تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
العالم ظلّ يرى الفلسطيني كما تُريه إيّاه المرايا المصنوعة في غرف السياسة والإعلام الغربي، لكنَّ جيلاً جديدًا كسر المرايا القديمة

الذاكرة الفلسطينية| تكسير المرايا القديمة

منشور الخميس 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

الشهر الماضي، كشف تحليل بيانات أجراه هاري إنتن في CNN عن تحول جذري غير مسبوق في المزاج العام الأمريكي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عمَّا كان عليه الأمر قبل عامين فقط، وحتى عشية هجوم السابع من أكتوبر 2023.

كانت إسرائيل تتقدّم في استطلاعات الرأي بفارق 48 نقطة. لكن اليوم، وللمرة الأولى منذ أربعة عقود، يتقدّم الفلسطينيون بفارق نقطة واحدة في الرأي العام الأمريكي. المسألة ليس مجرد تفصيل عابر وإنما تحوّل تاريخي في بنية التعاطف السياسي داخل الولايات المتحدة.

التغيُّر الجذري يظهر داخل الحزب الديمقراطي، الذي تحوَّل دعم إسرائيل داخل صفوفه بفارق 26 نقطة إلى دعم للفلسطينيين بفارق 46 نقطة، أي قفزة بـ72 نقطة. هذا يعني أن سردية الصراع التي كانت تمرّ عبر القنوات التقليدية، باتت تُصاغ على يد جيلٍ جديدٍ من الناخبين.

وحتى داخل الحزب الجمهوري، ورغم بقاء الأغلبية مع إسرائيل؛ اتسّعت الفجوة الجيلية بوضوح: مَن فوق الخمسين يدعمون إسرائيل بفارق 66 نقطة، مقابل فارق 25 نقطة لمن هم تحت الخمسين. يكشف ذلك عن شقٍّ داخل اليمين الأمريكي بين وعيٍ قديمٍ تحكمه سردية الحرب الباردة، ووعيٍ أحدث يتشكل في فضاء عالم السوشيال ميديا وحروب البثّ الحي.

التضامن الشبكي

هذا التبدل في المزاج الشعبي ينعكس أيضًا في موقفٍ عامٍّ يتجاوز الاصطفاف السياسي التقليدي؛ إذ يُظهر استطلاع رأي أجرته جامعة هارفارد الأمريكية بالتعاون مع مؤسسة هاريس، أن ما يقارب 60% من الشباب الأميركيين المنتمين إلى جيل z (مواليد منتصف التسعينيات حتى مطلع الألفية) يفضلون حركة حماس على إسرائيل بعد الإبادة في غزة، التي أصبحت الرغبة في إنهائها مطلب سياسي متقدم لا مجرد خطاب أخلاقي أو هامشي. إلا أن القراءة الأعمق لما يجري لا تتعلق بهذه الخطة أو بمضمونها، بل بكونها نتيجة ضغطٍ اجتماعي وسياسيٍّ جديد، تُعيد رسم حدود الخطاب الغربي كله وليس فقط الأمريكي تجاه فلسطين.

التغيير إذن يتجاوز ميزان التعاطف إلى بنية الرؤية نفسها: فلسطين تتحوّل من "ملف أمني إسرائيلي" إلى سؤال سياسي عالمي يُعاد تعريفه من داخل الرأي العام، لا من فوقه. وهو ما عبّر عنه إبراهيم نصر الله في شرفة الفردوس وهو يقول "وما نحن إلا أناسٌ لا مرايا لهم، رسَموا لنا صورنا فصدّقناها". فالعالم ظلّ يرى الفلسطيني كما تُريه إيّاه المرايا المصنوعة في غرف السياسة والإعلام الغربي، لكنَّ جيلاً جديدًا - أكثر اتصالًا وأكثر شكًّا في السرديات الرسمية - قرر أن يصنع مرآته بنفسه. لقد كُسرت المرايا القديمة، وصار السؤال: كيف نروي نحن قصتنا للعالم؟

حركة "يهود ضد الإبادة" نموذجٌ لجيلٍ يرى في الدفاع عن فلسطين دفاعًا عن العدالة لا عداءً للسامية

تبدو الجامعات الغربية اليوم مركز هذا التحوّل. فالموجة الطلابية التي اجتاحت جامعات الولايات المتحدة وأوروبا منذ خريف 2023 أعادت فلسطين إلى قلب السياسة الطلابية والأكاديمية، وربطت نضالها بالحركات المناهضة للعنصرية والعنف الشُرَطي، من Black Lives Matter/حياة السود مهمة، إلى حقوق الشعوب الأصلية.

جيلٌ وُلد في ظل البثّ المباشر للحروب، لا يخاف الصور كما خافها جيل الحرب الباردة. استخدم الشباب السوشيال ميديا لكسر الرقابة المؤسسية التي كانت تحتكر السرد. فبدلًا من روايةٍ رسميةٍ واحدة تُبث عبر القنوات الغربية، ظهرت آلاف الروايات على تيك توك وإنستجرام ويوتيوب، جعلت من المذابح اليومية مادة مرئية يصعب تجاهلها. هذه الموجة الرقمية لم تخلق تضامنًا عاطفيًا فحسب، بل أيضًا حراك معرفي جديد يرى فلسطين بوصفها مرآةً لظلمٍ عالميٍّ واحد.

الانتقال من التضامن الميداني إلى التضامن الشبكي مع سقوط الهيمنة التقليدية على السرد في الفضاء الرقمي كان توسيعًا للأدوات. الشباب الذين فقدوا القدرة على النزول إلى الشوارع في بلدانٍ تقمع الحراك وجدوا في الإنترنت ساحاتٍ جديدةً للمقاومة. مجرد رفع علم أو كتابة "نكبة" صار فعلًا سياسيًا، والإصرار على إبقاء فلسطين مرئية ومسموعة تحوّل إلى تحدٍّ يوميٍّ لرقابة المنصات. الإعلام المستقل والفضاءات البديلة أعادا صياغة القصة من الداخل، فصار الخطاب المركزي الغربي في موضع الدفاع لأول مرة منذ عقود.

وحتى داخل المجتمعات اليهودية نفسها، شهد العالم تحوّلًا لافتًا. فاليهود الذين ظلّوا طويلًا أسرى ابتزاز الخطاب الصهيوني انبثق من بينهم اليوم تيار تقدّمي واسع، لا يربط يهوديته كدينٍ وثقافةٍ إنسانيةٍ بالصهيونية كمشروعٍ استعماريٍّ عنصري. حركة "يهود ضد الإبادة" ليست استثناءً، فهي نموذج لجيلٍ يرى في الدفاع عن فلسطين دفاعًا عن العدالة، لا عداءً للسامية. هذا التحوّل ترافق مع عودة النقاش حول الجماعات اليهودية العربية التي طُمست سردياتها بفعل المشروع الصهيوني، ومعها فكرة إعادة إدماج اليهود الشرقيين في الرواية الفلسطينية كجزءٍ من مشروع تحرّر مشترك. هنا يصبح تفكيك الصهيونية من الداخل فعلًا ثقافيًا وسياسيًا في آنٍ واحد.

المقاومة الثقافية

طلاب في جامعة كولومبيا ينظمون اعتصامًا في ساحة الجامعة تضامنًا مع فلسطين، 23 أبريل 2024

يتوازى هذا التحول مع تمددٍ ثقافيٍّ عالميٍّ في ميادين الفن والرياضة، فالملاعب تحوّلت إلى فضاءات تضامنٍ صريحٍ مع فلسطين، رغم التهديدات والعقوبات، وأصبحت لافتات "الحرية لغزة" مشهدًا مألوفًا في ملاعب الكرة الأوروبية والأمريكية. وفي السينما والموسيقى والأدب، باتت الرموز الفلسطينية جزءًا من التعبير العالمي عن العدالة. أعمالٌ مثل أفلام آن ماري جاسر، وأغاني الشباب الفلسطيني في الشتات، ورواياتٍ ترجمت لعشرات اللغات، حملت السردية الفلسطينية إلى جماهير جديدة.

أصبحت الثقافة جبهة مقاومة بديلة حين حُوصرت السياسة الرسمية، وتحوّلت الكتابة والرسم والموسيقى إلى أدوات لتثبيت الذاكرة وإعادة تعريف الكرامة.

لكن هذا المشهد الثقافي لا يمكن فصله عن البعد الاقتصادي والسياسي الميداني للمقاطعة العالمية. حركة BDS اليوم واحدة من أقوى أدوات الضغط الشعبي على الحكومات والشركات الكبرى. وأصبح سحب الاستثمارات من إسرائيل أو وقف التعامل مع شركات تزوّد الاحتلال بالسلاح فعلًا سياسيًا ذا أثر حقيقي. وبلغ تأثير المقاطعة حدًّا دفع برلماناتٍ أوروبية إلى سنّ قوانين تمنع تمويل منظماتٍ تدعمها أو تُجرّم المقاطعة نفسها، في دلالةٍ على نجاحها في اختراق بنية القرار الغربي. ومع كل محاولةٍ لتجريمها، يزداد انتشارها في الجامعات والنقابات والمتاجر الإلكترونية، حتى باتت ساحة اشتباكٍ رمزيٍّ واقتصاديٍّ معًا.

ومع اتساع التضامن حضر القمع. فالأنظمة العربية واجهت الموجة الجديدة من الدعم الشعبي بحملات اعتقالٍ ومنعٍ متكرّرة: من احتجاز المتضامنين مع أسطول الحرية، إلى منع قوافل الإغاثة من العبور إلى غزة، إلى تضييقٍ أمنيٍّ على الفعاليات الطلابية في القاهرة وعمان وبيروت. بل إن التضامن ذاته أصبح في بعض الدول جريمةً يعاقب عليها القانون. في المقابل، تحوّل أسطول الصمود وأشباهه إلى رموزٍ للمثابرة المدنية العابرة للحدود، حيث يجتمع متطوعون من شتى الجنسيات في مواجهة جدارٍ من المنع والتخويف. 

وسط هذا الحراك يظلّ السؤال الأهم: كيف نحول كل هذا الزخم إلى وعيٍ قابلٍ للتأثير؟

لكنَّ هذا القمع بدل أن يخمد التضامن زاده عمقًا. فكلّما اشتدّت محاولات التجريم في الغرب، كلما ازداد حضور القضية في الجامعات والصحف والمسيرات. في الولايات المتحدة وألمانيا، مثلًا، أدّت ملاحقة المتظاهرين إلى رفع سقف المواجهة، وصارت صور الشرطة وهي تجرّ طلبة يرفعون أعلام فلسطين جزءًا من ذاكرة عالمية جديدة. المفارقة أن المنع أعاد للقضية جاذبيتها الأخلاقية: صار الوقوف إلى جانب فلسطين اليوم إعلانًا للكرامة أكثر منه موقفًا سياسيًا. لحظة 7 أكتوبر جعلت رفع العلم أو ترديد شعار "من النهر إلى البحر" فعلًا سياسيًا مضاعف التأثير.

في موازاة ذلك، بدأ التضامن يأخذ شكلًا سياسيًا أكثر وضوحًا. تشكلت مجموعة الدول التسع/Group of 9 التي تضم دولًا في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، تبنّت مواقف علنية ضد سياسات الاحتلال وقطعت علاقاتها الدبلوماسية أو خفّضتها، ما أعاد فتح النقاش حول مركزية الجنوب العالمي في الصراع. كما نشأت شبكات تشبيكٍ جديدة بين الفلسطينيين وحركاتٍ طلابية أمريكية دفعت حتى ضباطًا سابقين في الجيش الأمريكي إلى انتقاد الدعم العسكري لإسرائيل. في المقابل، ردّت برلمانات غربية بسنّ قوانينٍ تجرّم المقاطعة أو تقيّد حرية التعبير حول فلسطين، ما كشف حجم التحدي الذي تمثّله هذه الموجة الجديدة.

وسط هذا الحراك، يظلّ السؤال الأهم: كيف نحول كل هذا الزخم إلى وعيٍ قابلٍ للتأثير؟ الجواب يبدأ من الاعتراف بأن التضامن العالمي اليوم ليس مجرد تعاطفٍ إنساني، وإنما بنية وعيٍ تتبلور حول العدالة والحرية. على المدى القريب، يمكن لهذا الوعي أن يُترجَم إلى أدوات ضغطٍ حقيقية على الشركات والمؤسسات الإعلامية، تُكثف على المدى المتوسط ضغطًا سياسيًّا متزايدًا داخل البرلمانات والحملات الانتخابية، أما على المدى البعيد فسيُسهم في إعادة تشكيل الرأي العام العالمي حول معنى الاحتلال ومعنى المقاومة.

بعد 7 أكتوبر، يمكننا أن نلاحظ تَحقق مقولة عمنا أحمد فؤاد، بأن فلسطين أصبحت جرحًا إنسانيًا.

يا فلسطين يا جرح الناس

يا مسببة أوجاع الراس

وتضل تسَهّر حراس

هموم القلب ودمع العين

صارت فلسطين جزءًا من الضمير الكوني الجديد كمعيارٍ أخلاقيٍّ لزمنٍ يعاد تعريفه. وربما تكون اللحظة الراهنة بدايةً لعصرٍ تتحول فيه فلسطين من قضيةٍ محليةٍ إلى رمزٍ عالميٍّ للتحرر، من كل أشكال الهيمنة والاستعمار والتمييز. تلك هي مفاتيح الفعل التي تُكمل ما بدأناه: وعيٌ يتجاوز الجغرافيا، وعدالةٌ لا تحتاج إلى وسطاء، وذاكرةٌ تحيا كلما حاولوا محوها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.