تصميم: أحمد بلال، المنصة 2025
طوال كل تلك الأعوام من المتابعة اليومية لكل تفاصيل الحكاية الفلسطينية لم أعرف باسم خندقجي

إلى القاهرة 2000.. جولة مع باسم خندقجي في ذاكرة فتاةٍ فلسطينيةِ الهوى

منشور الخميس 18 كانون الأول/ديسمبر 2025

عندما دخلتُ مكتبة ديوان الزمالك الشهر الماضي كي أحضر حفل توقيع رواية "قناع بلون السماء" للأسير الفلسطيني المحرر باسم خندقجي، انفتح في قلبي بابٌ سحريٌّ أعاد لي ذاكرةَ فتاةٍ مصريةٍ فلسطينيةِ الهوى، كانت تعيش في القاهرة مطلع الألفية، واختزنت الكثير من الخبرات الكثيفة.

حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في خريف عام 2000؛ كان وقتي مُوزَّعًا بين الأنشطة الطلابية في جامعة القاهرة بالجيزة والجامعة الأمريكية في قلب ميدان التحرير. بدأ وعيي يتفتح على الاهتمام بالشأن العام مُعشَّقًا بالشأن الفلسطيني. مظاهرتي الأولى كانت على سلم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية دعمًا لفلسطين. يومها شارك بعض الأساتذة في صلاة الغائب على شهداء انتفاضة الأقصى. أتذكَّر جيدًا هدى جمال عبد الناصر، بقامتها الرشيقة وصوتها المميز، وهي تسحب شالًا من حقيبتها لتُصلي إلى جواري كتفًا بكتف.

كنا آنذاك -طلبة جامعة القاهرة- مبهورين بوزير الخارجية عمرو موسى، الذي يُقارع وزير الخارجية الإسرائيلي بالوكالة شلومو بن عامي بطلاقةٍ وفصاحةٍ وثقةٍ، ويُلهمنا أن بإمكاننا يومًا أن نصبح مثله لنرفع صوت مصر التي تُناصر الحقَّ الفلسطينيَّ لأنه حقٌّ، وتدعم فلسطين لأن ذلك في صُلب المصلحة الوطنية.

لم أجد التسجيل الكامل لتلك المبارزة الكلامية على الإنترنت، إذ كان ذلك قبل عصور السوشيال ميديا والترندات. لكن في مكانٍ ما في منزل عائلتي القديم، هناك شريط فيديو لذلك اللقاء الملحمي الذي كُنا -الطلبة المبهورين بالوزير ذي الكاريزما الأيقونية- نتداوله بين جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية.

بعدها غنَّى شعبان عبد الرحيم في حُبِّ عمرو موسى وكراهية إسرائيل، وقيل إن تلك الأغنية كانت سببًا في الإطاحة به بعد عشر سنوات على رأس الدبلوماسية المصرية، كان لمصر فيها ما كان من صوتٍ وشأنٍ وثقلٍ عربيٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ، قبل أن يضنَّ بمثلهِا الزمان.  

أتنسَّمُ هواءً فلسطينيًا

حصلتُ على بكالوريوس العلوم السياسية عقب انتهاء حصار كنيسة المهد في مايو/أيار 2002 بأسابيع قليلة. كنت أتنسَّمُ أنباء هؤلاء المقاومين -العشرات من مقاتلي فتح وحماس والجهاد ومئات الرهبان الفلسطينيين الذين لا يحملون سلاحًا سوى صلبانهم- وهم متحصنون بمهد المسيح لشهرٍ ونصف الشهر.

كان من ضمن المحاصَرين محافظ بيت لحم ذاته، وبعض أفراد قوى الأمن والمخابرات من السلطة الفلسطينية. أمدُّ الخط على استقامته لأجترَّ مرارة حصار ياسر عرفات في مقر المقاطعة حتى عام 2004، حين اشتدَّ عليه المرض وأخرجته الوساطة الفرنسية من رام الله إلى باريس، ليموت المناضل أبو عمار بعد حصاره وهو رئيس السلطة الفلسطينية مريضًا ومغتربًا، بعد أن رفع كل أغصان الزيتون.

انبهرتُ بهؤلاء المقاومين المحاصرين الثابتين على الحق، وبياسر عرفات صاحب أوسلو وضحيتها، وهو يرفع علامة النصر في خروجه الأخير من أرض فلسطين. استوعب حسِّي السياسي الوليد أن الاستسلام خارج قاموس مفردات هؤلاء.

كان الأمر كذلك خلال الانتفاضة الثانية، كما كان أثناء الانتفاضة الأولى وما قبلها ومنذ النكبة، كما كان في السابع من أكتوبر وما تلاه من رعب. أسمعُ نفس المفردات وأتابع نفس الثبات -الآن في التو واللحظة- حين يختار المقاتلون المحاصرون في أنفاق رفح الموت والشهادة، لا الاستسلام والمذلة. انتهى حصار كنيسة المهد عقب وساطة مكثفة وضغط دولي أسفر عن اتفاق لإخراج المقاتلين من بيت لحم، منتصرين في نظري، وإبعادهم إلى أماكن تفرقت بين غزة والأردن وإيطاليا وإسبانيا ودول أوروبية أخرى.

منذ تلك الأعوام قبل ربع قرن، سكنت فلسطين القلب، وأصبحتُ أنا الفتاةَ المصريةَ فلسطينيةَ الهوى دومًا. ظلَّت القضية الفلسطينية طوال تلك الأعوام جزءًا من حياتي اليومية الشخصية والمهنية. على مدار أكثر من عقدين، شاهدت كل الوثائقيات التي تحكي تفاصيل النكبة والتغريبة والشتات والهزيمة والصبر والمقاومة، بدءًا بسلسلة خمسون عامًا من الصراع العربي الإسرائيلي التي تشبه فصول التقوية في مادة التاريخ، وحتى عالم ليس لنا الذي يأخذنا في رحلة داخل مخيم عين الحلوة ترويها ذاكرة مهدي فليفل منذ أن كان طفلًا يزور عائلته في المخيم كل صيف.

تنساب دموعي في كل مرة أشاهد فيلم باب الشمس للمخرج يسري نصر الله، وأتمتم "من الأول!" مع صرخة يونس بطل الملحمة. أقرأ بنهم كتابات إدوارد سعيد وغسان كنفاني ومريد البرغوثي. أحفظ شعر محمود درويش. أسعدني القدر بلقائه مرة واحدة محفورة في ذاكرتي، في القاهرة عام 2004 حين امتلأت قاعة إيوارت عن آخرها في "أمسية حاشدة" بالحقيقة والخيال والشغف والتغني بالحرية. أتعلَّق بناجي العلي كأنه صديق شخصي، وأقع في غرام حنظلة الذي أجمع له تذكارات بأشكال متنوعة من مختلف المدن؛ القاهرة وعمان والقدس ورام الله.

تصاحبني طنطورية رضوى عاشور في كثير من أسفاري. كنتُ أبتسم دومًا حين أرى رضوى في القاهرة مع حبيب عمرها ورفيق دربها مريد البرغوثي، أتحمس في كل مناسبة تروي قصة حبهما الذي وُلد على سلّم كلية الآداب بجامعة القاهرة. أتماهى مع رواية الحب في المنفى ووصف بهاء طاهر لمذابح صبرا وشاتيلا فتسكن الكوابيس منامي نحو ليالٍ عشر، كأنما كنت قابعةً بين ضحاياها من الأحياء الذين "نجوا" لأنهم اختبأوا بين جثث أحبائهم مدعين الموت.

أقرأ بيروت بيروت لصنع الله إبراهيم فأعيد اكتشاف لبنان، وأفهم أن التضافر ليس بين مصر وفلسطين فحسب، بل إن المصير العربي كله مرتبط بما يحدث في فلسطين. أرتبكُ حين أُدرك عقب رحيل إلياس خوري أن كاتب ملحمة باب الشمس لبناني من مواليد الأشرفية، وليس فلسطينيًا كما ترسَّخ في ذهني.  

تتشابك في ذاكرتي حكايات فلسطين ولبنان ومصر والمشرق العربي مصحوبةً بخلفية موسيقية تمتزج فيها أصوات الشيخ إمام وهو يغني يا فلسطينية، وفيروز وهي تمرُّ بشوارع القدس العتيقة، ومارسيل خليفة وصوته يجسد حنين درويش إلى خبز أمه، وزياد وهو يُخلِّد ذكرى مذبحة تل الزعتر.

أُتابع كل أخبار مروان البرغوثي وقد أصبَحت في صدارة اهتمامي الشخصي، وأنبهر بقيادته لحركة الأسرى في السجون الإسرائيلية وعدم انقطاعه للحظة عن الشأن السياسي الفلسطيني رغم سجنه، فيبقى السياسي الفلسطيني الأكثر شعبية بلا منازع، والقادر على صياغة وثيقة الوفاق الوطني من داخل الزنزانة 28 في سجن هداريم الإسرائيلي.

أعرف الأسير زكريا الزبيدي لأنني شاهدت فيلم أبناء أرنا، وتابعت كيف صار ذلك الصبي الذي كان ممثلًا في فرقة مسرح الحرية قائدًا عسكريًّا لكتائب شهداء الأقصى خلال الانتفاضة الثانية وبعد مذبحة جنين. أُفكر كثيرًا في وليد دقة المنتصر دائمًا على سجانيه، وفي قدرته الفريدة مُبدعًا في فنون الحياة والحب والزواج والإنجاب من داخل الأسر.

لكني طوال كل تلك الأعوام، ورغم المتابعة اليومية التي كنت أظنها شاملة لكل تفاصيل الحكاية الفلسطينية، لم أكن أعرف باسم خندقجي.

وهو يكتب تختفي الزنزانة

عندما التقينا في ديوان قلت لباسم إن أول معرفتي به كانت حين فازت روايته بجائزة البوكر عام 2023. بحثتُ أولًا عن قصته هو، ثم عن نسخة من الرواية. قلت له إنني حين ابتعتها من كشك الثقافة العربية في عمَّان ثم قرأتها في قلب المنطقة الخضراء في بغداد، لم أتخيل أن مثل هذه اللحظة قد تجمعنا بعد سنتين في قلب القاهرة.

سألتُه عن زاويته هو للحكاية، فحكى عن نشاطه السياسي منذ أن كان صبيًا في الخامسة عشرة وعن الانتفاضة الثانية، وعن اعتقاله عام 2004 وهو في العشرين من عمره أثناء سنته الدراسية الأخيرة بجامعة النجاح الوطنية قسم الصحافة والإعلام.

حكى عن "البعد الأبوي" في علاقته بمروان البرغوثي الذي تبنَّاه في الأسر، وحثَّه على إتمام دراسته وعلى المزيد من الدراسة، ثم أشرف على رسالة الماجستير الذي حصل عليها باسم في الدراسات الإسرائيلية أثناء الأسر. حكى عن تأثره الشديد بشعر محمود درويش، الذي بدأ محاولاته الشعرية بسبب تعلقه به، وأنهاها مبكرًا لأنه ليس بوسعه مضاهاة إله الشعر.

تحدثنا عن صنع الله إبراهيم واكتشفنا أن روايته "ذات" هي أول ما قرأهُ كلٌّ منا له. هو في نابلس وأنا في القاهرة. ثم اتخذَّ النقاش منعطفًا فلسفيًا حزينًا عن الفوارق بين "المنفى" و"الغربة"، وقلت له إنني بعد عقد كامل من الغربة، ما زلت أؤمن بأن الوصف الأجمل والأدق والأكثر ألما للغربة هو ما كتبه مريد البرغوثي في منفاه الذي استمر 17 عامًا.

أخبرني عن تعلقه الشديد بالشيخ إمام الذي يسمعه منذ الطفولة، وكان جزءًا من الحياة اليومية لمقاومي فلسطين. وقلت له إن رفيقه نادر صدقة أدهشني وأبهجني وهو يُلقي قصيدة "يعيش أهل بلدي" من داخل مقهى ريش قبل لقائنا هذا بأسابيع. وتمازحنا حول اعتقاد ساد في جيلي بأن "يمَّا مويل الهوى" قصيدة من بنات أفكار أحمد فؤاد نجم، قبل أن نكتشف أنها في الأصل تراثٌ فلسطينيٌّ.

"الفلسطيني المقاوم مثل أي ثائر في العالم، هو شاعر بالضرورة. المقاومة هي مجموعة كلمات"، يقول باسم.

نُقِل باسم من سجن هداريم إلى سجن جلبوع، حيث حوَّل صاحب المؤبّدات الثلاثة الزنزانة 4 إلى "غرفة عمليات ثقافية" يُدير منها مشاريعه الفكرية والأدبية من خلال ورش الكتابة والندوات الثقافية، وطباعة كتبه ورواياته بدعم من أسرته التي تعمل في مجال الثقافة والنشر، بل وتنظيم حفلات التوقيع في نابلس ورام الله، والتي كان ينوب عنه فيها أمه وأخوه.

اتخذ باسم قرارًا واعيًا بأنه لن يكتب عن السجن، "وأنا أكتب، تختفي الزنزانة". أخبرته أن أكثر ما أبهرني هو قدرته على تنظيم أفكاره وخلق بناء متماسك لرواية صعبة جدًا مثل "قناع بلون السماء". حكيت له عن ورشة الكتابة التي انضممت لها مؤخرًا، وعمَّا نسميه "شجرة"، وهي خارطة للكتابة يمسك بها الراوي طوال الوقت لتكون عصاه التي يبني بها نسقًا متماسكًا للرواية.

كيف زرعت أنت تلك الشجرة من داخل زنزانتك/غرفة العمليات الثقافية يا باسم؟ حكى أنه كان ينسخ بخط يده من كل ما يكتب ثلاث نسخ، واحدة يعمل عليها ويراجع شجرته، وثانية "متبيضة"، وثالثة احتياطية تحسُّبًا لما يمكن أن يحدث لأيٍّ من النسختين.

حين كان باسم يَهزم سجّانه كل يوم، وهو يدير غرفة عملياته من زنزانة 4 بسجن جلبوع، الذي يطلقون عليه الخزنة الحديدية، كان زكريا الزبيدي ومحمود العارضة ورفاقهما يحفرون على بعد أمتار قليلة في زنزانة أخرى داخل نفس السجن نفقًا للحرية مستخدمين معلقة.

فماذا تعلمنا من فلسطين؟

تعلَّمْتُ أنا مراجعة ما تيسَّر من أقوال غسان كنفاني كل يوم، وسكنتني نظرته الثاقبة وهو يُفحم الصحفي الغربي المتعجرف، ويُرسِّخ في وجداننا أن الحرية والكرامة قيمتان أغلى من الحياة نفسها.

وربما تعلَّمَتْ ثورة يناير كيف ينكسر حاجز الخوف حين كنا نشاهد مذهولين الطفل الفلسطيني الأعزل يواجه الدبابة الإسرائيلية بجسده العاري وبعض الحجارة. بعد عقد أو أكثر قليلًا؛ شاهدنا الفتى المصري الأعزل يقف وحده متصديًا للمدرعة على مشارف ميدان التحرير.

وحتمًا تعلمت الإنسانية من فلسطين -سيدة الأرض- ما يستحق الحياة حقًا وصدقًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.