
حوار| باسل رمسيس: صدفة غبية قطعت أهم مهمة في حياتي
"اللي في الأسطول مش الأبطال.. غزة هي البطل"
وقعتُ في خطأٍ غيرِ مقصودٍ في إحدى مراحل تحريري للمقال الأخير من سلسلة إلى فلسطين التي وثقّ من خلالها المخرج والكاتب المصري باسل رمسيس رحلته من برشلونة على يولارا/الناصرة باتجاه غزة ضمن أسطول الصمود؛ نُشر النص بعنوان "المقال الأخير"، بينما كان العنوان الأصلي الأيام الأخيرة.
خطأ بدا نبوءةً غير محببة، أو كما يسميها باسل رمسيس "صدفة غبية" أنهت الرحلة التي بدأها منذ 27 أغسطس/آب الماضي، على نحو مبكر قبيل أن تدخل المغامرة مراحلها الأخيرة باتجاه القطاع المنكوب.
عاد باسل من الرحلة مضطرًا مثقلًا بالإصابات الجسدية والإنهاك النفسي ما حال دون تمكنه من كتابة مقال ختامي للسلسلة. إلا أن أسئلتي خلال تواصلي المستمر معه الأيام الماضية للاطمئنان حفّزت قدرته على الحكي، فكان هذا الحوار.
الحادثة
ترك باسل الأسطول يوم 26 سبتمبر/أيلول عند توقفه في جزيرة كريت بقرار من الفريق الطبي المختص، ونشر حينها بوست على حسابه الشخصي على فيسبوك يعلن مغادرته بسبب الإصابة.
حدث لبسٌ في فهم البوست بخصوص الحادث الذي أصابه، وتصور البعض أنه بسبب هجوم المسيرات على الأسطول الذي سبق مغادرته بيومين، وهو ما استدعى توضيحًا من باسل في البداية "الإصابة ما كانتش بسبب هجوم المسيرات، ما حدش حصل له حاجة ليلتها".
"يوم 24 الصبح عملت كنكة قهوة كبيرة وحطيتها على ترابيزة في مكان ضيق في ضهر مركب يولارا/الناصرة، حركة المركب مع الموج دلقت القهوة عليا، واتسببت في مجموعة حروق صغيرة لكن الحرقين الكبار في دراعي اليمين وقدم رجلي الشمال".
استغرق الأمر ساعة ونصف الساعة لتظهر درجة الحرق، ما استدعى حضور دكتور إيطالي من منظمة دولية مرافقة للأسطول "كان في مركب تاني وجه شاف الحروق ونضفها وحط مرهم وقالي بشكل واضح إن دايمًا في خطر عدوى مع الحروق ولازم نقرر دلوقتي هتكمل ولا مش هتكمل.. أنا قلت بشكل واضح إني هكمل والحرقين مش هيمنعوني".
القرار الذي كان نهائيًا لحظتها لم يعد كذلك بعدها بيومين، فعند توقف الأسطول في جزيرة كريت وإعادة ترتيب راكبي القوارب بسبب تعطل قارب Family ما استدعى توزيع ركابه على بقية القوارب. "كان معاد تغيير الجرح، واحدة من زميلاتي على يولارا شالت الشاش وشافت الجرح لقيته صعب، ما ينفعش تتعامل معاه طلبنا ييجي دكتور واكتشفنا إن بقالهم يومين بيناقشوا الحالة بتاعتي بناء على صور معاهم".
صَدَم الدكتور عثمان، تركي الجنسية، باسل، عندما قال له إن حرق قدمه "من الدرجة التانية وفيه خطر عدوى وإن مكانه جنب مفصل القدم لو حصلت عدوى هيأثر ع المفصل للأبد ولو حصل اعتقال إسرائيلي لا هيعالجوا الجرح ولا العدوى".
يوم 26 سبتمبر، منذ الثامنة صباحًا حتى الخامسة مساءً "كنت باخد في قرارات متناقضة" ما بين الاستمرار على المركب أو النزول "على حسب كلام الدكاترة واتصالاتي بدكاترة وعيلتي وكلام زمايلي على المركب"، حتى جاء القرار النهائي من اللجنة الطبية التي قررت أن أترك المركب.
"زمايلي واللي كانوا مصرين إني أفضل معاهم قالوا إنهم هيشيلوا عني مهامي ويحافظوا عليا، وإنهم متحملين المسؤولية معايا"؛ أمام هذه الروح لم يستسلم باسل لقرار اللجنة بسهولة؛ حاول التفاوض معهم واقترح "ينقولني من مركب يولارا لمركب تاني عليه دكتور نضمن إنه مافيش أي نوع من الالتهابات"، لكن المسؤولية التي يتحملها الفريق بسبب وجود مصاب معه خاصة مع دخول مرحلة الخطر الأخيرة حسمت القرار.
قطع الحادث أهم مهمة شارك فيها باسل، الذي بدأ العمل السياسي منذ التسعينيات، واضطر للهبوط من السفينة. "بدأت التحرك. نزلت على جزيرة كريت من المينا اللي نزلته لحد المطار، وبعدين لحد برشلونة وهناك رحت طوارئ متخصصة في الحروق".
حمل تقرير المستشفى أن الحروق من الدرجة الثانية، وقد يكون فيها أجزاء حروق من الدرجة الثالثة ما يستلزم إجراءً جراحيًّا وصفه باسل بأنه بسيط لزراعة الأنسجة، "لكن ده مش هيوضح غير مع الوقت هنشوف لو الجرح عالج نفسه خلال الأسابيع اللي جاية".
تروما ترك المهمة
لم يستطع باسل توصيف مشاعره وإحساسه أثناء نزوله من على المركب "كنت في حالة صدمة. لحظة تروما. مش مدرك حاجات كتيرة وتناقضات مشاعر كتيرة لكن أقدر أقول إنه بعيد عن الجزء الجسدي والحرق نفسه فمعنوياتي وحالتي العقلية مش في أفضل حالاتها وإحساس شديد بالإحباط".
"صدفة غبية دخلت في الطريق بوظت مسار من يوم 27 أغسطس لما وصلت برشلونة ويوم 31 أغسطس لما ركبت المركب، وده مسار مرهق"؛ يُشير باسل إلى إرهاق الحياة على مركب صغير "الحياة أصعب مما كنت متخيل على المستوى الجسدي والعقلي والنفسي"، لكنه يستدرك "ده المسار اللي اخترته وكنت مرتاح لفكرة إني في المهمة دي وقادر أكتب وأنشر وأتواصل مع الناس وأقول إن فيه واحد مصري في الأسطول".
يُدرك أنه في الأسابيع المقبلة سيتوجب عليه أن يتعايش ويتقبل قرار مغادرته المركب قبل دخول مرحلة الخطر "إزاي أعالج اللحظة دي، التروما دي"، لكن يؤجل هذا الآن "أهم حاجة بالنسبة لي هي المهمة، والناس اللي ع المراكب في اتجاه غزة. غزة هي الهدف الأساسي، وهي البطل ولازم تفضل البطل".
يرى باسل في الأسطول رمزيةً أساسيةً لحركة التضامن العالمي الضخمة المبهرة مع الشعب الفلسطيني، "الهدف الأساسي الكلام عن غزة، والكلام عن الأسطول، حقنا كلنا نكسر الحصار ونوقف الإبادة وننزل أرض غزة وتمنع إبادة الشعب الفلسطيني".
شاعرية الرسائل
يدرك باسل رمسيس أن رسائله التي نشرتها المنصة على مدار الشهر الماضي كانت "شاعرية أكتر وعاطفية أكتر" وتختلف عن مقالاته الأسبوعية التي اعتاد الجمهور قراءتها.
"مقالاتي كنت بكتبها من مكتبي في البيت، أوضة مقفولة، عندي كتبي وإنترنت وطقوسي وقهوة وظروف مهيئة"، لكن الوضع لم يكن كذلك على مركب يولارا.
"لأول مرة في حياتي أكتب مقال في كراسة على رجلي وأنا قاعد مش مرتاح وجنبي 6 أشخاص بيعملوا دوشة وبيتكلموا وبيسمعوا مزيكا أو بيطلب مني طلبات ومهام أقوم أعملها، زي شد الحبل ده يا باسل، فأقوم أعملها وأرجع".
المقالات التي حرص باسل على إرسالها إلينا مصورة مرة ومقروءة صوتيًا مرة أخرى، لمراجعتها ونشرها كانت تأتي "مكتوبة بخط اليد، وبعمل عليها تعديلات بالقلم الأحمر في القراية التانية، ومش بالتركيز اللي بطلبه من نفسي في الطبيعي".
كما أن قلة عدد الساعات التي يمكن العمل خلالها كانت سببًا آخر "من الساعة 4 ما فيش نور، ما عرفش أكتب وأقرا لحد الساعة 4 اليوم التاني، والـ12 ساعة بيبقى فيهم المهام اليومية التانية زي غسيل أطباق ومراقبة".
يفرّق الكاتب بـ المنصة بين مقالاته الأسبوعية التي كان يستهدف من خلالها "إن الناس تقرا وتفكر وتراجع جزء من تاريخنا وتوصل للي هي عايزاه، زي مقالات كامب ديفيد اللي بتثير حافز عقلي وفكري، وتخلي القارئ يدور على اللحظة دي في تاريخ مصر إيه حصل وإيه تأثيرها على القضية الفلسطينية"، وبين كتابة الرسائل العاطفية من المركب التي تغلب فيها المخرج على الكاتب "بلاحظ مين معايا وبيعملوا إيه وشكلهم إيه وإيه الحاجات اللي بنحسها والتفاصيل المؤثرة في اليوم بيومه".
حاول من خلال كتابته غير المتأنية نقل "انفعالات ومشاعر وبكا حلو، لتظهر التفاصيل الملموسة المباشرة ليها معنى زي الساعة اللي في إيدي والكوفية اللي محمد لابسها".
اختار باسل في لحظة المعركة الكبيرة أن يكلم مشاعر القارئ أكتر من عقله "غصب عني، الرسايل اللي بتوصلني من أصدقاء وأهل وناس ماعرفهمش رسائل شحن عاطفي".
أكبر تضامن عالمي منذ فيتنام
يعتبر المخرج والكاتب المصري ما يجري الآن من تضامن عالمي شعبي ممتد ومتنوع الأشكال مثل ما حدث في إسبانيا من منع سباق الدراجات أو في إيطاليا الإضراب العام "أهم معركة سياسية وأخلاقية ضد العدوان الإسرائيلي منذ 1948".
لا ينكر من رافق الأسطول شهرًا كاملًا أن هناك "ملاحظات وانتقادات يتشارك فيها مع المشاركين القاعديين على أداء اللجنة التنسيقية العليا في الأسطول"، لكنه تحفظ على الحديث فيها كي لا تكون في صالح إسرائيل وقوى اليمين المتحالفة معاها.
"الانتقادات هقولها في وقتها المناسب وشكلها المناسب، عشان متبقاش هدية لإسرائيل ولا للقوى المتحالفة معاها، ومستنية أي انتقادات عشان تستخدمها ضد الأسطول، والأهم إنها تستخدمها ضد الشعب الفلسطيني والقضية والتضامن العالمي في عز المعركة"؛ يبرر باسل تأجيل الحديث عن الانتقادات، فالمنتمون إلى اليمين في أوروبا لا يتوقفون عن إطلاق الشائعات حول الأسطول بغرض تشويهه.
يشير لما سماه حرب إشاعات يومية تطلقها القوة المعادية للأسطول "زي إننا بنتفسح في جزيرة إبيزا وإن فيه خمرة ومخدرات وإننا متخدرين طول الوقت. مافيش مركب عليه نقطة خمرة ولا أي نوع من المخدرات".
رسائل أخيرة
يؤمن باسل الذي التزم في مقالاته الأسبوعية في المنصة بالحديث عن القضية الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر، حتى اليوم. أنه ليس من حقه أن يوجه رسالة للشعب الفلسطيني "ولا أي حد من حقه يكلم الشعب الفلسطيني، ولا أي حد مؤهل يكلم شعب أو بلد والمطلوب منه يسمعوه ما حدش عنده الصلاحية وخاصة مع الشعب الفلسطيني".
يتذكر طلب اللجنة التنسيقية من المشاركين تسجيل فيديوهات موجهة لشعب غزة أثناء الرحلة، لكنه رفض "أنا مش الراجل الأبيض اللي رايح ينقذ شعب غزة"، فالشعب الفلسطيني هو من علّم العالم معنى المقاومة منذ عام 1936، وهو وحده من يعرف هدف الأسطول "مستنيه ومرحب بيه، والجهة الوحيدة اللي تقدر تقول لنا ما توصلوش غزة هو الشعب الفلسطيني"، مؤكدًا أنه "هو الرهان الأساسي واللاعب الأساسي".
يوجه باسل رسالة للمشاركين في الأسطول، بالأخص رفاقه على مركب يولارا/الناصرة "اللي كانوا عيلتي لمدة شهر وهيفضلوا عيلتي، فتجربة زي دي تسيب أثر في الروح والعقل وفي حالتي أثر على الجسد كمان".
يشاركنا باسل ملخص رسالة أرسلها لزملائه في القارب "ليا الشرف إني كنت من يولارا على مدار 27 يوم، وأهم حاجة إن إنتوا في اللحظة الحرجة، الخطر، دخلتوا منطقة الخطر وعينين العالم مسلطة على غزة والأسطول، إحنا معاكم وقلوبنا معاكم وقلوبنا عليكم عشان توصلوا أرض غزة بسلام وترجعوا بيوتكم بسلام".
"الوصول لغزة وفتح ممر إنساني دائم"، يبقى الأمل الوحيد لباسل في هذه اللحظة؛ أن تتم المهمة التي تركها مجبرًا.