تصميم: يوسف أيمن - المنصة

رباعية مسيو هولو: قسوة التضاد بخفة جاك تاتي

منشور الأربعاء 2 فبراير 2022

 

على مدار ثلاثة عقود، أخرج الفرنسي جاك تاتي ستة أفلام طويلة، وهي سيرة قصيرة عندما تقارن بحجم مساهمته السينمائية وتأثيره على غيره من المخرجين. فالمخرج ذو الأصول الروسية فرض أسلوبًا شديد الخصوصية، تناوله بالتحديد في أربعة أفلام تربطها شخصية السيد هولو الذي لعبها بنفسه، إلى أن صار لذلك الأسلوب استحضارات متباينة في أفلام مخرجين مثل بليك إدواردز، مخرج سلسلة الفهد القرمزي، وإيليا سليمان، مخرج يد إلهية.

بعد الانتهاء من دراسته للهندسة والعمارة بأكاديمية سانت جيرمان العسكرية، امتهن تاتي الرياضة باحتراف؛ فمارس الملاكمة والتنس ثم التزم كرة الرجبي، بينما ظهرت موهبته الفنية بشكل موازٍ أثناء الدراسة وصاحبته في مشواره الرياضي، فقام بتقليد الرياضيين المعاصرين عبر فن البانتومايم، وشجعه تكريمه من إحدى الجهات المنظمة للأنشطة الفنية في ناديه الرياضي أن يسلك طريق الفن.

وبدءًا من عام 1931، طاف مسارح باريس، وأحيانًا السيرك، مقدمًا بعض فقرات الكوميديا الحركية، التي حول بعضها لأفلام قصيرة، إلى أن توقف كل شئ مع الاحتلال النازي وخدمة تاتي العسكرية في قرية فيجون وسط فرنسا، التي وعد أهلها أثناء المقاومة بتصوير فيلمه بها. بعد انتهاء الحرب، ظهر بدور شبح في فيلم سيلفي الشبح لصديقه كلود أوتان لارا، ثم قدم فيلمه الأول يوم الاحتفال في 1949، الذي كانت له أصداء مبشرة نتج عنها عرض بإنتاج جزء ثانٍ، لكن تاتي اعتذر حتى يقدم لنا أول فيلم في رباعيته؛ عطلة مسيو هولو.

عطلة مسيو هولو هو إجازة صيفية على الشاطئ، تبدأ في محطة القطار بعد أن استقله المصيفين وتنتهي برحيلهم من المنتجع، وأثناء الإجازة نتابع الشخصيات المختلفة ومن ضمنهم المسيو هولو خلال أنشطة السفر المتعددة، التي يغلب عليها المرح، وقد تخللتها دومًا مفارقات تؤدي لنتائج مفاجئة.

في رائعته اللاحقة، خالي، نتابع الروتين اليومي للمدينة، النشاط الصباحي المحدود بالأحياء، حركة المرور المنتظمة والطريق للعمل والمدرسة إلى آخر النهار ووصولا لعطلة نهاية الأسبوع. نشارك مسيو هولو تلك المحطات هو وشخصيات تلك الأماكن، وعلاقة الأحياء القديمة والجديدة، من خلال لقاءاته بأخته، وزوجها الذي يجمعهما مكان العمل، وابنهما.

أما في وقت اللعب، فيصل السيد هولو إلى باريس في زيارة عمل تستغرق 24 ساعة يدور خلالها الفيلم، يحاول مقابلة مسؤول وسط صعوبات يقع أغلبها على المكان، بالتوازي مع وصول سائحين لنفس التجمع السكني التجاري، وتجمعهم سهرة بمطعم جديد قبل صباح نهاية الأسبوع ورحيل الجميع.

أما حركة المرور المتمم للرباعية فيعتبر فيلم طريق؛ يسجل رحلة عاملين بمصنع سيارات بينهم المهندس المصمم، مسيو هولو، من باريس إلى أمستردام، لعرض آخر إنتاجهم في معرض مهول للسيارات، لكن مفاجآت الطريق تبقيهم عليه ثلاثة أيام بدلًا من ساعات معدودة.

في حواره مع بي بي سي عام 1964 وصف ألفريد هيتشكوك حرفته باعتبارها خلقًا للرعب من خلال تجميع قطع الفيلم، وهو ما أطلق عليه السينما الخالصة، وأضاف أن العيب الوحيد في السينما الصامتة كان تحرك أفواه الممثلين دون سماع ما يقولون، وأن ما نود للسينما أن تفعله الآن هي أن تحكي من خلال الصور والإبقاء على حوار الممثلين كجزء من المناخ العام للفيلم.

ومع الأخذ في الاعتبار تجربة هيتشكوك الفريدة ونوع أفلامه، سنرى أن استراتيجيته اتفقت حرفيًا مع ما قدمه تاتي في الكوميديا. فأسلوب الأخير أقرب لعمالقة السينما الصامتة أمثال شابلن وكيتون، لكنه توسع في استخدام الصوت وأثره السينمائي، وأقامه، أي الصوت، على سردية أقل ألفة من السابقين.

أكثر سردية مألوفة للمتلقي هي القصة ذات الشخصية الرئيسية التي تحاول تحقيق هدف محدد أمام صعوبات داخل هيكل من ثلاثة فصول عامة، لكن تاتي اكتفى بإطار زمني لأفلامه كما قدمنا، مثل الإجازة في عطلة مسيو هولو أو الروتين الأسبوعي في خالي. يبدأ بالبرنامج اليومي والنشاط الصباحي المحدود داخل الأحياء القديمة، عامل نظافة وكلاب ضالة تتحرك بحرية عشوائية مستمتعة بخلو المكان لها، ثم الطرق وحركة المرور، وتوصيل الأهالي أطفالهم للمدرسة، وصولًا لبداية يوم العمل.

ننتقل من محطة لأخرى خلال اليوم ونكتشف عبر المواقف انطباع كل طرف عنها. كما لم يكن السيد هولو هو الشخصية الرئيسية في الأفلام، بل واحدًا ضمن عدة شخصيات أساسية، تتداول الظهور وتتبادل محطات الاهتمام طبقًا لسياق المواقف. تبني تلك المواقف مشاهد وتتابعات وبالتالي إيقاعًا للفيلم يغني عن تطور مترابط للأحداث دراميًا. يقدم تاتي كوميديته بالمفارقات؛ أهداف بسيطة للشخصيات تعترضها مفاجآت يتم التفاعل معها حركيًا إلى أن تقودها لنتيجة غير متوقعة، وكل موقف بمفارقاته يرسم ملمحًا من الشخصيات الحاضرة يكفي لدفع الإيقاع للأمام.

على سبيل المثال، باستثناء هيئة السيد هولو التي يميزها طوله وغليونه ومعطفه، كشخصية تشكلها محاولاته المستمرة لمساعدة الآخرين، التي عادة ما تأتي بما لا يشتهون.

في عطلة مسيو هولو، نرى طريق هولو وعرًا، إذ يقود سيارة بحالة مزرية تعاني من غبار الطريق الذي دفعته السيارات الفارهة، وعند وصوله المنتجع يقابل كلبًا مستلقيًا بمنتصف الطريق يفسح الطريق لمن سبقوه لكنه لا ينتبه لوصول سيارة هولو ويتركه منتظرًا كمن يجد صعوبة للتعامل بجدية مع هذه السيارة، ثم يفسح الطريق بعد محايلة.

وفي موضع آخر يقف فجأة لسيدة تصطحب كلبها في جولة لتعبر الطريق، لكن حافلة قادمة من جانبها تطاردها هي وكلبها عدة أمتار للأمام. وشخصية نادل الفندق، الذي يتابع طلبات الحضور وتنظيم يومهم، نراه يحاول الإسراع في تلبية رغبات زبائنه ومساعدةَ مساعدِه في حمل الطعام وسط دخول وخروج نزلاء عبر باب متأرجح، وهما يتفاديا الاصطدام بهما وسط صرير الباب الذي يضاعف التوتر. وفي موقف ثالث يراقب حركةً غريبةً بالقرب من معلق للمعاطف بينما يتسلل السيد هولو ونرى آثر قدمه المتسخة على أرض المدخل والسلالم لتفشل محاولة النادل في الحفاظ على نظافة الفندق وتفادي المجهود المكرر.

 

يقف مسيو هولو فجأة لسيدة تصطحب كلبها في جولة لتعبر الطريق، لكن حافلة قادمة من جانبها تطاردها هي وكلبها عدة أمتار للأمام.

استبدل تاتي الفكرة الرئيسية وما يمثلها بالشخصية الأساسية، وصار ما نستنتجه من المشاهدة هو ما يتطور بصحبة الإيقاع السينمائي. هناك هم مشترك في رباعية تاتي، وهو التراث في مواجهة جفاء التكنولوجيا والاستهلاك وتنميط الحياة بنواحيها، فبين الموضوعي والشخصي، المادي والمعنوي، الكمي والكيفي، يشق تاتي طريقه ويخلق مفارقات وليدة تلك الازدواجية، ويلمح أحيانًا لفكرة الفيلم القادم بنهاية شريطه الحالي كيفما يوحي استعراض السيارات في نهاية وقت اللعب بحركة المرور.

تقف الهيكلة والشروط الاجتماعية بين المصيفين واستمتاعهم بالمصيف في عطلة مسيو هولو. عندما نصل للمنتجع، نرى الشاطئ بأعين طفلين إلى جوار النافذة في سيارة والدهما بعدما أفسح ستار التضاريس الطريق عن البحر في المدى. ذلك الشوق الذي شعرنا كلنا به لم ينتبه له البالغون وشتت انتباههم نقل أمتعتهم ووصول حافلات أخرى فوجدوا صعوبة في الالتفات لرؤية الشاطئ لحظة الوصول.

 

يراقب النادل حركةً غريبةً بالقرب من معلق للمعاطف بينما يتسلل السيد هولو ونرى آثر قدمه المتسخة على أرض المدخل والسلالم.

صاحب ذلك التضاد بين القديم والجديد، النظام والفوضى، الجدية والمرح، صارت مبالغته مصدر كوميديته ووقود العرض، حتى أصبح النظام مصدرًا للفوضى في وقت اللعب، وطمست المباني معالم مدنها، واكتسبت الدور الرئيسي في حين توزعت سلطة باقي الشخصيات في تحمل المسؤولية عند كل مفارقة بدون نجومية. نتعرف على المدينة فقط عندما نرى انعكاس معلم مثل برج إيفل أو قوس النصر في زجاج إحدى أبواب البنايات، ورغم الترتيب المتطابق للوحدات المكتبية، ملاحقة السيد هولو للموظف المطلوب أقرب للمطاردة في متاهة، يتم الإندماج بين الفكرة وطرحها الساخر في حركة المرور، فالتحدي الأساسي في الرحلة إلى أمستردام يقع على كاهل الإنسان البسيط في التواصل ومحاولة إصلاح ما يقابله من أعطال بيده. المصنع الحديث وخط الإنتاج المبتكر وخلفهما المهندس المجتهد، أزاحوا عنا الكثير من الطاقة والمجهود، لكننا نعجز عند كل عطل، والنتيجة اللاحقة لذلك هي مقابر هائلة للسيارات القديمة.

أدار تاتي أدواته على نحو دقيق ووظف تناغم بين الصوت والصورة محققًا رؤيته على مستوى المحتوى والمضمون، وفارضًا طابعه الخاص وعلاماته الإخراجية. لعبت الموسيقى دورًا في إيقاعه وسرده، باختياره تيمة انسيابية تشبه الألحان العالمية الرائجة كتلك التي كان يذيعها البرنامج الموسيقي في محطاتنا، على الرغم من قصرها، إذ استخدم بضع تنويعات منها بسرعات مختلفة حسب المناخ، ومكررة كأنها إعادة لفصول أو رابط بين فصول مختلفة، بدايات أو نهايات أو ذروات متشابهة.

قاطع تاتي أحيانًا لحظات الاسترخاء مقطوعة جاز أزعجت الجميع ووجهتهم لمصدرها في عطلة مسيو هولو واستحضرها في نهاية خالي لتصاحب حالة الفوضى عند المطار قبل سفر هولو لرحلة العمل. أما في تتابع افتتاح المطعم وتدفق الزوار حتى مغادرة الجميع صباحًا في وقت اللعب، فتواكب الفرقة الموسيقية تطور المناخ حتى الصخب لمدة 45 دقيقة، قبل أن ينسحب الحوار للخلفية ويأخذ شكل الضوضاء بينما ما نستطيع تمييزه لم يضف شيئًا للحدث. وفي أحيان أخرى، يعزلنا تاتي عن الحوار الدائر بحاجز مثل تصويره لما يدور من خلف حائط أو باب زجاجي.

على جانب آخر كان للمؤثرات الصوتية دور في بناء عقدة المشاهد ومنحنى إيقاعها. يفتتح تاتي عطلة مسيو هولو بمحطة القطار، يتوافد المسافرون ويزداد ضجيجهم، يتصاعد وسط صوت الميكروفون الذي لا يمكن تمييز محتواه، يصل القطار، نراه ونسمعه، تبدأ الفوضى في تسكين نفسها بداخله وسط حوارات نسمع صخبها لا تفاصيلها، لنصل لنقطة نظام ننطلق منها في رحلتنا. يقوم مطعم الفندق بدور تنظيم الفوضى عندما يعلن الجرس موعد الطعام لينهي تتابعًا خارجه أو يهيئنا لتتابع داخله تلعب فيه أصوات الملاعق والأطباق وصرير الباب دور فرقة المطعم في وقت اللعب حتى تمتلئ القاعة وتبدأ فقرة تناول الطعام. فيه مشهد فردي لتاتي في خالي، يصارع النوم بينما أدى عطل بماكينة جانبه إلى خروج خرطوم وتنفس الهواء بداخله بشكل منتظم لخلق إيقاع يحفز المشاهد لما سيؤول إليه الموقف.

عالج تاتي أفلامه بصريًا بأسلوب رسخ لإخراج الحركة داخل الإطار المصور على حساب تكوين جمل سينمائية من عدة لقطات. بداية من عطلة مسيو هولو، اعتمد على لقطات كاملة معظم الوقت، اقتربت الأحجام في أوقات نادرة مثل اللقطات المتبادلة بين هولو وعربة بائع الآيس كريم المتجول، ومتابعة الأول لحركة سقوط الآيس كريم المطاطي المعلق وقربه من السقوط ليلحقه البائع ويعيد تمركزه على قمة المعلاق. تنتهي تلك المشاكسة البصرية في مشهد لاحق تُتْرَك فيه العربة وحيدة فيلحق هولو الآيس كريم قبل سقوطه بنفسه أخيرًا.

 

وفي أحيان أخرى، يعزلنا تاتي عن الحوار الدائر بحاجز مثل تصويره لما يدور من خلف حائط أو باب زجاجي.

استخدم نفس الأسلوب لإبراز المفارقة في خالي عندما تبادل لقطات بين أصحاب البيت الفخم والزائرين، مكبس الباب الكهربائي يفتح نافورة على شكل سمكة تقف رأسيا كلما حاول أحدهم فتح الباب انطلقت المياه من فم السمكة وسط تبادل اللقطات بين من ينتظر خلف الباب ومن يحاول فتحه في لقطات بعيدة تظهر الاثنين.

ترتكز تلك المدرسة على علم النفس الجشتالتي، حيث يستقبل الإنسان الكل بدلًا عن أجزائه. نحن نرى السيارة ولا نرى مجموعة من العجلات والزجاج والأضواء، نميل لتكون صور كاملة متوقعة. الجشتالتية لها تأثير واضح على أي تصميم، ومن ضمن التصميمات ذلك الخاص بالإطار السينمائي والحركة بداخله، ومراعاة الأنماط سواء بتحقيقها أو بانتقاصها عن وعي يسلط تركيز بصري للمشاهد.

العلاقة بين الشيء وخلفيته على سبيل المثال، نرى ابن أخت هولو في خالي وسط أصدقائه في المقدمة فوق تلٍّ يشاكسون المارة بصفير يجذب الانتباه، ونتابع المشتت في الخلفية وهو يسير نحو عامود ملتفتًا حوله ليصطدم به. يتلاعب تاتي بأنواع مختلفة من السيمترية لاحقًا لتأكيد شعور أو خلق ديناميكية تثير الفضول وتواكب تصميمه للحركة بالمشاهد.

السيمترية الخالصة في مشهد المقابلة الرسمية في خالي للتعبير عن الرسمية والجدية المفرطة بين هولو والموظفة داخل إطار واحد. الأنماط المكررة في وقت اللعب وألوان بين الرماديات ودرجات الأزرق لفرض طابع جاف غالب يعكس الميكانيكية الظاهرة للمدينة وأهلها، وحركتهم الهندسية المنتظمة. التوازن بين الكتل والفراغ في مشهد انتظار هولو للموظف في الاستقبال، يجلس يسار الشاشة في انتظار الموظف القادم من آخر ممر طولي في الأفق بخطوات ذات صدى ظاهر، وفي انتظاره يحاول هولو الوقوف استعدادًا عدة مرات ويجلسه موظف الاستقبال لعدم وصول المنتظر بعد حتى يصل. ومع اقتراب النهاية، تبدأ الجماهير من التمرد على الخطوط المستقيمة وتتحرك بحرية أكثر، في توازن عقربي يصور به السيارات تدور في ميدان أكثر تلونًا ويحاكي دور الملاهي.

 

تبدأ الجماهير من التمرد على الخطوط المستقيمة وتتحرك بحرية أكثر، في توازن عقربي يصور به السيارات تدور في ميدان أكثر تلونًا ويحاكي دور الملاهي.

وفي حركة المرور، نختار الحرية مرة أخرى ويتراجع هولو عن جموع المترو ويفضل السير برفقة الشابة مشاركًا مظلته معها تحت الأمطار، وسط جمع هائل من السيارات يتحرك بينهما بعشوائية سيمترية كريستالية تخلق نمطًا بالتكرار وحركة نشيطة بإيقاع مناسب لخاتمة.

 

يتراجع هولو عن جموع المترو ويفضل السير برفقة الشابة مشاركًا مظلته معها تحت الأمطار، وسط جمع هائل من السيارات يتحرك بينهما بعشوائية سيمترية.

تحايل تاتي أحيانًا على السيمترية وخلق نمطًا بالأفعال، مثال حركة السائقين في الإشارات، واللقطات المتفرقة لكل منهم يفعل نفس الشيء وكأنه عدوى مثل التثاؤب، أو الإشارة للاستهالك ودوره في تنميطنا عندما تتشابه السيارات بمحتواها من التماثيل الجيرية الموزعة كهدايا في محطات البنزين. حتى في فوضى الحوادث، عند اصطدام عدد من السيارات ببعضه على الطريق واندفاع كل منهم باتجاه ونتيجة مختلفة، يطوف بهم مسيو هولو للإطمئنان بحركات له ولهم أشبه بالبانتومايم يجمعها الموقف والظرف.  

هناك في رأيي نوعان من صناع الأفلام، نوع يحاول جاهدًا تصوير العالم بصدق كما يراه، ونوع يخلق هذا العالم بشروطه. ينتمي تاتي للنوع الأخير، ويشاركه ذلك الانتماء لويس بونويل وفلليني وأوزو وآخرون. مخرجون تستطيع التعرف على عالمهم من أصغر تفصيلة، وتكفيك دقيقتين من المشاهدة لتحديد صانعها. في حالة تاتي، تجاوز عالمه الحدود والثقافات، أماكن بالكاد معرفة وشخصيات بدون أسماء ومناخ مألوف وغريب في نفس الوقت.

نشاهد عالم تاتي وندرك أننا جزء منه، ثم نبدأ في التساؤل حول مدى جديتنا الظاهرة، ونضحك. هذا العالم كان في بناء فني ومعماري في وقت اللعب. كانت تكلفة الديكور الباهظة وإصرار تاتي على عرض الفيلم في صالات المعدة لعرض الـ 70 مم وصوت الاستيريو من أسباب فشل الفيلم في تحقيق أرباح وإلقاء حمل الديون على تاتي لعدة سنوات. على الرغم من عروض هوليود السخية لإنتاج سلسلة حلقات مدة الواحدة 15 دقيقة لشخصية هولو بعد نجاح خالي، رفض تاتي تلك العروض، وفسّر ذلك في حوار مع نيويورك تايمز عام 1982 قائلًا إن بإمكانه إسعاد كثير من المنتجين وتحقيق الثروات، لكن مقابل عجزه عن عمل ما يحب؛ وهو العمل بحرية.