
حكايات عن المجانية وبيتنا القديم
أعادت تعديلات قانون الإيجار القديم التي نسفت أوضاعًا استقرت عقودًا إلى ذاكرتي أحاديث الكبار في زمن طفولتي. كنت أسكن عمارة قديمة تخضع لأحكام هذا القانون تعاني من التقادم وغياب الصيانة، وكان مُلاكها يكررون دائمًا أن الإيجار القديم هو السبب؛ لو كان المستأجرون يدفعون إيجارًا حقيقيًا، ويتلقى المالك ريعًا يعبر عن قيمة الأصل الذي يملكه لحافظ الطرفان على المبنى.
كأنهم يتبنون نظرية الاختيار الرشيد التي تعد ركيزةً أساسيةً للفكر الليبرالي، مع مزيج من الحنين لعهد الملك فاروق، الذي يبدو في حديثهم عن بواب العمارة القديم صاحب الجلباب ناصع البياض والنظافة والنظام قبل يوليو/تموز 1952 التي جلبت لعنة "المجانية".
المفارقة أن العمارة بِيعت في وقتٍ لاحقٍ، واستطاع المالك الجديد إقناع عدد لا بأس به من السكان بالخروج من شققهم مقابل "خلو رجل"، مع ذلك بقي المبنى على حاله محتفظًا بمشكلاته القديمة. الفارق الأساسي أن السكان الجدد يدفعون أكثر، والأهم أن الإيجار الجديد صار يزاحم احتياجات أساسية للأسر من الغذاء إلى التعليم إلى آخره.
هل يمكن القول إن حال هذه العمارة يشبه حال مصر؟ لا أستطيع مقاومة غواية الإسقاط السطحي المباشر فلست أفضل من صلاح أبو سيف في القضية 68 أو وحيد حامد في عمارة يعقوبيان.
إذا كنتَ مندهشًا من تتابع تشريعات مثل إلغاء الإيجار القديم وخصخصة مياه الشرب والتعليم الحكومي المتميز البكالوريا، فإن كل هذه الأحداث يربطها تصورٌ واحدٌ عن ضرورة إلغاء المجانية، وهو تصور نظري روّجت له مؤسسات التمويل الدولية، لكنه ينطوي على الكثير من التناقضات.
عودة تسليع المجتمع
إعادة التسليع/Re-commodification واحد من أكثر الاصطلاحات رواجًا في أوساط علماء الاجتماع والاقتصاد السياسي خلال العقود الأخيرة. لكي تقيس حجم "التسليع" في حياتك الخاصة يمكن أن تسأل نفسك ما عدد ساعات العمل التي يجب أن أعملها في مقابل السلع والخدمات التي أحصل عليها؟
على سبيل المثال حتى ثمانينيات القرن الماضي كان جيل آبائنا يحصلون على زيت وسكر وأرز ببطاقة التموين التي كانت متاحة للجميع بغض النظر عن مستوى دخلهم، وتقدر ماري فانتزل أن صاحب هذه البطاقة كان يحصل على نحو ثمانية كيلوات من هذه السلع مقابل 63 قرشًا.
المواطن مضطر للعمل أكثر من أجل كسب المال الكافي لشراء الغذاء
هذا الانخفاض الشديد في الأسعار يشير إلى أن الحكومة كانت تتدخل كوسيط يحمي المواطن من السوق، في المقابل تتجسد "إعادة التسليع" في وضع عقبات أمام التسجيل بنظام التموين، أو ارتفاع تكلفة شراء السلع على البطاقة لدرجة تجعلها قريبة من سعر السوق، ما يجعل المواطن مضطرًا للعمل أكثر من أجل كسب المال الكافي لشراء الغذاء.
في هذا السياق تأتينا دراسات عديدة من العالم المتقدم والنامي على السواء، تحذر من موجة التسليع العنيفة التي جرت خلال العقود الأخيرة، مثل تسليع خدمات الصحة العامة على سبيل المثال، أو تسليع العمال أنفسهم، بمعنى جعل شروط الحصول على الامتيازات الاجتماعية، مثل إعانة البطالة والتأمين الاجتماعي والتأمين الصحي، أكثر تشددًا.
ويرى البعض أن الدولة تنسحب من دورها في حماية المواطن من السوق، وتركت هذا الدور للقطاع المالي، فبدلًا من الدعم صار الملايين من البسطاء يلجأون للأقساط والقروض الاستهلاكية. حتى سياسات الحماية المحدودة أصبح هدفها تحسين حياة الفقراء بعض الشيء حتى يصبحوا قادرين على الاقتراض.
الموجة الثانية من التسليع
يمكن القول إن عملية التسليع في مصر جرت على قدم وساق خلال السنوات الأخيرة، بدءًا من موجة تحرير الدعم التمويني والرفع التدريجي لأسعار الوقود والكهرباء في 2014، ثم إصدار قانون الكهرباء في 2015 الذي أعطى مهلة خمس سنوات للسماح للقطاع الخاص بالدخول منتجًا للطاقة، وقانون التأمينات الاجتماعية في 2019 الذي رفع سن التقاعد ومنح امتيازات على أساس حجم ما يدخره العامل وليس باعتباره استحقاقًا اجتماعيًّا.
هدأت موجة التسليع في 2020 على الأرجح بسبب صدمة وباء كوفيد، بل ومالت الدولة بعض الشيء لتقديم امتيازات جديدة تمثلت في بدل البطالة الذي منحته لعدة أشهر للعمالة غير المنتظمة، ثم عادت الموجة على أشدها في آخر عامين مع إصدار قانون يمنح القطاع الخاص الحق في منافسة شركة المياه العامة وآخر يخصخص مستشفيات حكومية وثالث ينهي آخر أشكال الحماية على إيجارات المساكن القديمة.
ناهيك عن سياسات التسليع التي كانت تجري بالتدريج خلال العقد الأخير مثل تحويل وزارة الشباب والرياضة مراكز شباب إلى نوادٍ باشتراكات مرتفعة، أو ترك المساحات الخضراء المفتوحة لمطاعم القطاع الخاص، أو الزيادات المفاجئة في العديد من الرسوم الحكومية والسماح بزيادة أسعار الأدوية وغيرها.
باختصار، صار على أرباب الأسر جني عشرات الآلاف من الجنيهات لتفادي السقوط تحت حاجز الطبقة الوسطى، لكن المشكلة في مصر ومثلها العديد من البلدان النامية هي أنك لن تجد عملًا بسهولة.
المطلوب في بيئة شديدة التسليع ليس فقط العمل لكن العمل بأجر جيد
ربما يرى البعض أن العمل موجودٌ بدليل انخفاض معدلات البطالة، وبدون النقاش حول منهجية حساب هذا المؤشر، فالمطلوب في بيئة شديدة التسليع ليس فقط عملًا ولكن عمل بأجر جيد، لأن الوسيط السائد في مجتمع التسليع هو النقود وكل شيء فيه بالسعر الحر، ومثل هذه الوظائف صعب توفيرها في مصر التي يمثل فيها العمل غير الرسمي مصدرًا رئيسيًا للتوظيف، أي أن صاحب العمل متحرر تمامًا من الالتزام بأي قوانين تحمي العامل.
حتى في بعض حالات العمل الرسمي، وفي وجود نقابات قوية، نرى نقابة الصحفيين على سبيل المثال لا تزال عاجزة عن إلزام العديد من الصحف بتطبيق الحد الأدنى للأجور، وتعتمد على دعم معمم تحصل عليه بشكل استثنائي من الدولة بدل الصحفيين.
لا تقتصر المشكلة على العمل، ففي اقتصاد لا يمكنك أن تحصل فيه على حقوقك بدون نقود يمثل فقدان النقود لقيمتها صدمة كبيرة، وهو ما تعرضنا له خلال موجات تعويم 2022-2024، وسنظل معرضين له لأن نسبة مساهمة الأجانب في سوق الدين المحلي والبالغة نحو 42% تعد ضمن الأعلى على مستوى الأسواق الناشئة، وهو ما يجعل سعر الصرف شديد الحساسية لخروج هؤلاء جراء أي متغيرات عالمية أو إقليمية أو محلية.
لماذا يكرهون المجانية؟
كل هذا النقد للتسليع لا يعني أن مجتمع نفي التسليع/de-commodification يخلو من العيوب، ربما يكون فيلم عادل إمام رمضان فوق البركان، إنتاج سنة 1985، من أفضل الأعمال الفنية التي عبّرت عن تناقضات هذا النموذج، وعن سخط هذا الجيل الذي مهد لتقبلهم لخطاب الليبرالية الجديدة، ووعوده، وغوايته.
يشرح الفيلم، الذي يغلب عليه الطابع الهزلي، كيف تعجز الدولة المركزية عن مراقبة عشرات وربما المئات من الصفقات اليومية من المصريين للتحايل على المجانية، بدءًا من عامل الأسانسير في مجمع التحرير الذي يتحجج بتعطل المصعد ولا يشغله إلا للفئات المحظوظة، إلى صاحب الفرن الذي يعلن انتهاء بيع الخبز الرخيص قبل بداية اليوم ويجبر المواطنين على شراء "السياحي"، وصولًا إلى شركة المياه التابعة للدولة ذاتها، التي تتيح رسميًا خدمة توصيل المياه للمنازل، لكن عمليًا يشكو البطل من الانقطاع المستمر، لذلك يظهر عادل إمام على بوستر الفيلم وهو يحمل "صفيحة" ويبحث عن مصدر مياه بديل.
https://www.youtube.com/watch?v=GusamVP5A0U&t=1889sحُصرت المجانية القديمة بين مشكلات قلة الموارد المالية الكافية لأداء الدولة دورها في دعم المنتجات، وبين مقاومة السوق السوداء للتسعيرة الجبرية، ولا تزال هذه المشكلات مستمرةً معنا، لذا عندما سألتُ خبير العمران، يحيى شوكت، في سلسلة أسئلة صعبة ماذا لو عدنا لفرض الإيجار القديم الآن؟ أجاب بلهجة قاطعة: في ظل ندرة الشقق المعروضة للإيجار سيقاوم المتعاملون في العقارات هذه السياسة عبر فرض خلو الرجل.
لكن من جهة أخرى لا يخلو نظام التسليع من عيوب فجة، خصوصًا وأنه لا يكتفي بتقليص دور الدولة الاجتماعي، لكن يعمل بدأب على تحويل الحماية الاجتماعية للشكل النقدي؛ يرفع شعار امنح المحتاجين أموالًا واتركهم يشترون ما يريدون في بيئة تفقد فيها الأموال قيمتها كل يوم ولا توفر التشريعات الحالية ضمانةً لربط المعاشات النقدية بالتضخم.
يبدو أننا اندفعنا إلى حد ما نحو الحل النيوليبرالي باستبدال الديون الصغيرة للمواطنين، فخلال السنوات الخمس الأخيرة نما بقوة نشاط التمويل غير البنكي، الذي يصل عدد عملائه حاليًا لأكثر من مليوني عميل، يقسطون كل شيء بدءًا من السيارة إلى مصاريف المدرسة، لكن هؤلاء يواجهون ضغوطًا قويةً في حالات ارتفاع أسعار الفائدة، وهناك ملايين غيرهم محرومون من الدخول في هذه المنظومة إذ لا تنطبق عليهم المعايير الائتمانية.
ربما تكون السياسات الحالية استنفذت قدرتها على المساعدة، هذا ليس استنتاجي وحدي، لكن المدهش أنني سمعته من هانيا الشلقامي في حوارها مع المنصة، وهي صاحبة اقتراح الدعم النقدي تكافل وكرامة الذي تبنته الحكومة فيما بعد، وتتباهى به الدولة باعتباره وسيلة كافية للحد من الفقر.
https://www.youtube.com/watch?v=sXAObOgZ9aw&t=3sتدعو الدكتورة هانيا لسياسات جديدة لا تعتمد على استهداف المحتاجين بشكل أساسي، لكن سياسات معممة تشبه المجانية القديمة، مثل تقديم منح لكل من يدرس في التعليم الحكومي، كما يدعو شوكت لسياسة تدعم فارق سعر الإيجار لسكان الإيجار القديم تحميهم من السوق العقارية.
باختصار، نحن في أشد الاحتياج للثورة على تصورات النيوليبرالية الجديدة التي تسيطر علينا منذ التسعينيات، والتي تدفعنا لجعل النقود وسيلة رئيسية للحصول على حقوق أساسية مثل الغذاء والسكن، خصوصًا وأنها تواجه انتقادات شديدة في الأوساط الغربية، فما بالنا بحال دول نامية يعاني فيها سوق العمل من تشوهات بالغة.
وفي الوقت نفسه، نحتاج لفتح حوار مجتمعي واسع حول كيفية العودة لسياسات المجانية القديمة، لكن بصيغة جديدة، ربما تكون أكثر ديمقراطيةً لتكون قادرة على مكافحة ممارسات السوق السوداء، وأكثر انحيازًا للجماهير لتدبِّرَ الموارد الكافية للدعم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
اقتصاد العمالة المؤقتة وابتلاع الملايين
9-7-2025

تحولات الفردانية والعنف| نماذج مضادة لأسطورة النجاة الفردية
5-7-2025

تحولات الفردانية والعنف| من سيلعب مع الخسران؟
28-6-2025

تحولات الفردانية والعنف| رأس المال لا يتسرب إلى جزر المهمشين
14-6-2025

تحولات الفردانية والعنف| التمييز في الصغر كالنقش على الحجر
31-5-2025

طوفان الأقصى الذي أفسد لأمريكا حديقتها الخلفية
5-4-2025
