الذاكرة الفلسطينية| مفاتيح العودة
لم تكن فلسطين أبدًا مجرد جغرافيا محاصرة، بل مركز اختبار لوعي المنطقة. كل مرة يشتد فيها القمع يمتد أثره إلى خارج حدودها ليزلزل شرعية الأنظمة العربية نفسها. بعد 1948 هبَّت عاصفة غيرت الأنظمة الحاكمة في المنطقة، وبعد الانتفاضة الثانية انطلقت في المنطقة شرارة حركات التغيير التي بلغت ذروتها بنهاية العقد الأول من هذا القرن الحالي. وما بينهما كان لما يحدث في فلسطين صدى حولها.
من هنا نفهم ما قاله الكاتب والمفكّر الفلسطيني سلامة كيلة إن "جوهر القضية الفلسطينية لا يتعلق بالوجود المادي لإسرائيل فقط، بل بوظيفتها الإقليمية في تفتيت أي إمكانية لمشروع وحدوي عربي".
هذا البعد الإقليمي لا يمكن فصله عن قدرة المقاومة الفلسطينية على إبقاء القضية حية، لتبقى المنطقة نفسها في حالة احتكاك سياسي دائم. وبمرور الزمن، تحوّلت غزة من ساحة مواجهة إلى مختبر إنساني سياسي تُختبر فيه حدود الممكن، وتُعاد فيه كتابة المعادلات من جديد، كما يرى الباحث والمدير التنفيذي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية جهاد أبو سالم. اكتسب صمودها -بالإضافة إلى كونه فعلًا مقاومًا- رمزية كاشفة بعد أن شكَّل مرآةً تظهر فيها بوضوح هشاشة الخطاب الرسمي العربي وعجزه عن مواكبة وعي الشعوب.
إعادة الكرامة أم تقنين الخضوع؟
هنا لا بد من استخدام منهجية مغايرة لما استخدمته أغلب التحليلات التي تناولت الكيان الصهيوني في السنوات العشرين الأخيرة لمنظّري مدرسة المصلحة أو بنية الجيل المولود في الداخل، بعد أن فشلت في تفسير ما حدث من مذابح وإبادة في السنتين الأخيرتين، بل وأظهرت وكأن إسرائيل تتصرف عكس مصالحها في كثير من الأحيان، بعد أن فشلت على سبيل المثال رهانات أن تُسفر الانقسامات الداخلية في إسرائيل عن انشقاقات على مستوى الحكومة، وأحيانًا على مستوى الشعب في مواجهتها، وهو ما لم يحدث.
الواجب لفهم الحالة الراهنة وفهم سلوك دولة إسرائيل في العموم، إعادة اعتبار للفهم التاريخي لإسرائيل لا كدولة طبيعية، بل باعتبارها مشروعًا استيطانيًا/إمبرياليًا تمتد جذوره إلى تحالفات تاريخية مع قوى رأسمالية غربية تعمل عبر أدواتها السياسية والاقتصادية لاحتواء المنطقة وحماية مصالح رأس المال العالمي. لذلك يتحول رهان التسوية معها إلى وهمٍ مُصممٍّ لإعادة إنتاج السيطرة. أما البنية الأيديولوجية التي صاغت مفهوم "الجماعة اليهودية" فقد حوّلت الهوية إلى أداة استعمارية تُستغل لتبرير الاستيطان والتوسع، وهنا تكمن خطورة قراءة الأحداث بمنظور الدولة الطبيعية.
حين نعيد الكرامة كمرتكز للحركة نفهم أن أي مشروع تحرري يجب أن يبدأ من استعادة حق الحياة العادلة
من هذا المنطلق يظهر أن جذور أزمة "حلّ الدولتين" لا تكمن في حدود الخرائط فحسب، بل في وظيفة هذا الحل الأيديولوجية بتحويل نضال الفلسطينيين من مشروع تحرري لشعب يسعى إلى تقرير مصيره في مواجهة هذه الأداة الإمبريالية إلى ملف ضمن قواعد لعبة دولية تحفظ مصالح الأطراف الكبرى. لا يقدّم حل الدولتين دولةً حقيقةً للفلسطينيين بقدر ما يفرز جيوبًا بلا سيادة تحت إدارة أشخاص ومؤسسات لا تمثل إرادة شعبية حرة، ليتحول في نهاية الأمر إلى أداة لإدماج الاحتلال في نظام شرعي جديد يكرّس تبعية الفلسطينيين.
هذه الوضعية لا تحقق أبدًا الحقوق الفلسطينية التي لخَّصها الظاهر عمر في رواية قناديل ملك الجليل ضمن ملحمة الملهاة الفلسطينية للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله "نحن لا نريد أكثر من أن نكون بشرًا. أما ما أحلم به، فهو أن تكونوا أبطالًا كلكم بعد هذا الحصار. فالبطولة في أن تبنوا بلادكم بأمان، وأن تزرعوا أشجاركم بأمان، وألَّا تخافوا على أطفالكم، لأنهم محاطون بالأمان. سيصبح كل رجل بطلًا حين يتجول في الطرقات كما شاء، دون أن يعترض طريقه أحد، أو ينال من كرامته أحد، أو يسرق قوت عياله أحد، أو يعبث بحياته أحد، أو يقيد حريته أحد".
هذا الحلم على بساطته شديد الراديكالية، لأنه يقيّم الحياة بمعايير الكرامة لا بخريطة أو حدود. حين نعيد الكرامة مرتكزًا للحركة، نفهم أن أي مشروع تحرري يجب أن يبدأ من استعادة حق الحياة العادلة. هذا الإدراك يجعل من حلم الظاهر عمر معيارًا لقياس أي مبادرة: هل نعيد الكرامة أم نقنن الخضوع؟
المقارنة مع تجارب التحرر الأخرى، خصوصًا جنوب إفريقيا، مفيدةٌ لكن محدودة. فرغم التشابه في آليات الفصل والإقصاء وفي منطق الفصل العنصري الذي تجلَّى في جدران وعادات وإجراءات تُجرِّد الناس من حقوقهم الأساسية؛ تظل هناك اختلافات كبيرة في ظروف تشكيل الضغط الدولي وظهور حركة عالمية للمقاطعة والدعم. بناء الجدار العازل وتقطيع الضفة إلى كانتونات يقابل عمق الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لكن بصورة أكثر تعقيدًا، لِما يُحيط به من حسابات إقليمية ودولية تُنفق على استمرار هذا الواقع.
هناك أفق ثالث
لكن الدرس المستفاد أن النصر لم يأتِ من قانونٍ وحده بل من تراكم مقاومة شعبية عالمية منسّقة أوجدت شروطًا سياسيةً لإلغاء المشروع العنصري. في فلسطين، إلى اليوم، تتحول شعارات المجتمع الدولي كثيرًا إلى غطاء يشرعن استمرار الهيمنة بدل أن يكون قوة ضغط فعالة.
لذلك، المطلوب أن نخرج من ثنائية الدولة/دولتين إلى أفق ثالث يضع معيارًا جديدًا: تفكيك الاستعمار كوصف لطبيعة العلاقة بين الأرض والسلطة والاقتصاد، وبناء مشروع تحرري عربي/فلسطيني يقوم على مبادئ المواطنة الفعلية والديمقراطية العلمانية، ليصبح بقاء المستوطنين مرتبطًا بقبولهم الشروط الجوهرية للمواطنة، ولا يكون استمرار أي جماعة على الأرض مشروطًا باستمرار ظلم جماعة أخرى. في هذا التصور، تُعاد صياغة المسألة اليهودية لا كتهديد وجودي بل عنصر اجتماعي يمكن دمجه عبر سياسات تحررية تؤمن بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، بدل استخدامها ذريعةً للهيمنة.
لن يتحقق هذا الأفق بالبعد النظري وحده، بل عبر مزيج من فعل مقاوم متواصل وبناء شعبي داخلي وإعادة تشكيل للخطاب السياسي. لذلك من الضروري أن نقرأ الانتصارات الصغيرة كاستراتيجية تراكمية. لم يولد التحول من فراغ؛ الانتفاضة الأولى في 1987 أعادت الشارع إلى قلب الصراع، والانتفاضة الثانية أكدت أن أي مشروع سلام بدون عدالة سيولّد انفجارًا. أما لحظة السابع من أكتوبر، فبرهنت على قدرة الفعل الفلسطيني في إعادة خلط الأوراق على الساحة الدولية. لا تكمن القوة الحقيقية فقط في السلاح أو الأرض، لكن أيضًا في قدرة الفعل على تحويل الوعي الدولي وتفجير خطاب الهيمنة. وتحويل هذه اللحظات المؤقتة إلى بنية قابلة للاستمرار يتطلب أدوات سياسية وثقافية واقتصادية تترافق مع استراتيجية ضغط شعبي متواصل.
ومن دون إغفال، لا بد من ربط المشروع الفلسطيني بقضايا العصر الكبرى. فمثلًا وضع إسرائيل باعتبارها تجسيدًا مكثفًا للرأسمالية الاستخراجية التي تحوّل الأرض والإنسان إلى موارد قابلة للاستغلال في مواجهة حركات مناهضة الاستخراج ومناضلي المناخ سيطرح فلسطين نموذجًا متقدمًا لما يحدث في أنحاء أخرى من العالم، من شركات تستولي على الأرض، موارد تُنهب، وبيئات تُدمر لصالح تراكم رأسمالي ضيق. وضع فلسطين في ساحة نضال عالمية أوسع سيخلق قواسم مقاومة ممتدة لمشروع كوكبي يرفض منطق السوق الاستغلالي، بدلًا من أن يقتصر العمل على حدود جغرافية محددة.
ما إذًا هي مفاتيح الفعل؟ أولًا، إعادة تعريف الصراع كقضية تحرر إنساني شامل لا مشكلة حدودية فنية، وثانيًا رفض أفق التسوية الثنائية الذي يُعيد إنتاج الهيمنة عبر بانتوستانات بدون سيادة، وثالثًا، الاعتراف بأن إسرائيل في شكلها الحالي ليست شريكًا تفاوضيًا إنها مشروع إمبريالي يجب التعامل معه باعتباره عقبة في منطق تحرري أوسع.
أما رابعًا، فتحويل الانتصارات الصغيرة إلى مخطط تراكم معرفي وسياسي من خلال بناء حركات شعبية مؤثرة داخل وخارج الحدود. وخامسًا، ربط فلسطين بالمعارك العادلة عالميًا، من مناهضة العنصرية إلى مواجهة النهج الاستخراجي للرأسمالية، وبناء تحالفات استراتيجية مع حركات العمال والبيئة وحقوق الإنسان.
أخيرًا، علينا أن نعيد صياغة الذاكرة الوطنية بحيث تُنتَج سياسة مبنية على حرية الفرد وكرامة الجماعة، لا على تقسيمات طائفية أو قيمية تُبرر استمرار الاضطهاد. الأسبوع المقبل، سنحاول استخدام هذه المفاتيح في المشهد الدولي الجديد، لتُترجم اللحظات إلى سياسات، ويَبني التضامن العالمي آلات ضغط فعالة، ليُحوَّل الجيل الجديد ذاكرته إلى فعل.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
