق المدق ونحن لا نزرع الشوك واللص والكلاب؟ ماذا عن سعاد حسني المبهجة، كم كانت السينما ستفقد لو رفضت أدوارها في زوجتي والكلب وبئر الحرمان وغروب وشروق وشفيقة ومتولي؟

أدان المجتمع منى زكي وظهرت في لقاء تلفزيوني أجري معها بعد مرور سنوات على الفيلم، تبكي إثر ما تعرضت له من ظلم من الجمهور، لكنها في المقابل لم تفقد بريقها وانعكس ذلك في دورها اللافت في مسلسل أفراح القبة.

ثمة نجمة أخرى أيضًا حاولت كسر صورة بدايتها النمطية وتأدية أدوار أكثر جرأة لكن مسيرتها الفنية اضطربت بعد تأثرها بردود فعل الجمهور، فسمية الخشاب التي ما أن بدأت تلمع في أدوار الزوجة المخلصة في الضوء الشارد والحقيقة والسراب وعائلة الحاج متولي، إلا والتحقت بركب المخرج خالد يوسف في ثورته قصيرة الاشتعال على السينما النظيفة، من خلال حين ميسرة والريس عمر حرب، ولم تعد بعدها تلك النجمة القريبة من القلوب، وتراجع مستواها الفني بشكل كبير، فتشتت اهتماماتها الفنية ما بين الغناء والحروب على طليقها أحمد سعد، لكنها لم تستطع الانتصار لأي من سمية القديمة أو الجديدة على حساب الأخرى، وتاهت بين الاثنتين.

شهرزاد الشقراء

المدهش أن الأمر لن يختلف كثيرًا عند النظر إلى وضع الممثلات في السينما الأمريكية في ظل مجتمع محافظ، يعتمد النظرة نفسها تجاه المرأة، فحين بدأت كيت وينسلت أو نيكول كيدمان حياتها المهنية بالتعري على الشاشة، فإن ذلك لم يتسبب في صدمة أو نفور الجماهير، بمثل ما حدث مع إليزابيث بيركلي النجمة التلفزيونية الشهيرة، التي انتهى مجدها بعد الفيلم المثير للجدل Showgirls، أو أليسا ميلانو بطلة Charmed التي منعها دورها الجريء في فيلم Embrace of the Vampire من أي نجاح سينمائي لاحق، بعد صدمة جماهير التليفزيون في الساحرة خفيفة الظل بايبر.

هل يتذكر أحد درو باريمور، بنت الجيران الأمريكية الرقيقة وهي تؤدي أدوار المرأة اللعوب والفتاة الجريئة في بداية حياتها؟ كانت درو مادة ثرية للصحفيين ومقدمي البرامج من حيث ظهورها عارية على أغلفة المجلات أو حضورها الفاضح في بعض المقابلات التليفزيونية، لكنها بعد أن كرست صورتها الذهنية منذ التسعينيات في لعب أدوار الفتاة البريئة ومن بعدها الأم كما تظهر على شبكات التواصل، نجحت في اجتذاب تعاطف الجماهير على عكس الانتقادات التي كانت توجه إليها فيما مضى.

لكن ردود أفعال الجماهير بدت أعنف تجاه النجمات اللائي ظهرن في أعمال ديزني الموجهة للأطفال أو العائلة في الأغلب؛ في بداية الألفية ظهر جيل نجمات البوب سيلينا جوميز ومايلي سايرس وليندساي لوهان وهيلاري داف، من خلال أعمال ديزني ترقصن أو تغنين لجمهور من المراهقين وأسرهم المحافظة، ثم بدأت كل واحدة منهن في التمرد بطريقتها على صورة الفتاة البريئة التي عرفها الجمهور من خلالها، لكن كثيرات منهن فشلن في إدراك ما حققنه من نجاح البداية، فليندساي لوهان صارت عنوان الفشل مع أفلام لا يشاهدها أحد، فيما ينهال عليها النقاد بالهجوم والسخرية، حتى طال الانهيار حياتها الشخصية نفسها، أما سيلينا جوميز فلم تكرر تجربتها الجريئة بعد فيلم Spring Breakers التي أصابتها بانهيار عصبي بسبب تخيلها رد فعل معجبيها الذين اعتادوا عليها مراهقة بريئة رقيقة ذات صوت ناعم، أما هيلاري داف فمحاولاتها كانت أكثر بؤسًا، من جلسة تصوير صادمة لمجلة ماكسيم إلى دور به قدر من الجرأة في فيلم War,Inc الذي حقق فشلًا ذريعًا، فاكتفت بعده بالحياة على ضفاف صورتها الذهنية القديمة، ولكن بعد خسارة جزء كبير من معجبيها بالطبع. بل إن مطربة البوب المعشوقة حاليًا بيلي آيليش خسرت عددًا كبيرًا من متابعيها على إنستاجرام بعد نشرها صورًا عارية رسمتها بنفسها. 

لكن أكثر الممثلات الأمريكيات شبهًا لما تعرضت له منى زكي هي ميج رايان، معشوقة الأمريكيين في التسعينيات، التي ما أن قررت التمرد على أدوارها النمطية كشقراء خفيفة الظل تتعامل مع الحب والعلاقات العاطفية ببراءة لا تتناسب وعمرها، حتى لاقت رفضًا مجتمعيًا ونقديًا، أدى لنهاية حياتها المهنية كممثلة.

 

في فيلمها الأكثر جرأة In the Cut ظهرت رايان عارية، وكانت تلك اللحظة التي قضت على حياتها المهنية، قابلها النقاد باستهجان واستنكار، حتى إن مقدم البرامج البريطاني مايكل باركنسون وبخها قائلًا "كيف يمكنكِ أن تكوني عارية على الشاشة"؟ وهو سؤال يجعلك تشعر بأن رايان واحدة من حريمه وليست ممثلة يجرى معها حوار احترافي.

في ما تحفظه ذاكرة يوتيوب من لقطات لتلك المقابلة يظهر المحاور كرجل كبير السن يهاجم امرأة تحاول ألا تحرجه أو تجيبه بفظاظة، بينما يتضح جليًا على وجهها علامات الضيق والرفض، مع هذا لم يتدخل أحد لإنقاذ المرأة المسكينة من ذلك الموقف المؤذي لها نفسيًا، الذي تذكرته هي في مقابلة أخرى مع مجلة ماري كلير، واصفة محاورها البريطاني بأنه مخبول و"أب متسلط وليس مذيع".

قد يتسبب المجتمع  في تعثر مشوار الفنانة، وقد ينهيه إذ يقاطع أفلامها، يساءلها عن الفن والاحتشام والاعتزال، وكأنما ليس لديها خيارات أخرى لتعيشها. يرتبط الأمر بقناعات المشاهد المحافظ وما تحمله من تناقضات، التي إن سار وفقها أي شخص لن ينتج في النهاية فناً يعجب ذلك الجمهور أو يؤثر فيه؛ لن يكون هناك بئر الحرمان أو امرأة على الطريق أو الراقصة والسياسي أو بحب السيما، وغيرها الكثير من الأعمال السينمائية اللافتة، وهذا يطرح سؤال: هل كل امرأة اختارت طريق الإبداع ينبغي أن تنهي حياتها وقد نقمت عليه وندمت عليه وقررت أن تتصوف؟